ما بعد الحداثة وأزمة تمثيل التاريخ.

ما بعد الحداثة وأزمة تمثيل التاريخ.
أماني أبو رحمة .
عززت "النزعة اللغوية" في الكتابة التاريخية اعتماد التاريخ على اللغة والسرد مصدرا لأدلته وتواصليته على حد سواء بوصفه قصة. فعلى سبيل المثال، يحلل رولان بارت الخطاب التاريخي التقليدي لتسليط الضوء على الطريقة التي يؤقلم بها التاريخ نفسه، وينتج سردياته بوصفه خطاباً رسمياً من خلال تجاهل حضور التاريخ بوصفه مؤلفاً، وخلق مظهر من الوصول إلى الماضي دون وساطة. يحدد هايدن وايت الاستعارات والوسائل السردية المشتركة بين التاريخ والرواية، وتشاركهما باللغة، ليقول إن خدعة السرد تُقرض الماضي شكل القصة، وتُشَرّب أحداث الماضي "بالتماسك، والوحدة، والامتلاء، والغلق... التي لا يمكن إلا أن تكون وهمية" .  وإذا كانت اللغة والسرد هي "مصادر أخرى" للتاريخ والرواية على حد سواء، وإذا كانت مراجع التاريخ ليست "هناك" تنتظر من يكتشفها ويسجلها، ولكنها تُركب تركيباً بدلاً من ذلك، فإن فكرة أن ذلك السرد التاريخي يمتلك امتياز الوصول إلى الحقيقة قد قوضت تماما. وفي الواقع، فإن السرد التاريخي الذي لم يعد يضمن الوصول غير الإشكالي للماضي، قد انفصل عن الماضي "الذي يُعتقد أنه قد حدث فعلاً ". لم تكن المصادر الإبتدائية مجرد وسائط للماضي ولكنها كانت تفسرها بالفعل، أما السرديات التاريخية، التي بنيت من بقايا تلك النصوص، فقد كانت هي تفسيراتها. لم يعد التاريخ كياناً مستقراً، وأصبح من المؤكد أن هناك واقعاً خارج النص أو سياقاً يمكن فهم الأدب بمقابلته به. كما أنه لم يعد سياقاً مستقراً يمكننا من الحكم على صواب أو خطأ الرواية التاريخية من خلال عرضها عليه. يلاحظ بول هاميلتون في هذا السياق، أن التاريخية الجديدة "تعيد صياغة التاريخ من حيث كونه معركة ضد القص والتخييل ". وفي الواقع، فإن إعادة تشكيل العلاقة بين الخيال والتاريخ التي قام بها المؤرخون الجدد تؤكد أن تاريخية النصوص، وتناصية التاريخ توحي بأن كاتب الرواية يمكن أن يتقاسم دور المؤرخ. تربط مارثا تك روزيه بين نشر أمبرتو إيكو لروايته ( اسم الوردة) (1984) و تأثير مدرسة المؤرخين الجدد النقدية. وتدعي أن "هذا الإبهار هو مزيج من بحث تاريخي كثيف ورواية بوليسية شعبية تدعو قرائها للنظر إلى الرواية التاريخية بوصفها جنساً أدبيا ذا قيمة أكاديمية ووسيلة لإعادة كشف الماضي وتخيله بطرائق غير تقليدية".  يؤكد ايكو في معرض تعليقه على اسم الوردة (1988)، على أهمية البحث التاريخي في بناء عالم مفصل، وخلق شخصيات تنتمي حقا إلى الزمان والمكان. وبشكل أكثر تحديداً، يقول إن الروائي يمكن أن يمثل "الماضي الذي لم تحدثنا عنه كتب التاريخ بوضوح [و] أن يجعل التاريخ، الذي حدث، أكثر فهماً... وأن يحدد في الماضي الأسباب التي قادت إلى ما حدث لاحقاً , وأن يتتبع أيضاً العملية التي من خلالها بدأت تلك الأسباب تنتج آثارها ببطء". يذكرنا ترسيم ما بعد الحداثة لمهمة الروائي التاريخي بما نسبته فيرس لسكوت عند كتابه رواياته. ذلك أن دوره هو إلقاء الضوء على التاريخ، بما في ذلك جعل هذا النمط من التاريخ مفهوماً.

في حين أن ذلك يعني بالنسبة لسكوت تصوير تطور الجدلية الهيغلية أو النشوء الناتج عن صدام الحضارات، إلا أنه يعني لإيكو علم الأنساب الفوكووي أو الأصل الأركيولوجي : عملية تقصي الحقائق التاريخية، وليس عملية التاريخ القصدي purposive history. ما هو جدير بالاهتمام بالنسبة لتناول ايكو لمشروعه بوصفه روائياً تاريخياً ما بعد حداثي، هو أنه ما زال يبرز إلى الواجهة اشتباكه القوي مع الماضي بوصفه حقيقة حدثت ذات يوم، على الرغم من أنها اليوم مجرد آثار منصصة. وبالنسبة لهتشيون التي أطلقت على الرواية لتاريخية ما بعد الحداثية (ما وراء القص التاريخي)، فإن اشتباك ايكو مع الماضي الذي مكنه من إعادة بناء العالم مفصلاً، خاضع بحزم لإبراز عملية البناء والتركيب، وآليات التمثيل.

تعليقات

  1. اذا كان بالامكان افادتنا بالمراجع المستقاة منها هذه المعلومات و شكرا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة