مغادرة الرواية التاريخية ما بعد الحداثة : نصوص الذاكرة والصور التلوية


مغادرة الرواية التاريخية ما بعد الحداثة : نصوص الذاكرة والصور التلوية
أماني أبو رحمة
في عام 1918 نحت عزرا باوند مصطلح (فيكتوريانا) بوصفه مصطلحا ازدرائيا لتمييز الماضي الفكتوري: "فيما يخص معظمنا، فإن رائحة فيكتوريانا البائدة كريهة جدا... لدرجة إننا نعمل على ترك هذا الماضي حيث هو". في تناقض صارخ مع ثقة باوند بضرورة تهميش الماضي الفيكتوري في بداية القرن العشرين،  حظيت خصوصيات ذلك العهد باهتمام مطرد منذ منتصف ذلك القرن، حتى وصل الأمر مع نهاياته إلى الانبهار الذي غزا السينما والتلفزيون، وأساليب الديكور الداخلي، والأزياء، والأنساب، والإعلانات، والمتاحف وإعادة التشريعات التاريخية والسياسة والبحث العلمي عن العصر الفيكتوري. وبعيداً عن الرائحة كريهة التي فاحت ثم غادرت بسرعة، فإن ما جرى بالضبط هو التودد للأدب والثقافة في العهد الفيكتوري.
استُدعِي ذلك الأدب عبر العديد من جوانب الثقافة المعاصرة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. تلتقط عبارة " قلت لك إن فيكتوريا قد غزتنا "، تأثيرات سحر الفيكتوريين في أعداد متزايدة من المبدعين الذين أسهموا في استعادة تلك الحقبة في رواياتهم موظفين طيفا واسعا من الاستراتيجيات السردية. بعض الروائيين، مثل أنطونيا سوزان بيات في ( امتلاك : رومانس ) (1990) وغراهام سويفت في( إلى الأبد ) (1992) اللذين دمجا لحظتين تاريخيتين متباعدتين من خلال ابتداع قصتين تقرءان معا، وتمسرحان عملية إعادة بناء الماضي. آخرون، مثل غيل جونز في (أضواء ستون ) (2004) وويليام جيبسون وبروس ستيرلنج في (محرك الفرق) (1991)، اللذين ابتدعا فترة فيكتورية من خلال معلومات القرن العشرين دون مسرحة هذه المعرفة في القصة نفسها. وآخرون، مثل بيريل بينبريدج في (الحاكم جورجي) (1997) وشيري هولمان في (نزيل الرداء) (1999)، يعيدان بناء العالم الفيكتوري من خلال إخماد كل إشارة إلى منظورهما التاريخي.
        من اجل إعادة تركيب الحقبة الفكتورية، اقتبس الروائيون لمحات تاريخية من العصر الفكتوري مثل وباء الكوليرا، وحرب القرم، واختراع التصوير الفوتوغرافي، والعرق الأنجلو فرانكفوني للسيطرة على النيل، والاستعمار واكتشاف الأحافير، وكذلك الاهتمام الفيكتوري بالروحانية، وأزمة الثقة التي ولدها العلم، وطب الأمراض العقلية، وتجربة المدينة الآخذة في الاتساع، وازدهار الاستهلاك. بالإضافة إلى ذلك، اختار بعض الروائيين كتابا فكتوريين، كما فعل بيتر آكرويد مع أوسكار وايلد في (العهد الأخير) عام (1983) وكولم تويبين في رواية ( المعلم) (2004)، والتي تسرد حياة هنري جيمس. فيما أعاد آخرون ابتكار شخصيات روائية فكتورية مثل شخصية جاك ماغس في رواية بيتر كاري (1997) التي تحمل هذا العنوان وتحاول الكشف عن شخصية ماغي ووتش في رواية (توقعات عظمى) لتشارلز ديكنز (1860-1)، ورواية (تيس) لإيما تينانت (1993)، التي تتصور نسباً بين تيس توماس هاردي في الرواية الشهيرة (تيس دوربرويل)1891. أعاد كتاب آخرون كتابة الرواية الفكتورية مثل فاليري مارتن في (ماري رايلي) (1990) التي اعادت الاشتغال بـ (الحالة الغريبة للدكتور جيكل و السيد هايد) (1886) من منظور خادمة، ورواية كارلو فروتيرو وفرانكولوسنتيني (حالة دي :الحقيقة حول لغز ادوين درود) (1989)، التي تحاول فيها شخصيات مباحث روائية مثل شيرلوك هولمز حل لغز رواية تشارلز ديكنز التي لم تنته (لغز ادوين درود). في بعض الأحيان تتخذ إعادة كتابة الرواية الفيكتورية شكل تتمة رواية أو متابعتها أو محاذاة أحداثها إذ يكشف الروائيون أحداثاً أو شخصيات هامشية أو خلفية أو مهمشة، كما هو الحال في( بحر سارجاسو) لجين رايس (1966) التي تكشف الشخصية الظلالية لبيرثا ماسون، والتي كانت مركزية أولا ثم مهمشة في رواية تشارلوت برونتي (جين آير) (1847)، ورواية (أديل ) (2003) لإيما تينانت، التي حولت التركيز السردي في الرواية إلى ابنة روتشستر.
