عن الما بعديات في السينما .

عن الما بعديات في السينما .
أماني أبورحمة.
قد لا يكون من السهل تحديد السينما الحداثية لأن تطور السينما رافق الحداثة العليا. إذ لم يكن هناك سينما قبل السينما الحداثية، فالسينما في الأصل فن حداثي، وسيط جديد تماماً كما أن الإنترنت ظهر في التسعينيات من القرن الماضي.
وهنا لابد من القول أن الحداثة في الفن تختلف قليلا عن الحداثة في السينما. فالفن الحداثي ينتمي إلى أواخر القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين. وقد ركزت المدارس الحداثية (الوحشية، والرومانسية، والتعبيرية، والرمزية) على الخبرة الذاتية. ولكن الأمر تطور مع الدادائية والسريالية. فبدأ الفن يتخذ خصائص وملامح جديدة تطابقت مع سمات ما بعد الحداثة التي راجت في وقت لاحق وكانت تلك المدارس الفنية تباشير بزوغها الأولي. وقد عرًف قاموس أكسفورد الانجليزي ما بعد الحداثية (Postmodernism) بوصفها" أسلوب ومفهوم في الفنون يتميز بانعدام الثقة في النظريات والإيديولوجيات وعدم الالتفات إلى الاتفاقيات" . وفي الأساس فإن ما بعد الحداثة قامت على رفض العناصر الضخمة التي شكلت الحداثة ورسمت مسارها، وحتى العناصر التي لم ترفضها تماما فقد حيدتها أو همشتها في أحسن الأحوال. ومن المفارقات أن هذه العناصر تحديداً كانت نقطة مغادرة ما بعد الحداثة ذاتها. ولكن الأمر يختلف في السينما عن الفن. ذلك أن الحداثية كانت في نهاياتها مع نهاية عشرينيات القرن الماضي، عندما كانت معظم التجارب والاستكشافات السينمائية في بداياتها. لذلك يمكننا القول أن السينما الحداثية بدأت بعد الحداثية في الفن واستمرت حتى الستينيات وتميزت تلك الأفلام بالذاتية، والشعرية، واستكشاف الغموض. ويعد مايا ده رن، وجان كوكتو، وهاياو ميازاكي، وإنغمار برغمان، ومايكل انجلو انطونيوني، وبيير باولو بازوليني، وفيديريكو فلليني، من رواد الحداثة السينمائية. وفي الوقت ذاته تقريباً بدأت أفلام ما بعد الحداثية بالظهور بوصفها اتجاهاً جديداً.
 في مقالته المحكمة (المخمل الأزرق: تناقضات ما بعد الحداثة) والتي نشرتها (مجلة النظرية، الثقافة، والمجتمع) في مجلدها الخامس عام 1988 ، يحدد نورمان دينزن ثمان خصائص لسينما ما بعد الحداثة متخذاً من الفيلم الأمريكي الشهير المخمل الأزرق (1986) لمخرجه ديفيد لينش(17) المتخصص في التقليد الساخر لأفلام المراهقين من الخمسينات أنموذجاً.
أما خصائص سينما ما بعد الحداثة التي وضعها دينزن فهي:
1.   تمييع الحدود بين الماضي والحاضر. بمعنى أن المشاهد لن يتمكن من تحديد الزمن الذي يحكي عنه الفيلم بأي درجة من الدقة.
2.  تميل أفلام ما بعد الحداثة إلى إبراز علامات الماضي وعرضها بوصفها علامات تفكيك وهدم. وبكلمات دينزن فإنها" تزرع الرعب في الحنين إلى الماضي".
3.    تدفع سينما ما بعد الحداثة حدود الحاضر نحو المستقبل بحيث يصبح اللا واقع واقعا وليس مجرد احتمال.
4.  تعرض أفلام ما بعد الحداثة مالا يقبل العرض (Unpresentable). إذ إنها جعلت من ما كان يعتقد سابقا انه لا يناسب السينما، جزءاً أساسيا في الأفلام.
5.    وظفت سينما ما بعد الحداثة الجنس الوحشي و/ أو العنف وسيلة للتعبير عن الذات والتحرر.
6.  تتعلق هذه النقطة بكيفية عرض صورة المرأة في سينما ما بعد الحداثة. إنها إحدى أمرأتين لا ثالث لهما. فهي إما المرأة الجيدة: الزوجة المحترمة من الطبقة الوسطى، أو السيئة، الساقطة، الشهوانية. ورمزت إلى المرأتين بالمرأة البيضاء والمرأة الحمراء على التوالي.
7.    تتعلق هذه الخاصية بالنوستالجيا. ذلك أن أطلال الماضي قد وظفت لتمثيل"الأمن" أو"اللا- أمن".
8.  أما الخاصية الأخيرة فهي تتعلق بهوامش العنف في الفيلم. إذ تميل أفلام ما بعد الحداثة إلى موضعة أسوأ مخاوفنا في مجتمع الحياة اليومية. بمعنى أن المجرمين يأتون إلينا محملين بالهدايا والابتسامات ويصبحون أصدقاءنا قبل أن يغتالوا حياتنا ويمزقوا عائلاتنا.
