فوكو : كيف تُنتج السلطة الأفراد.

كيف تُنتج السلطة الأفراد.
أماني أبو رحمة.
في (المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن،1977)، يستعرض فوكو الطرق التي مورست من خلالها السلطة في مراحل مختلفة من التاريخ الأوروبي، ويبين كيف تم استبدال نظام السلطة الملكي بالديمقراطي. يوظف فوكو بطريقة معبرة صور المعاقبة (بوصفها مظهر التغيير): ففي حين كان الاعدام أمام الجمهور رمز السلطة الملكية، فإن رمز السلطة الديمقراطية هو التأديب والسجن بعيدا عن أعين العامة.
معنى هذا التغيير في كيفية معاقبة الخارجين عن القانون هو تغيير في تيارات السلطة التي تعمل في المجتمع: كان الإعدام العلني هو الرمز الخارجي للسلطة الملكية والذي يوظف من أعلى إلى أسفل (الملك الذي يرمز لقوة الأمة)، واستبداله بالوسائل الديمقراطية من العقاب، مثل السجن، يقول أن السلطة الآن تمارسها الأمة كلها. يقابل فوكو هاتين الطريقتين لممارسة السلطة، ويساعدنا على فهم الاختلافات:
"هذه الآلية الجديدة للسلطة تعتمد على الاجسام وماذا تفعل، أكثر من اعتمادها على الأرض ومنتجاتها. إنها آلية للسلطة تسمح باستخلاص الوقت والعمل، بدلا من الثروة والسلع، من الأجساد . وهو نوع من السلطة التي تُمارس باستمرار عن طريق المراقبة بدلا من الطريقة المتقطعة لنظام الضرائب أو الالتزامات الموزعة على الوقت. انه يقتضي ضمنا وجود شبكة متماسكة بإحكام من الإكراه المادي بدلا من الوجود المادي للسيادة".
إنها تعتمد في نهاية المطاف على المبدأ الذي يدخل اقتصادا جديدا للسلطة ، وهو أنه يجب أن يكون المرء قادرا ـــ في الوقت نفسه وعلى حد سواء ــــ على زيادة القوى الخاضعة وتحسين قوة وفعالية تلك التي تُخضعها . يدرس المفكر الفرنسي كيف أن الانضباط/التأديب، بوصفه نوعا من التنظيم الذاتي ـ يجري تتشجيعه من المؤسسات، ويصبح هو القاعدة في المجتمعات الحديثة، ويعمل بالنسبة للفرد كأداة لتغيير الواقع ونفسه: "يجب أن نتوقف مرة واحدة وإلى الأبد عن وصف آثار السلطة بمصطلحات السلبية: إنها "تقصي "، إنها "تقمع"، إنها "تراقب"، إنها "تستخلص"، إنها "تُقنّع"، إنها "تُخفي". في الواقع، فإن السلطة تنتج. تنتج الحقيقة. وتنتج مجالات الأشخاص وطقوس الحقيقة. توظف المؤسسات مختلف أنواع إنفاذ وتعزيز السلطة، مع آليات وتقنيات محددة: يبين فوكو كيف أن المستشفى، والعيادة، والسجن والجامعة تتقاسم بعض هذه التقنيات والممارسات التأديبية.

الانضباط هو قلق السيطرة الذي جرى تذويته عند كل فرد، اذ يشير إلى العلامات التوجيهية الزمنية، والموقف والوظائف الجسدية ، وتسامي الرغبات والعواطف التلقائية. كل هذه هي آثار الضغط الانضباطي ، ولكن أيضا الإجراءات التي، من خلال الضغط المفروض في البداية خارجيا، تؤدي إلى لانضباط الذاتي للفرد وفي نهاية المطاف إلى إنتاج الفرد نفسه كشخص منضبط. الميزة الأكثر أهمية في أطروحة فوكو هو الـتأكيد على الطبيعة الإنتاجية لممارسة السلطة الحديثة. لقد كان الهدف الرئيسي هو قلب المفهوم السلبي للسلطة رأسا على عقب ومنح سمة إنتاج المفاهيم والأفكار وهياكل المؤسسات إلى دورة وممارسة السلطة في أشكالها الحديثة.
بالنسبة لفوكو ، فإن الانضباط هو عبارة عن مجموعة من الاستراتيجيات والإجراءات والسلوكيات المرتبطة بسياقات مؤسسية معينة والتي تسيطر بعد ذلك على التفكير العام للفرد وعلى سلوكه.
يعمل الانضباط من خلال أربع طرق محددة :
أولا، من خلال الاحلال المكاني المحدد للأفراد والذي عادة ما يتم تحقيقة بالسجن. يفصل السجين عن زملائه قبل أن يسجن في غرفة معزولة (الفكرة ذاتها تصلح للمرضى في العيادات النفسية). ويمكن الحصول على هذا التوزيع المكاني في المجتمع بوسائل أخرى أيضا، مثل فصل الأفراد إلى مجموعات غير متجانسة (على سبيل المثال، فصل الطلاب عن العمال)، ووضع الأفراد والآلات في غرف منفصلة، كما في التخطيط المعماري للمصنع، أو من خلال العلاقات الهرمية (يعيش الجنود والضباط في غرف منفصلة). وبتعرضهم لمثل هذه المعاملات ، فإن الأفراد يتعين عليهم "معرفة مكانهم" في سياق الاقتصاد العام للمكان المرتبط بالسلطة التأديبية. ثانيا، يعمل الانضباط من خلال مراقبة الأنشطة. تميل السلطة التأديبية الى استخدام جسم الفرد للحصول على "الوقت والعمل"، بدلا من "الثروة والبضائع". الوقت "المستخرج" من الجسم من خلال رقابة صارمة على أنشطته، بمساعدة من الجدول اليومي الدقيق، وعن طريق ضبط تحركاته ضمن سلسلة من المراحل الزمنية، ومن خلال الربط بين المواقف والحركات الجسدية أو من خلال مزامنة حركة الجسم مع حركة كائن أو شيئ (كما هو الحال مع السلاح في التدريب العسكري ).
ثالثا، الانضباط  المتمثل في تنظيم مراحل التعليم، ولا سيما في الممارسات التربوية. تطور السلطة التأديبية شفرة عامة للعلاقات بين السيد والخاضع في المناطق التعليمية المختلفة، التي تُرمز قطاعات التدريس في مراحل تراتبية، كل مرحلة أكثر تعقيدا وصعوبة من السابقة. وهذا يسمح بالرصد الفعال للتقدم في اكتساب القدرات المطلوبة، ويسمح أيضا بالتمايز بين الأفراد الذين هي أكثر أو أقل مهارة.
رابعا، الانضباط نتيجة التنسيق العام بين جميع أجزاء النظام: يتم دمج الإجراءات التعليمية فيما يتعلق بجسم الفرد بآلية أكبر، والسلسلة  الزمنية هي أيضا جزء من هذه الآلية، كما أن هناك مجموعة دقيقة من الأوامر. ولإنشاء هذا التنسيق، يوظف الانضباط ما يسميه فوكو "التكتيكات" التي من خلالها "يتم زيادة انتاج مختلف القوى من خلال تجميعها المحسوب". 
والقصد من وراء هذه الأساليب هو انتاج ترتيب وانتظام. ولكن يبين فوكو أن التأثير هو عكس ذلك تماما: بناء الذات الفردية من خلال الانضباط الداخلي يؤدي إلى هويات مختلفة. فالفردانية ابتكار حداثي ، فضلا عن الادعاء الذي يفترض انه سينشأ؛ إن المجتمع يقر الفردية والاختلاف. وهذا أثر غير مقصود بل وحتى غير مرغوب فيه من المشروع التأديبي الأولي . يقول فوكو: "إن الفرد لا ينبغي تصوره بوصفه نواة ابتدائية، أو ذرة بدائية، أو مادة متعددة وخاملة جاءت السلطة لربطها قبل أن تتظاهر ضدها، وبذلك تهزم أو تسحق الأفراد. في الواقع، فان أحد الآثار الرئيسية للسلطة هو أن بعض الاجساد، وبعض الإيماءات، وبعض الخطابات، وبعض الرغبات، تحدد وتشكل كأفراد. الفرد، ليس مقابل السلطة ؛ هو، على ما أعتقد، واحد من آثارها الرئيسية ".

تعليقات

المشاركات الشائعة