الماركسية والتحليل النفسي.

الماركسية والتحليل النفسي.
أماني أبو رحمة.
يرتبط التحليل النفسي (وخصوصا الفرويدي) والماركسية بعلاقة معقدة للغاية. هناك العديد من المحاولات التي حاولت ربط الماركسية والتحليل النفسي. يشير إرنستو لاكلو، على سبيل المثال، في نصه القصير (التحليل النفسي والماركسية،1987) إلى أن الطريقة الوحيدة للتفكير في العلاقة بين التحليل النفسي والماركسية هي من خلال ما أطلق عليه تيمنا بهايدغر، "تقويض/تفكيكdestruction"" تاريخ الماركسية، وهو ما يعني تجاوز المفاهيم الكلاسيكية مثل "الطبقة"، و"رأس المال "،..الخ. وبالنسبة للاكلو فإن ما بعد الماركسية هي المجال السياسي الذي يمكن أن يتعايش، أوبتعبير أدق، يتقاطع مع التحليل النفسي. ووفقاً للاكلو، فإن الحوار بين التخصصين ممكن فقط في ظل هذا الشرط.
النقطة الثانية هنا، والتي انتقدت بالفعل من قبل سلافوي جيجك، تتعلق بمحاولة العثور على نقاط التقاطع والمكملات بين التحليل النفسي والماركسية. واحدة من الطرق الأكثر شيوعا لفهم هذه العلاقة هو فهم التحليل النفسي بوصفه مكملا للماركسية. والمثال الكلاسيكي في هذه الحالة، هو الوضع الذي تكون فيه "الظروف الموضوعية" للثورة موجودة، ولكن الثورة لا تحدث.
عادة، فإنه من المتوقع أن يوفر التحليل النفسي تفسيرا منطقيا لهذا الفشل. أو أن هذا المنطق يعني أن أياً من التحليل النفسي والماركسية لا يمكن الدفاع عنه بحد ذاته، ذلك أن كلا التخصصين في أزمة هيكلية وغير قادر على الاستجابة للتطورات الجديدة في مجتمعاتنا، ولذلك فإن هناك دائما حاجة لمساعدة تخصص آخر.
يرفض السلوفيني آغون هامزا، المتخصص في ماركس والدراسات الماركسية، في دراسة بعنوان (التوسير ولاكان : الجدلية المادية مقابل الاسمانية) والمنشورة في العدد الأول من مجلة (النظرية والفكر القاري)* الحالتين أعلاه، ويبدأ من هذه الفرضية: ليس هناك توافق مسبق بين فرويد وماركس، ولا بين لاكان وألتوسير. لا يمكن للمرء أن يقرأ "صنمي" ماركس وفرويد بوصفهما المفهوم ذاته أو مفهوما تكميليا. فائض القيمة ليس فائض المتعة على الإطلاق. كما أن مجرد العثور على عبارات متشابهة عند لاكان وماركس لا يمكن أن يكون بمثابة دعم حجة ما، كفيلسوف قال ذات مرة أن كل شيء يشبه كل شيء آخر بطريقة أو بأُخرى... ولكن هذا لا يعني شيئا بكل ببساطة.
ولذلك ينبغي ــــــ يقترح آغون هامزا ــــــ وضع ديالكتيك أكثر دقة للعمل من أجل التوفيق بين كل من فرويد ولاكان من جهة مع ماركس من جهة اخرى ثم بين ماركس وهيغل. وهذا يعني أيضا أنه لا يوجد شيء من قبيل " الجانب الماركسي "عند لاكان كما رأينا في الحلقة الدراسية السابعة عشر للاكان والتي أتت على ذكر الثلاثي فرويد وهيغل وماركس بشكل مفرط. ذلك أن هيكلة التحليل النفسي والماركسية مختلفة.
لا يمكن أن نتخيل أن يثور المُتحلِل على المحلل النفسي كما يفعل العمال في المصانع. ومن غير الممكن والمعقول أن يقوم المُتحلِلون بتنظيم نقابة أو حزب مثلما تفعل البروليتاريا. ليس هناك صلة طبيعية بين التخصصين. ذلك أن الهدف من التحليل النفسي هو اللاوعي، في حين أن هدف الماركسية هو الصراع الطبقي. وبهذا المعنى، يبدو من الصعب إلى حد ما تصور الصراع الطبقي في مجال اللاوعي.
هذا هو خطأ ويلهلم رايش، يقول آغون هامزا، الذي حاول موضعة آثار اللاوعي (فرويد) مع آثار الصراع الطبقي (ماركس). لا عجب اذا بالنسبة له، أن يرتبط التحرر الجنسي أيضا مع الثورة البروليتارية، وأن يرى أن تحقيقها الفعلي كان في الثورة ما بعد البلشفية. بالنسبة للينين، وكذلك لألتوسير (على الرغم من أن يمكن للمرء العودة إلى ماركس هنا)، فإن الصراع الطبقي موجود في ثلاث مجالات: الاقتصادي والسياسي والنظري.
