اللغة والذات وما بعد الحداثة .


اللغة والذات وما بعد الحداثة .
أماني أبو رحمة.
ترى ما بعد الحداثة أن اللغة إحدى أهم العوائق نحو معرفة الحقيقة. فاللغة هي وسط المعرفة. ولكنها تبعا لما بعد الحداثة لا يمكنها أن تعبر عن الحقيقة بكفاية، ذلك لأن هناك شرخــًا كبيرًا بين الكلمات والحقائق التي يفترض أن تعكس فحواها. فالكلمات لن تعرض الحقيقة الموضوعية لأنها ـ أي الكلمات ـ أفكار بمعنى أنها اتفاقيات بشرية. وعليه فإننا لن نتمكن من معرفة الحقيقة الموضوعية إذا ما وظفنا هذه الاتفاقيات البشرية. وكل ما يمكننا أن نحصل عليه هو خلق الحقيقة بوساطة الكلمات. وهذا هو جوهر النظرية البنائية constructivism. وذلك يعني أننا لن نتوصل إلى تقارير كونية عامة عن الإنسان، فضلا عن أننا لن نستطيع ان نحدد ما إذا كان هناك شيئا يمكن أن نطلق عليه الطبيعة البشرية.، يقول ما بعد الحداثيين إنه لا يوجد طبيعة بشرية بحد ذاتها. نحن ما نقوله(نحن) عن أنفسنا.
هناك مشكلة أخرى مع اللغة تتمثل في حساسية ما بعد الحداثيين لما أطلق عليه فريدريك نيتشه: " الرغبة في السيطرة ". يمارس الناس السيطرة والسلطة على الآخرين واللغة وسيلتهم في تحقيق ذلك. فمثلا عندما نحدد أدوار الناس ونتحدث عن الله أو ما يأمرنا به فإننا نحدد توقعات ونصمم حدودا، وبذلك فإننا نتحكم بالبشر عبر اللغة. ونتيجة لهذه النظرة إلى اللغة وقدرتها على السيطرة والتحكم، يميل ما بعد الحداثيين إلى التشكيك بكل " السرديات " ويزعمون أن ما يقوله الناس أو ما يكتبونه ليس سوى أداة لضبط الآخرين والتحكم بهم.
نعود مرة أخرى إلى تبعات هذه النظرة على الإنسان. فإذا ما حاولنا أن نحدد الطبيعة البشرية فإننا تبعا لذلك نحاول أن نفرض سيطرتنا على الآخرين. يقول ما بعد الحداثيين إن جعل الإنسان موضوعا ـ بمعنى مادة للدرس والتحليل ـ معناه أن تُخضع ذلك الإنسان. وبكلمات أخرى أن تضعه داخل بوتقة محددة الجوانب والحدود. والنتيجة أن الطبيعة البشرية لا يمكن ان تُحدد. وتبعا لذلك فإن ما بعد الحداثة لا تعترف بما يسمى بالطبيعة البشرية. بل إنها تذهب أبعد من ذلك حين تنفي وجود الذات الفردية.
ومرة أخرى، أجد من المناسب التفصيل في نظرة ما بعد الحداثة إلى الذات الفردية individual self لأنها حجر الزاوية في علم النفس الما بعد حداثي. حدد والتر اندرسون أربعة مصطلحات وظفتها ما بعد الحداثة في تناولها لقضية الذات الفردية وموضوعات التغيير وتعدد الهويات وهي :
1- الذات متعددة العقول multiphrenia : وقد وظف المصطلح أول مرة في العام 1991 في كتاب للبروفسور كينيث غيرغن بعنوان(الذات المشبعة: معضلات الهوية في الحياة المعاصرة). ويشير المصطلح إلى أن إنسان ما بعد الحداثة يواجَه بفيض من الأفكار والأدوار والاتصالات وأنماط الحياة، بحيث إن الجوهر التقليدي لهوية ثابتة للأنا يتحلل باطراد إلى "ذات علائقية". يقول غيرغن: " عندما نحدد حقيقة ما عن أنفسنا، تتداعى من دواخلنا أصوات متعددة مشككة وربما ساخرة أيضا". إننا نلعب أدوارا مختلفة بحيث إن مفهوم الذات الأصيلة بسماتها المعروفة بدأ ينسحب من المشهد .
2- الذات المتلونة protean: تمتلك الذات المتلونة القدرة على التغير باستمرار لتتناسب مع الظروف الحالية. وقد يتضمن ذلك تغيير الآراء السياسية والميول الجنسية والأفكار أو طريقة التعبير عنها، وكذلك تغيير أساليب تنظيم الذات. ينظر البعض إلى هذه الخاصية بوصفها عملية البحث عن الذات الحقيقة. إلا أنها بالنسبة لآخرين دليل آخر على فكرة أنه لا توجد ذات حقيقية ثابتة .
3- الذات غير المتمركزة de-centered self: يركز هذا المصطلح على القناعة القائلة بأنه لا توجد ذات على الإطلاق. ذلك أنها تخضع لإعادة التحديد وللتغير باستمرار وتبعا لذلك فلا يوجد ذات خالدة .
4- الذات ضمن علاقة self-in-relation: وضعت فال بلموود هذا المصطلح للإشارة إلى إجراء المداولات الأخلاقية التي تأخذ على محمل الجد العلاقات مع الآخرين دون أن تخسر ـ حسب زعمهاـ الشخصية الفردية في إشكالية الكلانية. لا يسمح هذا النموذج ـ وفقا لبلموود ـ للمصالح الفردية المتميزة بل والمتضاربة ان تتعايش مع بعضها فحسب وإنما ان تتشارك وتتعالق بطريقة غير تعسفية. تأخذ بلموود بعين الاعتبار السياقات الثقافية التي توجد فيها الذات الفردية .
من كتابي (افق يتباعد: من الحداثة الى بعد ما بعد الحداثة).

تعليقات

المشاركات الشائعة