ربما كان من المفيد أن نذكر أن دينزن، العالم الاجتماعي، يؤكد في كتابه (صور مجتمع ما بعد الحداثة: النظرية الاجتماعية والسينما المعاصرة، 1991)" أن تخوم ما بعد الحداثة تحدد في سياق بصري..... وأن البحث عن معنى في لحظة ما بعد حداثية يعني دراسة النظر". لذلك فإن دينزن ـ صاحب عدد من المؤلفات التي تحلل الأفلام المعاصرة من أجل تحديد ملامح المجتمع ما بعد الحداثي ـ يقارب في هذا الكتاب النظريات الاجتماعية المختلفة (بودريلار، بارت، دريدا، ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، النسوية..... الخ) ويسقطها على ستة أفلام أمريكية من حقبة الثمانينيات الماضية: المخمل الأزرق (1986)، وولستريت (1987)، وعندما التقي هاري بسالي (1989)، وجنس وأكاذيب وشريط فيديو (1989)، وجرائم وجنح (1989). إنه يوظف السينما من أجل" قراءة الحياة المعاصرة في أمريكا والبحث عن التناقضات ما بعد الحداثية فيها التي تعكس الحياة اليومية في المجتمع وفي الثقافة العامة". في هذا الكتاب أيضا يعطي دينزن تعريفات مختلفة نوعا ما للحداثة وما بعد الحداثة والذات ما بعد الحداثية. وما يعنينا هنا هو تحديده للذات في ما بعد الحداثة. يحدد دينزن ذات ما بعد الحداثة بوساطة ثلاث مصطلحات ثقافية: الطبقة، والنوع الاجتماعي، والعرق. وهو بذلك يسترجع بودريلار الذي يشرح كيف أن ذات ما بعد الحداثة قد أصبحت علامة بحد ذاتها, تفكير مسرحي          مزدوجa double dramaturgical reflection)) . تُشكل التمثيلات الإعلامية أحد جانبيه فيما تشكل الحياة اليومية جانبه الآخر. ويعتقد دينزن أن تلك الذات المزدوجة غالبا ما تختزل إلى مؤشراتها: الطبقة، النوع الاجتماعي، والعرق .
يرى  المخرج المعاصر جيسي ريتشاردز وتياره  الذي يعد من وجهة نظر النقاد انعاطفة بعيدة عن ما بعد الحداثة ،  أن ما بعد الحداثة حاولت تحطيم إرجاء الجمهور لما لا يمكن تصديقه بطريقة منهجية. وأنها شرًحت عناصر السينما أمام الجمهور بوعي وانعكاسية ذاتية. تقترب هذه العبارات من توصيفات المنظرين لأدب ما بعد الحداثة وفنونها بالمجمل والتي تعد، تبعا لهتشيون في كتابها (سياسات ما بعد الحداثية، 1989)، الانعكاسية الذاتية الواعية والمفرطة أحد أهم خصائصها. يركز ريتشاردز هنا على العلاقة بين السينما والجمهور. تلك العلاقة التي تغيرت تغيراً حادأً في التسعينيات بالمقارنة بعشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث كان الهدف هو عرض الأفلام لمشاهدتها وفهمها كما هي أو كما أراد مخرجها. ولكن في التسعينيات أصبحت الأفلام تتحدث عن نفسها، الأمر الذي يًمتع المتفرج حينا ويُقلقه أحيانا. وتبعا لذلك أضحت المشاهدة، كما القراءة، تعتمد على معرفة المشاهد وتجربته الذاتية ومشاركته الفاعلة. ويرى ريتشاردز أن أفلام جان-لوك غودار، وديفيد لينش، وكونتن تارانتينو تعد أمثلة على أفلام ما بعد الحداثة. ولكن المثير من وجهة نظره هو أن غودار ثم لينش قد قدما أفلاما يمكن أن تعد نموذجا لسينما بعد ما بعد الحداثة أيضا. ويرى  أن فليمه الشهير (السلام عليك يا مريم Je vous salue Marie) يمكن النظر إليه بوصفه أنموذجا لكيفية توظيف السينما من أجل عرض الروحانيات، بل أنه يذهب بعيداً حين يقول أن الفيلم يدعو إلى العمل الجاد من اجل خلق نوع جديد من السينما.
الأهم هو أن ريتشاردز في مقالته على موقع مجلة mungbeing)) الالكتروني ، يرى أنه في الوقت الذي بدأت فيه ما بعد الحداثة السينمائية، رافقتها حركة أخرى ركزت على الأصالة العاطفية والروحانيات، كما أن تقديرا جديدا واحتفاء بالذاتية قد ظهر بالتزامن. ويعد ريتشاردز أن مخرجين مثل الروسي أندري تاركوفسكي وروبير بريسون كانا من رواد صناعة مثل هذه الأفلام  في فترة مبكرة جداً. ففيلم المرآة (1974) لتاركوفسكي يعد مثالا رائعا لكشف الوعي الذاتي ليس لمخرجه فحسب بل الوعي الجمعي للبشرية وبالتحديد للشعب الروسي في تلك الفترة.


تعليقات

المشاركات الشائعة