الحداثة المتذبذبة

مصطلحات بعد ما بعد حداثية
الحداثة المتذبذبة
أماني أبو رحمة
منذ نهايات التسعينيات الماضية كان هناك شعورا عارما على المستوى الأكاديمي والشعبي بأن ما بعد الحداثة قد أصبحت جزءا من الماضي. ومنذ ذلك الحين بدأت محاولات لتعريف الحقبة التالية , إلا أن أيا من المصطلحات التي وضعت لم يحظ بقبول أكاديمي أو شعبي واسع النطاق .
ومن أهم المناهج التي حاولت التعامل مع هذه التغيير هو ما يمكن أن نسميه "النهج الرائد." فالعلماء والنقاد الذين يتبعون هذا النهج قد أدركوا أن ما بعد الحداثة أصبحت قديمة منذ وقت، وحل محلها نهج فني جديد في مقاربة العالم. يتحرك هؤلاء النقاد نحو تخوم مجهولة في الأساس ، ويتنافسون بنشاط لإعطاء هذه الأرض اسماً جديداً. وهكذا نجد الآن ، بالإضافة إلى المصطلح الأخرق " بعد ما بعد الحداثة " تسميات مثل الحداثة الآليةautomodernity والحداثة المغايرة altermodernism والحداثة الكونية cosmodernism والحداثة الرقمية digimodernismوالحداثة الفائقة hypermodernity والحداثة المتذبذبة metamodernism" وما بعد الالفية post-millenialism, و الحداثة السوبر supermodernism ومصطلح الأدائية performatism.
تعد الحداثة المتذبذبة "metamodernism"، واحدة من أفضل هذه النظريات في الحقل الثقافي . والحداثة المتذبذبة هي مصطلح ابتدعه الهولنديان الشابان روبن فان آخر وفيرمولين تيم ونشرا بحثهما الخاص بالمصطلح في المجلد الثاني لمجلة(الجماليات والثقافة) الصادر عام 2010 بعنوان (ملاحظات على الحداثية المتذبذبة Notes on metamodernism).
يحدد الكاتبان الحداثة المتذبذبة بأنها:
"التذبذب المستمر، وإعادة التموضع الثابت بين المواقف والعقليات التي تعيد ذكرى الحداثة وما بعد الحداثة ولكنها توحي في نهاية المطاف بإحساس آخر ليس أيا منهما: إحساس يتفاوض بين التوق إلى الحقائق الكونية من جهة، و ( ) النسبية السياسية من جهة أخرى، بين الأمل والشك والإخلاص والسخرية، والمعرفة والسذاجة والبناء والتفكيك. "
يسمح هذا المجاز "التذبذب" لآخر وفيرمولين بالتفكير ببعد ما بعد الحداثة بوصفها نوعا من التوليف بين الحداثة وما بعد الحداثة التي يمكن تطبيقها على أي حالة تقريبا أو عمل فني. و ليس من قبيل المصادفة أن واضعي المصطلح يقنعوننا من خلال الأمثلة ، بتوسيع مفهوم التذبذب باستمرار . فعلى سبيل المثال، في مدونتهما التي تحمل عنوان المصطلح نفسه يفسر تيم فيرمولين عملا فنيا لأنابيل دو بمصطلحات التذبذب بين الجديد والقديم.
يتكون العمل الفني من تلفزيون قديم الطراز يقدم تسجيلا لشخص يسأل " على أي جانب أنت ؟" وأناس يجيبون عن هذا السؤال. تحمل بعض الأجوبة جدية ، وبعضها تهكما . والمحصلة هي خبرة كلانية عما يعنيه اختيارك لموقف معين ( الأمر الذي قوضته ما بعد الحداثة أو جعلته مستحيلا). وهكذا فإننا نختبر إمكانية "الحداثة" (الجدية) وإمكانية ما بعد الحداثة (التهكم ) من منظور أعلى، مختلف تماما عن كل من الحداثة وما بعد الحداثة ولكنه يحتويهما على حد سواء.
ولا تشير الحداثية المتذبذبة إلى نظام فكري بعينه، أو إلى بُنى شعورية خاصة. ولكنها تستنتج فيضاً من الأنظمة والأفكار والمشاعر، وتعيد موضعة نفسها مع / وبين هذه الثيمات. إنها فيض ولكنها كثيرة وواحدة في الوقت نفسه، مجزأة وشاملة، الآن ولاحقاً، هنا ولكنها هناك أيضاً. إن وصفنا وتفسيرنا للحداثية المتذبذبة يتضمن كونها مقالية وليست علمية، جذرمارية (rhizomatic) وليست خطية، مفتوحة على كل الاحتمالات وليست مغلقة. ولا بد تبعا لذلك من قراءتها بوصفها موضوعا للنقاش بدلا من كونها امتداد للدوغمائية.