يقدم تود مكجوان في كتابه (التمتع بما لا نمتلكه: المشروع السياسي للتحليل النفسي، 2013) عرضا ممتازا للخلافات بين فرويد وماركس، يقول:
"ما يميز ماركس وفرويد بوصفهما مفكرين هو فهمهما للتناقضات الاجتماعية؛ يرى فرويد أن العداء يتجلى في المعاناة المفرطة للشخص بصورة فردية، ويرى ماركس أنه يلعب في الخارج ؛ في النضال الطبقي."
ومن هذا المنطلق يهدف مكجوان إلى صياغة نظرية السياسية من تحليل النفسي، تقوم على مفهوم فرويد لدافع الموت. ويرى أن عدم القدرة على التفكير في/ ودمج دافع الموت في مشروعها، يمثل القصور الأساسي في الماركسية. يقول مكجوان في الكتاب ذاته: "إن سياسة التحليل النفسي بعد الماركسية هي مشروع تحرري على أساس متعة التضحية بالنفس التي تقع في دافع الموت. الماركسية قادرة على التنظير للتضحية عند الضرورة من أجل المتعة في المستقبل، لكنها غير قادرة على تصور التضحية كغاية في حد ذاتها، باعتبارها مصدرا للمتعة."
تهتم الماركسية بالصراع الطبقي، وبأن تتمكن الطبقة العاملة من سلطة الدولة. وبعبارة أخرى، تهدف الماركسية لفهم آثار الصراع الطبقي. من ناحية أخرى، يبدأ التحليل النفسي من / ويساوره القلق بشأن الأفراد (المُتحلِلين) ومعاناتهم. ولكن، هل أن الماركسية والتحليل النفسي تأسستا فعلاً على مثل هذين الموقفين المتعارضين كما يميل العديد إلى التفكير؟
 في عام 1976 كتب ألتوسير واحدا من أهم مقالاته (عن فرويد وماركس) ولكن، وكما يحدث في كثير من الأحيان، فإنه زال منسيا إلى حد كبير، إن لم يكن مقموعاً من جانب كل من اللاكانيين والألتوسيريين على حد سواء. نُشرت المقالة في (مجلة الاقتصاد والثقافة والمجتمع ) ربيع عام 1991. يقول ألتوسير : "مثل ماركس، قدم لنا فرويد مثالا للفكر في المادية الجدلية". وبالنسبة لألتوسير، فإن فرويد مادي فعلاً لأنه يرفض أولوية الوعي، في حين أن توظيف فئات النزوح، والتحديد الفائق، والتكثيف وهلم جرا، تنتمي إلى مجال الجدلية. ولكن، هناك بعدا آخر لهذا الموضوع أكثر أهمية بكثير من تحديد الحقل الذي يمكن أن تتقاطع وتتعايش فيه الماركسية مع التحليل النفسي. وفقا لألتوسير، فإن الماركسية والتحليل النفسي الفرويدي تتشاركان سمتين هامتين: أ) إن كليهما من العلوم الصراعية، وب) إن الخصم في نهاية المطاف ليس هجوما خارجيا، ولكنة التحريفية revisionism. يقول ألتوسير في مقالة بعنوان(عن فرويد وماركس: اعادة التفكير في الماركسية) نشرت في مجلة الاقتصاد والثقافة والمجتمع،1991 :
"بل أن حقيقة التجربة هو أن النظرية الفرويدية نظرية صراعية منذ نشأتها، وهذه الظاهرة لم تتوقف عن إعادة إنتاج نفسها، مما أثار ليس فقط المقاومة القوية، ولا الهجمات والانتقادات فحسب، بل ما هو أكثر إثارة للاهتمام، محاولات الضم والمراجعة. أقول إن محاولات الضم والمراجعة أكثر إثارة للاهتمام من الهجمات البسيطة والانتقادات، لأنها دلالة على أن نظرية فرويد تتضمن، باعتراف خصومها، شيئاً حقيقيا وخطيراً. إذ لو كان لا شيء صحيحا، فليس هناك ما يدعو إلى الضم أو المراجعة. هناك شيء صحيح عند فرويد يجب الاستيلاء عليه، ولكن لا بد من مراجعة معناه أولا. لهذه الحقيقة هو خطير : يجب أن يكون منقحا من أجل أن يصبح محايدا, هناك جدلية لا هوادة فيها في هذ الدورة. ذلك أن ما هو لافت للنظر في جدلية المقاومةـــ المراجعة النقدية criticismrevision هو أن هذه الظاهرة التي تبدأ خارج النظرية الفرويدية ( من خصومها) دائما ما تنتهي بها. داخليا فإن نظرية فرويد ملزمة بالدفاع عن نفسها ضد محاولات الضم والمراجعة؛ ولكن الخصم دائما ينتهي باختراق ذلك وإنتاج التحريفية التي تثير الهجمات المضادة الداخلية، وأخيرا (الانشقاقات). وبوصفها علما من العلوم المتصارعة، فإن نظرية فرويد هي أيضا علم الانشقاقات. وقد تميز تاريخها من قبل بالانشقاقات المتكررة باستمرار والشيء نفسه ينطبق على الماركسية، أيضا."
