بين ليوتار وليبوفتسكي: اللذة الفائقة في (هنا والآن).

بين ليوتار وليبوفتسكي: اللذة الفائقة في (هنا والآن).
أماني أبو رحمة.
كان الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار أول من تنبه إلى أن هناك بوادر تغير كامل في الحضارة يحدث أمام أعين معاصريها من دون أن يلحظوا ذلك. في عام 1979، نشر عمله الكبير (حالة ما بعد الحداثة). والفكرة المركزية في الكتاب كانت إصراره على "استنفاد الروايات الكبرى" أو بصيغة أخرى ضاربة "نهاية السرديات الكبرى" التي يمكن تلخيصها في: التحرر التدريجي للعقل والحرية وإثراء الإنسانية بالتقدم العلمي والتكنولوجيا، والخلاص المسيحاني...والأهداف الطائشة لورثة العلوم الفلسفية من عصر التنوير، والماركسيين الذين يعدون الثوار بـ"مساء عظيم" وجميع "المؤمنين غير النادمين ". ولكن، وقبل كل شيء، السرد العلمي الكبير للحداثة الوضعية في القرن التاسع عشر، الذي يؤكد على الاعتقاد بمسيرة  التقدم  الذي لا هوادة فيه من قبل أطياف واسعة في ما بعد الحداثة.
مع ما بعد الحداثة، تعثرت الفكرة الخاصة عن الذات الفاعل المستقل، و"الحيوان العقلاني"، الذي بات ضحية أزمة ثلاثية التضعيف. أولا: أزمة فكرة التقدم، ذلك أن أي تحول كان يتطلب ارتفاع التكاليف البشرية والاجتماعية والبيئية. والبراعة التكنولوجية التي تنتج تجريدا متزايدا من الانسانية، والتبذير، وسوء المعاملة. وثانيا: أزمة العقل غير المسبوقة. فقد تراجعت العقلانية الضيقة والوضعية التي سادت في القرن التاسع عشر، تغيرت المعرفة دون توقف. وتم استبدال المظاهر العقلانية بالتفسيرات الغامضة الباطنية واللجوء إلى السحر والاستبصار. وأخيرا، نأتي الى أزمة الثقة ؛ ثقة الشخص. بعد نيتشه وماركس، وفرويد - "سادة الشك" وفقا لبول ريكور - أصبح الانسان على علم بأن ما نقوله ونفعله يلبي مصالح أخرى غير تلك المذكورة رسميا. فوراء الكلمات الكبيرة مثل "الحضارة" و"الإنسانية" تختفي المشاريع الجديدة من الهيمنة - "الإنسانية الغائبة" للأعمال الخيرية على سبيل المثال.
عصر باطل وسريع الزوال.
الميزة الرئيسية لمفهوم ما بعد الحداثة هي أنها أعلنت أن المجتمعات الغربية قد دخلت في عملية تغيير جذري في الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية المنظمة: انهيار العقلانية وإفلاس الأيديولوجيات الكبرى، ولكن أيضا نهاية العصر الصناعي المثمر، وصعود النزعة الفردية والاستهلاك الشامل، وتدهور المعايير المرجعية والتأديبية، والسخط من الأهواء السياسية والتشدد.
ناقش الفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي هذه الظاهرة في كتابيه (عصر الفراغ: مقالات في الفردانية المعاصرة،1983) وفي (إمبراطورية الأزياء:ارتداء الديمقراطية الحديثة،1987). ووفقا لليبوفتسكي، يتميز المجتمع ما بعد الحداثي بالنيوفردية neo-individualism التي لا تطلب الا اللذة والاستمتاع والتي أطلق عليها اسم "الثورة الفردية الثانية". وتتلخص ملامحها الرئيسية في التخارج من المجال العام، وفقدان معنى المؤسسات الاجتماعية والسياسية الكبيرة، وانحلال الذاكرة الجماعية، والعاطفة المتزايدة نحو التكنولوجيات الجديدة، والنسبية الأخلاقية، وتفاقم النرجسية - التي ندد بها أيضا ندد كريستوفر لاش في (ثقافة النرجسية،1991). وبالنسبة لليبوفتسكي فإن هذه الفردية للجماهير المناهضة للسلطوية هي "فرصة ديمقراطية."
خواء ما بعد الحداثة.

يمكن للمرء أن يحدد ما بعد الحداثة باعتبارها فترة انتقالية. وصف جورجيو لوكي(1982 ) هذا الخواء بأنه فترة من الانتظار يتأرجح مصيرنا فيها بين خيارين: إما استكمال انتصار مفهوم المساواة في العالم، و "نهاية التاريخ"، أو الترويج لتجديد التاريخانية. وهكذا، يرى ليبوفتسكي أننا منذ 11 سبتمبر 2001 وقعنا في( أزمنة الحداثة الفائقة،2004)التي تميزت بها الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العظمى، المفرطة الاستهلاك، والفائقة النرجسية. (هنا والآن ) هو السائد. وانتصار الاستجابات الفورية instantaneity يعني نهاية رؤى التقدميين، ولكنها أيضا هزيمة أي موقف مبدع. الحاضر الممتع هو الفائز ولا شيئ غيره.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة