التاريخ والراوية: استحضار الماضي بين الحقيقة والتخيل.
التاريخ والراوية: استحضار الماضي بين الحقيقة والتخيل.
أماني أبو رحمة.
ـ "إن الامر يبدو كما لو أن التاريخ استيقظ في القرن التاسع عشر مفجوعا ومتفاجئاً ليرى كم أنه مقترن ووثيق الصلة بالرواية، فسعى لتوسيع الفرق بينه وبينها في داخله أولا، في محاولة لئلا يُبتلع من ذلك الآخر"ل يندا اور.
وهكذا - في سبيل الهروب من ارتباطه بالرواية- عزز التاريخ نفسه بوصفه فرعاً علمياً منفصلاً ووثق سلطته بوصفها صيغة معرفية. وحتى إذا نظرنا إلى التاريخ بوصفه الخطاب السلطوي، نجد أنه، - للمفارقة- الأكثر عرضة للخطر مقارنة بالرواية؛ فهو دائما تحت تهديد سلطة الرواية العدوانية والغريبة . فالرواية هي التي تمتلك السلطة الوجدانية والعاطفية الأكبر، والمنفصلة عن البحث العلمي الدقيق الذي حاول التاريخ أن يكتسبه وتبعاً لذلك فهي الأقدر على تضليل قرائها. وتعد الروايات التاريخية المساحة الأوسع لظهور هذه المخاوف من الرواية، التي تطالب دائماً بمراعاة الحقيقة التاريخية على حساب الحريات. توصف الرواية التاريخية عادة بوصفها مزيجاً من مكوناتها بـ : التاريخ والرواية . تلاحظ فيريس أنه "في حين إن الأجناس الأدبية الهجينة جميعا تشكل ما أطلق عليه ميخائيل باختين "انتهاكات الحدود"، فإن الرواية التاريخية على وجه الخصوص تنتهك حدوداً حساسة . ويلفت التهجين النظر إلى حالتها الاشكالية، وهكذا فإن محاولات تحديد الرواية التاريخية يسلط الضوء على صعوبة تحديد كل من الرواية والتاريخ. ولكن هذه الإشكالية انعكست في مناقشات الروايات التاريخية ونادراً ما مست تحديد الجنس الأدبي. وبالنسبة لأفروم فليشمان، الذي وضع واحدة من أوائل الدراسات المنهجية للجنس الأدبي، فإن الأسئلة المركزية لتحديد الرواية التاريخية هي كم من الوقت يجب أن يمر قبل أن نعد حدثا أو شخصاً "تاريخيا" (ستون عاما) وما هو نوع الأحداث التي يمكن أن تكون "تاريخية" (الحرب والسياسة و التغيرات الاقتصادية) .
إنه يعترف بأن القراء يطلبون أيضاً معرفة الحقيقة حتى لو كان لأجل أن يمتدحوا أو يذموا على أساس من الـ "دقة"، أو التسجيل الصادق لحقائق مفترضة . وفي رأي فليشمان، فإن التاريخ، بوصفه مكاناً قابلاً للمعرفة، متاح للتمثيل في الرواية في هذه الحالة. التاريخ هو العنصر الرسمي من ذلك المزيج (الرواية والتاريخ)، الواقع الذي لا بد أن تعكسه الرواية بصدق وأمانة.