بالنسبة لألتوسير، فإن النظرية الماركسية و الفرويدية، يجب أن تحميا نفسيهما من نفسيهما ؛ من انحرافاتهما الداخلية. يعتقد التوسير أن التمزق كان متأصلا في نظرية التحليل النفسي، وكذلك الحال في الماركسية. كلاهما يتموضع في الميدان ذاته الذي يعترفان به متناقضا. وهذا هو السبب في أن ألتوسير يرى أن بعض الممارسات بحاجة إلى مفاهيم من مثل هذه الممارسات، من أجل الدفاع عن نفسها ضد التحريفية، والإنتهازية، وهلم جرا.
من المفيد هنا أن نعود إلى الآن باديو. في نظريته عن الذات التي ضمنها كتابه (نظرية الذات،1982)، يشير باديو إلى "خراف المادية السوداء"، حيث يقول إن الماركسيين يجب أن يتجاوزوا المثالية اللغوية التي وضعت بعد "المادية الخطابية" للاكان، وفوكو، وألتوسير وغيرها, ووفقا لباديو، فإن النظرية المادية عن الذات هي التي سوف تقسم المثالية اللغوية إلى جانبيها المثالي والمادي. مما يعني الانفتاح على تجديد الماركسية مرة ثانية.
من هنا، يجب أن نَشْرع في الثنائية المعقدة: العلاقة بين ألتوسير ولاكان المثيرة للجدل، والتي بالتأكيد لم توضح بمصطلحات التداخلات والتأثيرات الفلسفية، فضلا عن تشكيل المفكرين استنادا إلى كتابات أخرى. حتى الآن، فإن النقاش الأكثر إنتاجا بين اللاكانيين والألتوسيريين حول مفهوم لاستجواب (الاستدماج) كان بين ملادن دولار وسلافوي جيجك من جهة، وروبرت فالر وآخرين من جهة أخرى [ ملادن دولار( ما وراء الاستجواب). سلافوي جيجك( كائن الايديولوجيا السامي، 1989)، سلافوي جيجك(النضال الطبقي أو ما بعد الحداثية؟ نعم، من فضلك ). سلافوي جيجيك، ارنستو لاكلاو، وجوديث بتلر في الكتاب المشترك ( الطوارئ، والهيمنة، والعالمية: الحوارات المعاصرة عن اليسار). سلافوي جيجك، الإرتداد المطلق: نحو تأسيس جديد للمادية الجدلية المادية). روبرت فالر("النفي ومصداقيته: الشخص الفارغ للإيديولوجيا ). سلافوي جيجك وآخرون( الكوجيتو واللاوعي)].
في ندوة لاكان[(الكتاب العشرون.عن الجنسانية الأنثوية، حدود الحب والمعرفة) والذي حرره جاك آلان ميلر، 1998]، يطرح لاكان نقطة مثيرة للاهتمام، حين يرصف المتوازيات بين ماركس ولينين وفرويد ونفسه، يقول : "ماركس ولينين، وفرويد ولاكان ليسوا مقترنين من حيث الكينونة. ومن خلال الرسالة التي وجدت في الآخرOther فإنهم، بوصفهم كائنات المعرفة، يسيرون معا، في الآخر المفترض." ويجب علينا قراءة ذلك من وجهة نظر التمييز الجدلي بين الشخص المؤسس والشخص الذي يُرّسم (يضفي الطابع الرسمي). يرى جيجيك في العرض الذي قدمه عن الماركسية في كتابه (تكرار لينين،2002)، أن لينين هو من أضفى على ماركس شكل التنظيم الحزبي والتدخل في الوضع التاريخي. وفي التحليل النفسي، كان لاكان أهم من رسّم فرويد. وفي المسيحية، فإن القديس بولس هو من رَسّم المسيح. بهذا المعنى، فإنه يمكن إدخال مستوى جديد، يربط كلا الممارستين. مع ماركسية ألتوسير ونظرية التحليل النفسي للاكان، نحن نتعامل مع علاقة غير قادرة على تجاوز المؤسسين (ماركس، فرويد). فكل إعادة صياغة، و"تصحيح"، وتقدم لا يتم من خلال الرفض، ولكن من خلال "العودة" (لماركس مع ألتوسير ولفرويد مع لاكان). وبالمصطلحات الابستمولوجية، فإن المعرفة في كلتا النظريتين متضاربة بشكل جوهري، بمعنى، أن الأخطاء هي دائما بالفعل جزءا من المعرفة "الحقيقية"، و بعبارة ألتوسير، فإن التحريفية، هي بمعنى ما جزءا تأسيسيا من التخصص.
