الرواية التاريخية وما بعد الحداثة.
الرواية التاريخية وما بعد الحداثة.
أماني أبو رحمة.
يعد كتاب (شعرية
ما بعد الحداثة ) لليندا هتشيون الطرح الأكثر تأثيراً للرواية التاريخية في تجليها
الخاص أواخر القرن العشرين. أبرزت هتشيون في تناولها لما رواء القص التاريخي مشكلة
التمثيل، معتبرة أن ما وراء القص التاريخي يدحض سلطة التاريخ من خلال تحدي
"الافتراضات الضمنية للبيانات التاريخية: الموضوعية، والحياد، واللاشخصانية،
وشفافية التمثيل ". أدى هذا الطعن إلى تآكل "أرضية الثقة التي يقوم
عليها التمثيل والسرد"، على الرغم من أنها تقول إن ما وراء القص التاريخي (التأريخ)
قد كتب أولاً، ثم أفسد تلك الأرضية. وبالنسبة لما وراء القص التاريخي فإن المراجع
المشتركة من التاريخ والقص لن تكون أبداً خارج واقعية أو حقيقة النص، بل أنها نصوص
أخرى فقط. لا يمكن أن يعرف التاريخ إلا من خلال آثاره، والتي هي دائما مؤدلجة
ومرمزة باستطراد "مفسرة بالفعل". وبمعنى ما فإن السؤال بالنسبة لما وراء
القص التاريخي والتأريخ ما بعد الحداثي لا يزال هو نفسه بالنسبة للرواية التاريخية
التقليدية والتأريخ في القرن التاسع عشر: "إن الماضي موجود بالفعل والسؤال
هو: كيف يمكن لنا أن نعرف الماضي اليوم – وما الذي يمكننا أن نعرفه عنه ؟"
ولكن الاختلاف
البارز هو أن التأريخ والرواية التاريخية في القرن التاسع عشر كانت معززة بالثقة
أن الماضي يمكن أن يعرف، إلا أن هذا التأكيد قد تلاشى في ما وراء القص التاريخي و
التأريخ ما بعد الحداثي. وفي الواقع فقد وضعت هتشيون ما وراء القص التاريخي في
علاقة خلافية مع الرواية التاريخية التقليدية, حين قالت " إنها تمشكل كل شيء
في الرواية التاريخية التقليدية الذي كان لا يقبل الشك أو المساءلة ". فضلاً
عن أنها تزعزع المفاهيم الواردة من الرواية والتاريخ على حد سواء ". ولا بد
من القول إنها تزعزعهما معا ولكنها لا تقضي عليهما " ذلك أنها ترفض تعويض
خسارة أي منهما، أو انحلاله، إلا أنها مستعدة تماما لاستغلالهما ".
وهذا بالتحديد
هو النمط البنيوي المميز لما وراء القص التاريخي الذي صاغته هتشيون: الكتابة غير
الجدلية ومن ثم الإنقلاب على المبادئ التأسيسية التي تسعى إلى مساءلتها.
يُبرز ما وراء
القص التاريخي اشكالية تمثيل التاريخ والمفارقة، خلافاً للرواية التاريخية التقليدية
التي تبرز الانحلال والكمال. ويوحي مصطلح ما وراء القص التاريخي بالتركيز على
إنتاج النصوص, والطريقة التي تبني بها المعنى. وبفضل انعكاسيتها الذاتية المفرطة,
كما تقول هتشيون، فإن روايات ما وراء القص التاريخي، أكثر اهتماما باستكشاف الكيفية
التي يبنى بها الماضي من خلال النصوص، من انخراطها في "استعادة" أو
"إحياء" التاريخ .
يتضح اهتمام
الرواية التاريخية المعاصرة بقضية اشكالية التمثيل على حساب صورة التاريخ، في
كتابات كتاب آخرين وظفوا صيغة هتشيون. الأمر الذي حدا بوستلغ إلى القول في معرض
مناقشتها لرواية ما بعد الحداثة التاريخية، إن "الكُتاب في ما بعد الحداثة لا
يرون أن مهمتهم نشر المعرفة التاريخية، ولكن التحقيق في طبيعة المعرفة التاريخية وإمكانيتها
وتوظيفها ،من منظور ابستمولوجي أو سياسي ".
أثبت تناول
هتشيون دقته وصحته في فهم تلك النصوص التي تبرز مشكلة التمثيل، والتلاعب التهكمي
التي تقوض حتى محاولاتها الذاتية في تصوير الماضي، إلا أنها قاصرة عن فهم النصوص
التي تتحاشى تلك الصيغة، أو التي تجمع بين هذه الصيغة و مجموعة من المواقف الأخرى
تجاه الماضي، بدءا من المسافة الساخرة إلى التماهي الوجداني.
فعلى
سبيل المثال نجد أن روايات سارة ووترز الفيكتورية الزائفة تعكس الطريقة التي شيد
بها التاريخ، ولكن ذلك متضمن في الرواية بوصفه اهتماما ثيمياً، بل إن الروايات أكثر
جدية وتعاطفاً من كونها ساخرة أو مفارقة في تمثيلها للماضي الفيكتوري. وكما يقول
برايان ماكهيل أن هتشيون ـ في جعلها لهذا الجنس الأدبي ممثلا لنظرتها الى ما بعد
الحداثة بوصفها نقدية ومتواطئة ـــ
قد فشلت في تناول الأصداء الفريدة لكل نص على حده :" ما يدهش المرء آجلاً أو
عاجلاً هو مقدار التشابه في قراءاتها ( يقصد هتشيون)، فهل يمكن أن تعني كل هذه
الروايات المعنى نفسه.
تعليقات
إرسال تعليق