تضع معظم الدراسات التي تتناول الجنس الأدبي الرواية التاريخية متخلخلة في الكتابة التاريخية historiography وليس قي الرواية. وهكذا فإن الروائيين التاريخيين التقليديين تطفلوا على حقل موجود بالفعل بوصفه خطاباً رسمياً، بقطع النظر عن حجم الأجزاء المختلف عليها في هذا الخطاب . وتصف فيريس التمييز بين الرواية التاريخية والتاريخ بمصطلحات سلطة الجنس الأدبي والاتفاقيات الأدبية بحيث إن الرواية التي تهدف إلى الـ "تسلية"، تأتي في المرتبة الثانية بعد التاريخ الذي يهدف إلى الحقيقة . و تقول إن روايات السير والتر سكوت التاريخية تنتظم حول الإذعان للتاريخ (على الرغم من أن هذا الإذعان قد تقوضه في كثير من الأحيان عناصر السرد الأخرى) مؤسسةً لعلاقة "عرضية تماسية "بين التاريخ و الرواية التاريخية بدلاً من "العلاقة التشابكية". عملت مخيلة سكوت الفاعلة على سد الثغرات التي خلفها السجل التاريخي، بدلاً من أن تحل محله . وفي هذا السياق أيضاً، ناقش جورج لوكاش وإليزابيث ويسلنغ ظهور روايات وافيرلي للسير والتر سكوت بوصفها مكملة للتاريخ الرسمي. تقول ويسلنغ "قبيل الاحتراف في التاريخ في القرن التاسع عشر فإن مهمة التقصي التاريخي قد قسمت إلى قسمين؛ وكان لكل قسم هيئاته الخاصة : الآثاريون الذين يجمعون ويديرون المواد الأرشيفية، والمؤرخون الذين يبتكرون الروايات التي من شأنها أن تكون مثيرة للاهتمام ومسلية بما فيه الكفاية للحفاظ على التاريخ الذي يكتشفه الآثاريون" . وبذلك يمكن للمؤرخ أن يضمن عددا من الكلمات أو يضيف تفاصيل معينة لجعل السرد أكثر اكتمالاً وأكثر إرضاء، لأنه - كما رأينا- من المفترض أن ينطوي عمله على شيء من البلاغة والخيال. تقول ويسلنغ إن الرواية التاريخية قد احتلت المكان الذي تركه أولئك المؤرخون عندما اعتمدوا المنهجيات العلمية وأعادوا لحمة دور البحث والكتابة التي سبق أن فصلت. وكانت مهمة الروائي التاريخي، كما تصورها سكوت وأقرانه هي إرشاد القارئ عن العادات والتقاليد الماضية بطريقة مسلية . وإذا كان عمل سكوت هو تكميل الكتابة التاريخية الرسمية، من خلال أضافه اللون مثلاً، إلا أنه يفعل ذلك على وفق شروط التاريخ الرسمي نفسه، من خلال استنساخ المصالح وبؤر الاهتمام ذاتها. يحدد سكوت ويتماهى مع نموذج من التاريخ مؤسساً على مركزية الأحداث السياسية، والرجال العظماء وأفعالهم. ومن المثير للاهتمام، أن هذا التركيز على السياسة والأحداث العظيمة في التاريخ قد استُنسِخ في نقد الرواية التاريخية التي وضعت كتابات سكوت في مركز الجنس الأدبي. وضع وايت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية أحداثاً محورية في فصل التخصصات العلمية : الفلسفة، والتاريخ والأدب والعلوم. يستشهد لوكاش، في تناوله المؤثر للجنس الأدبي، بالضجة التي أحدثتها الثورة الفرنسية والحروب النابليونية من أجل التحريض على الرواية التاريخية كما يموضعها مع رواية السير والتر سكوت. ويرى لوكاش، أيضاً، أن تلك الأحداث تؤسس لمفهوم جديد للتاريخ، موفرة للناس "إمكانيات ملموسة لفهم وجودهم بأنفسهم بوصفه مشروط تاريخياً، ولأن يروا التاريخ بوصفه ذلك الشيء الذي يؤثر عميقاً في حياتهم اليومية ويهمهم على نحو مباشرة ".
دفع تسارع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي بشرت بها الثورة الفرنسية وحروب نابليون إلى محاولات جديدة لفهم "الرجل العادي" وكيف يتأثر بالصدام بين الحضارات.
من كتابي ( التاريخ والذاكرة الثقافية في رواية الفكتورية الجديدة صور تلوية فكتورية). كيت ميتشل ،تر: أماني أبو رحمة . نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق ، 2015.