يتساءل الكاتبان في دراستهما عن ماذا نعني عندما نقول إنه قد تم التخلي عن ما بعد الحداثة لصالح الحداثة المتذبذبة ؟ ويجيبان:" لقد أصبح من الشائع أن نبدأ نقاشاتنا عن ما بعد الحداثة بالتأكيد على انه لم يعد هناك شيء أسمه (ما بعد الحداثة). إذ أن ما بعد الحداثة كانت وقبل كل شيء مجرد مصطلح شائع للتعريف بتعددية الاتجاهات المتناقضة، ووفرة الحساسيات غير المتماسكة. وبالفعل، فإن التباشير الأولى لما بعد الحداثة، كانت على يد تشارلز جينكس، وجان فرنسوا ليوتار، وفريدريك جيمسون، وإيهاب حسن، حيث قام كل واحد منهم بتحليل ظاهرة ثقافية مختلفة هي على التوالي: التحول في المشهد المادي، وانعدام الثقة ثم ما ترتب عليه من هجر للسرديات الكبرى، وظهور الرأسمالية المتأخرة، وتلاشى التاريخية((historicism وانحسار التأثير، والنظام الجديد الفن. ومع ذلك، فإن كل هذه الظواهر تتشارك في معارضتها لأسس الحداثة الممثلة في اليوتوبيا، والتقدم الخطي، والسرديات الكبرى، والعقل، والوظيفية، والصفائية الشكلانية...... الخ. تلك المواقف التي يلخصها خوسيه دي مول بين تهكم ما بعد الحداثة (الذي يشتمل على العدمية، والسخرية، والتشكيك ثم تفكيك السرديات الكبرى، والحقيقة) وحماسة الحداثة (التي تشتمل على اليوتوبيا والإيمان غير المشروط بالعقل)". ولا يرغب الكاتبان في القول أن كل اتجاهات ما بعد الحداثة قد انتهت، ولكنها يعتقدان أن كثيرا منها قد اتخذ شكلا آخر، والأهم، إحساسا ومعنى واتجاهاً جديدا. يوضح الكاتبان أن الحداثة المتذبذبة تتحرك لأجل التحرك. وتحاول، على الرغم من توقعها الفشل الذي لا مفر منه. إنها تسعى إلى الحقيقة، وهي تعلم أنها لن تعثر عليها أبدا. وتبعا لذلك فإن إبستمولوجيا الحداثة المتذبذبة التي تلخصها عبارة (كما لو أن) ووجوديتها التي يشرحها ببساطة الظرف (بين) ينبغي أن تدرك بوصفها ديناميكية (كلاهما ـ ولا هذا ولا ذاك both-neither). ويلخص الكاتبان فكرتهما المفضلة عن التذبذب والتأرجح بالقول: إن الحداثة المتذبذبة هي الحداثة وما بعدها معا كما أنها ليست أي واحدة منهما على الإطلاق. ولعل أنسب وصف لهذه الديناميكية مصطلح (metaxis). فالمصطلح metataxis)) (motajy) يترجم ''بين''.
ويعد الكاتبان الشابان من أنشط رواد بعد ما بعد الحداثة النظرية ويحاولان التحشيد لمفهومها بتوظيف كافة الوسائل المتاحة منها موقعهما على الانترنت ومدونة تحمل اسم المصطلح.وبفضل هذا التحشيد صاغ الكاتبان وأنصار المصطلح ما أطلقوا عليه بيان الحداثة المتذبذبة والذي نورده هنا في محاولة لتوضيح المصطلح:
بيان الحداثة المتذبذبة
1- نعترف بالتذبذب بوصفه النظام الطبيعي للعالم .
2- يجب أن نحرر أنفسنا من الجمود الناجم عن قرن من سذاجة الايدولوجيا الحداثية ، والنفاق الساخر لطفلها اللقيط ( بعد ما بعد الحداثة) الذي يشبهها تماما .
3- يجب من الآن فصاعدا تمكين الحركة بطريقة التذبذب بين موقفين ، وبين الأفكار التي تقع على طرفي نقيض من بعضها البعض مثل أقطاب الآلة الكهربائية النابضة التي تحث العالم على الفعل .
4- نعترف بالحدود المتأصلة في كل التحركات والخبرات ، وعدم جدوى أي محاولة لتجاوز تلك الحدود . ولكن عدم الكمال الجوهري للنظام سيتطلب التزاما ، ليس من أجل تحقيق نهاية معينة أو أن نكون عبيدا لمساره . ولكن بدلا من ذلك ، العمل على إلقاء نظرة خاطفة على خواصه الخارجية وحوافه . سيغتني الوجود لو ركزنا مهمتنا حول التفكير بـ (ماذا لو ) كان بإمكاننا تجاوز تلك الحدود , هذا العمل الذي سيكشف لنا العالم .
5- كل الأشياء ستسقط حتما في فخ حالة من الانحدار نحو النفاق والازدواجية في حدودها القصوى . والإبداع الفني يتوقف على خلق أو افشاء الاختلاف بين الحالات . والتأثير في أوجه هو اختبار الاختلاف في حد ذاته دون وسيط . يجب أن يكون دور الفن هو استكشاف دليل طموحه المفارق عن طريق الانغماس االمتملق بالوجود.
6- الحاضر هو عرض لولادة توأم من الفورية والتقادم . تمكننا التكنولوجيا الحديثة من تشريع الأحداث من تعدد المواقف وتجربتها في وقت واحد . و بعيدا عن إشارات زوال التاريخ ، فان هذه الشبكات الناشئة تسهل دمقرطته ، وإلقاء الضوء على مسارات تفرع سردياته الكبرى هنا والآن.
7.وكما أن العلم يناضل من أجل الأناقة الشعرية، فان على الفنانين السعي من أجل الحقيقة. جميع المعلومات هو أساس للمعرفة، سواء التجريبية أو الحكيمة، بغض النظر عن القيمة الحقيقة لها. وعلينا أن نتقبل التوليفة العلمية الشعرية والسذاجة المستنيرة للواقعية السحرية. الخطأ يولد الشعور.
8- ندعو إلى رومانسية عملية دون عوائق المرافئ الأيديولوجية. وهكذا، فان الحداثة المتذبذبة تحدد بوصفها حالة زئبقية تقع بين ، وفوق ، ووراء آفاق متباينة وبعيدة المنال. يجب أن نذهب إليها ونتذبذب بينها !

تعليقات

المشاركات الشائعة