الماركسية والتحليل النفسي "فريدة من نوعها"، بمعنى أن كلا منها يحدد قيوده، ويعمل من خلالها من أجل فتحها. وفي المستوى الظاهر، ليس هناك شيء من قبيل الأساس الفلسفي للماركسية والتحليل النفسي. فهي موجودة على مستوى نظري وعملي آخر. في الممارسة العملية اللاكانية، فإن نهاية التحليل النفسي، أو حل الدعوة يحدث عندما يتأكد المُتحلِل أن الآخر الكبير (المحلل النفسي) لا يمتلك الحقيقة حول رغبته. وهذا يعني أن رغبة موضوع التحليل لا تمتلك أي ضمانات ولا أساس. إنها موجودة فقط بتصريخ منه نفسه. رغبة موضوع التحليل النفسي، اذا، لا تجد دعما من الآخر وأنه الوحيد الذي يفوضها. وهكذا فإننا نتحول من المستوى المعرفي إلى المستوى الوجودي. أو، بمصطلحات التحليل النفسي، التحول من الرغبة إلى الدافع الذي هو غاية التحليل النفسي. وبالتوازي فان الماركسية تهدف الى تحويل الكائن الذي "تشكله" إلى فاعل ثوري.
يحلم اليسار المعاصر بمجتمع لا وجود فيه للأمراض الاجتماعية والعصاب والذهان. وحيث الجنة الاشتراكية السعيدة التي تتحقق فيها المساواة والرفاه والسعادة للجميع. ولكن، دعونا نستشهد بفرويد:
"سوف تكون قادرا على إقناع نفسك بأنك ستكتسب الكثير إذا نجحت في تحويل بؤسك الهستيري إلى تعاسة مشتركة مع الآخرين. إن أفضل سلاح ضد التعاسة هو الحياة العقلية التي تم ترميمها".
حين نستبدل ثلاثة كلماتــ ــــ يقترح هامزاــــ من اقتباس فرويد حول أهداف التحليل النفسي مع أغراض الشيوعية، نحصل على هذه النتيجة :
 "سوف تكون قادرا على إقناع نفسك بأنك ستكسب الكثير عندما تنجح في تحويل مصادرة العمل إلى تعاسة مشتركة. إن أفضل سلاح ضد التعاسة هو الحياة الاجتماعية التي تم ترميمها بالعدالة".
 وهكذا فإن واحداً من أهم جوانب الشيوعية هو احتواء الإستياء في المجتمع. وعلى هذا النحو فإن الاستياء لن يختفي أبدا، ولكن يمكننا الاستفادة منه لأغراض أكثر إبداعا وتقدما. هنا نصل إلى البعد الحاسم للماركسية وكذلك التحليل النفسي؛ الا وهو الممارسة. هناك أيضا تفصيل غريب يشير إلى إختلاف مثير للاهتمام بين الألتوسريين واللاكانيين. وكما قلنا سابقا، فإن الماركسية، بوصفها نظرية الشيوعية، تهتم بالجماهير والطبقات، في حين أن شخصين فقط يشكلان ممارسة التحليل النفسي. هنا تأتي مفارقة ألتوسير. إذ خلافا للاكان، لم يفكر ألتوسير في تأسيس مدرسته أو توحيد فلسفته ضمن نظام رسمي. هذا هو السبب الذي دفع فرانسوا ماثيرون في دراسته بعنوان (التوسير: عدم نقاء المفهوم) والتي نشرها في كتاب (الرفيق الحاسم للماركسية المعاصرة، 2008 ) إلى القول:" لم يتم حتى الآن تشكيل مجال دراسات ألتوسير." وبوصفه ضد تطوير نظام فلسفي، اختار ألتوسير طريقا آخر؛ التدخل فلسفيا ولا سيما في الملابسات السياسية والإيديولوجية والفلسفية. وبعبارة أخرى، فإن تجديد الماركسية سيكون ذي فائدة للجميع، ولكن لم يتشكل تنظيم من شأنه أن يسمح بهذا، في حين أن التحليل النفسي مهم لفئة قليلة، ولكن تم ترسيمه ليكون متاحا للجميع.

تعليقات

المشاركات الشائعة