أماني أبو رحمة.
ـ "إن الامر يبدو كما لو أن التاريخ استيقظ في القرن التاسع عشر مفجوعا ومتفاجئاً ليرى كم أنه مقترن ووثيق الصلة بالرواية، فسعى لتوسيع الفرق بينه وبينها في داخله أولا، في محاولة لئلا يُبتلع من ذلك الآخر"ل يندا اور.
وهكذا - في سبيل الهروب من ارتباطه بالرواية- عزز التاريخ نفسه بوصفه فرعاً علمياً منفصلاً ووثق سلطته بوصفها صيغة معرفية. وحتى إذا نظرنا إلى التاريخ بوصفه الخطاب السلطوي، نجد أنه، - للمفارقة- الأكثر عرضة للخطر مقارنة بالرواية؛ فهو دائما تحت تهديد سلطة الرواية العدوانية والغريبة . فالرواية هي التي تمتلك السلطة الوجدانية والعاطفية الأكبر، والمنفصلة عن البحث العلمي الدقيق الذي حاول التاريخ أن يكتسبه وتبعاً لذلك فهي الأقدر على تضليل قرائها. وتعد الروايات التاريخية المساحة الأوسع لظهور هذه المخاوف من الرواية، التي تطالب دائماً بمراعاة الحقيقة التاريخية على حساب الحريات. توصف الرواية التاريخية عادة بوصفها مزيجاً من مكوناتها بـ : التاريخ والرواية . تلاحظ فيريس أنه "في حين إن الأجناس الأدبية الهجينة جميعا تشكل ما أطلق عليه ميخائيل باختين "انتهاكات الحدود"، فإن الرواية التاريخية على وجه الخصوص تنتهك حدوداً حساسة . ويلفت التهجين النظر إلى حالتها الاشكالية، وهكذا فإن محاولات تحديد الرواية التاريخية يسلط الضوء على صعوبة تحديد كل من الرواية والتاريخ. ولكن هذه الإشكالية انعكست في مناقشات الروايات التاريخية ونادراً ما مست تحديد الجنس الأدبي. وبالنسبة لأفروم فليشمان، الذي وضع واحدة من أوائل الدراسات المنهجية للجنس الأدبي، فإن الأسئلة المركزية لتحديد الرواية التاريخية هي كم من الوقت يجب أن يمر قبل أن نعد حدثا أو شخصاً "تاريخيا" (ستون عاما) وما هو نوع الأحداث التي يمكن أن تكون "تاريخية" (الحرب والسياسة و التغيرات الاقتصادية) .
إنه يعترف بأن القراء يطلبون أيضاً معرفة الحقيقة حتى لو كان لأجل أن يمتدحوا أو يذموا على أساس من الـ "دقة"، أو التسجيل الصادق لحقائق مفترضة . وفي رأي فليشمان، فإن التاريخ، بوصفه مكاناً قابلاً للمعرفة، متاح للتمثيل في الرواية في هذه الحالة. التاريخ هو العنصر الرسمي من ذلك المزيج (الرواية والتاريخ)، الواقع الذي لا بد أن تعكسه الرواية بصدق وأمانة.
تضع معظم الدراسات التي تتناول الجنس الأدبي الرواية التاريخية متخلخلة في الكتابة التاريخية historiography وليس قي الرواية. وهكذا فإن الروائيين التاريخيين التقليديين تطفلوا على حقل موجود بالفعل بوصفه خطاباً رسمياً، بقطع النظر عن حجم الأجزاء المختلف عليها في هذا الخطاب . وتصف فيريس التمييز بين الرواية التاريخية والتاريخ بمصطلحات سلطة الجنس الأدبي والاتفاقيات الأدبية بحيث إن الرواية التي تهدف إلى الـ "تسلية"، تأتي في المرتبة الثانية بعد التاريخ الذي يهدف إلى الحقيقة . و تقول إن روايات السير والتر سكوت التاريخية تنتظم حول الإذعان للتاريخ (على الرغم من أن هذا الإذعان قد تقوضه في كثير من الأحيان عناصر السرد الأخرى) مؤسسةً لعلاقة "عرضية تماسية "بين التاريخ و الرواية التاريخية بدلاً من "العلاقة التشابكية". عملت مخيلة سكوت الفاعلة على سد الثغرات التي خلفها السجل التاريخي، بدلاً من أن تحل محله . وفي هذا السياق أيضاً، ناقش جورج لوكاش وإليزابيث ويسلنغ ظهور روايات وافيرلي للسير والتر سكوت بوصفها مكملة للتاريخ الرسمي. تقول ويسلنغ "قبيل الاحتراف في التاريخ في القرن التاسع عشر فإن مهمة التقصي التاريخي قد قسمت إلى قسمين؛ وكان لكل قسم هيئاته الخاصة : الآثاريون الذين يجمعون ويديرون المواد الأرشيفية، والمؤرخون الذين يبتكرون الروايات التي من شأنها أن تكون مثيرة للاهتمام ومسلية بما فيه الكفاية للحفاظ على التاريخ الذي يكتشفه الآثاريون" . وبذلك يمكن للمؤرخ أن يضمن عددا من الكلمات أو يضيف تفاصيل معينة لجعل السرد أكثر اكتمالاً وأكثر إرضاء، لأنه - كما رأينا- من المفترض أن ينطوي عمله على شيء من البلاغة والخيال. تقول ويسلنغ إن الرواية التاريخية قد احتلت المكان الذي تركه أولئك المؤرخون عندما اعتمدوا المنهجيات العلمية وأعادوا لحمة دور البحث والكتابة التي سبق أن فصلت. وكانت مهمة الروائي التاريخي، كما تصورها سكوت وأقرانه هي إرشاد القارئ عن العادات والتقاليد الماضية بطريقة مسلية . وإذا كان عمل سكوت هو تكميل الكتابة التاريخية الرسمية، من خلال أضافه اللون مثلاً، إلا أنه يفعل ذلك على وفق شروط التاريخ الرسمي نفسه، من خلال استنساخ المصالح وبؤر الاهتمام ذاتها. يحدد سكوت ويتماهى مع نموذج من التاريخ مؤسساً على مركزية الأحداث السياسية، والرجال العظماء وأفعالهم. ومن المثير للاهتمام، أن هذا التركيز على السياسة والأحداث العظيمة في التاريخ قد استُنسِخ في نقد الرواية التاريخية التي وضعت كتابات سكوت في مركز الجنس الأدبي. وضع وايت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية أحداثاً محورية في فصل التخصصات العلمية : الفلسفة، والتاريخ والأدب والعلوم. يستشهد لوكاش، في تناوله المؤثر للجنس الأدبي، بالضجة التي أحدثتها الثورة الفرنسية والحروب النابليونية من أجل التحريض على الرواية التاريخية كما يموضعها مع رواية السير والتر سكوت. ويرى لوكاش، أيضاً، أن تلك الأحداث تؤسس لمفهوم جديد للتاريخ، موفرة للناس "إمكانيات ملموسة لفهم وجودهم بأنفسهم بوصفه مشروط تاريخياً، ولأن يروا التاريخ بوصفه ذلك الشيء الذي يؤثر عميقاً في حياتهم اليومية ويهمهم على نحو مباشرة ".
دفع تسارع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي بشرت بها الثورة الفرنسية وحروب نابليون إلى محاولات جديدة لفهم "الرجل العادي" وكيف يتأثر بالصدام بين الحضارات.
من كتابي ( التاريخ والذاكرة الثقافية في رواية الفكتورية الجديدة صور تلوية فكتورية). كيت ميتشل ،تر: أماني أبو رحمة . نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق ، 2015.
تعليقات
إرسال تعليق