مع تصاعد شعبية هذه الأفكار والتزايد المطرد في عدد الأعمال التي توظف العهد الفكتوري احتفت الأجناس الأدبية جميعها بهذا الجنس الفرعي بدْءاً من مجموعات الروايات البوليسة لآن بيري إلى الخيال العلمي لويليام جيبسون وبروس ستيرلنج، فضلا عن روايات تعد أكثر "أدبية" مثل رواية انطوني سوزان بيات (امتلاك) الحاصلة على البوكر البريطاني وبيتر كيري. ألهمت الحقبة الفكتورية مخيلة كتاب من جنسيات أخرى : مثل توني موريسون الأفرو أمريكية والأسترالي ريتشارد فلاناغان، والكندية هيلين همفريز والمصرية أهداف سويف. تحث الرواية الفيكتورية الجديدة Neo-Victorian Fiction الكتاب والقراء والنقاد على مواجهة مشكلة الذاكرة التاريخية.
تناقش الرواية التاريخية في حالتها الأكثر شكلية ما إذا كان بإمكاننا على نحو لا مفر منه وتحت تأثير لحظتنا التاريخية الخاصة ـمعرفة الماضي، وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن نفعل ذلك من خلال الرواية. وهل تتمكن تلك الروايات من إعادة خلق الماضي بطريقة ذات معنى أو أنهم يلعبون لعبة  (تلبس؟) القرن التاسع عشر ؟ تطرح تلك الروايات وعياً ساطعاً بالاشكاليات المتضمنة في تقصي المعرفة التاريخية وتحقيقها، إلا أنها تبقى ملتزمة بإمكانية السعي وراء تلك المعرفة وقيمتها.  وأشد ما يشغل تلك الروايات هي الطرائق التي يمكن بها للرواية أن تزعم معرفة الماضي، جزئيا ومؤقتا، بدلا من الطرائق التي تزعم عدم إمكانية ذلك. تشكل هذه النقطة خروجاً عن الكثير من أطروحات الرواية التاريخية المعاصرة التي تركز، تبعا لنموذج ما وراء القص التاريخي المؤثر لليندا هتشيون، على قضايا مثل الطرائق التي تمشكل بها تلك الروايات تمثيل الماضي وتبرز إلى الواجهة صعوبات تحقيق المعرفة التاريخية.  تقلب هذه الروايات الهرمية التقليدية للتاريخ والذاكرة، التي تبدو فيها الأخيرة مشاركة في التأريخ وخاضعة له  بوصفه الضابط المصحح للذاكرة غير المعصومة من الخطأ. تعيد موضعة الذاكرة من حيث كونُها تأسيسية. لا أن تظهر من خلال الوسيط التاريخي فقط؛ بل أنها تشكل الخطاب التاريخي ذاته بوصفها مكوناً مهما بل أساسا فيه، فضلا عن أشكال تذكارية أخرى وكتابات وتسجيلات كانت خاصة حين كتبها أصحابها فتحولت الى عامة ، مثل اليوميات، والصور، و الأدب - بحيث أصبحت الذاكرة هي من يحدد ما الذي من الماضي يمكن أن يصبح "التاريخ" كما نعرفه - وعلى نحو ضمني- فإن وسائط التذكر و( وسائط النسيان الانتقائي أيضاً) هي التي تنتج الخيالية التاريخية التي يستقي منها "التاريخ" وليس العكس. وتبعاً لذلك ـ فإن " الرغبة الملحة في المعرفة التاريخية، وفعل التذكر، متفوقان على المعرفة التاريخية ذاتها، ومتميزان منها، بحيث يكون الماضي مفتوحاً دائماً من أجل إعادة تشكيل المستقبل من فعل التذكر. يوفر التخييل  مساحة خصبة لإظهار التحولات المعقدة للذاكرة الشخصية والجماعية المؤقتة الى  ذاكرة ثقافية دائمة،ولكنه أيضا مكان  حيث الاعمال المتخيلة عن الذاكرة   يمكن تسليط الضوء عليها  و"ردم" الفجوات في معرفتنا بالماضي، بحيث أن ما قد يكون قد كان  يصبح جزءا من الوعي الجمعي بما قد كان. 
ترتبط الرواية التاريخية المعاصرة أيضاً بالاهتمام المطّرد بـ 'الوهمية التاريخية" (DeGroot, 2009) التي تسعى إلى تعطيل النهج الهرمي الذي يمنح امتيازات للتاريخ ويهمش الرواية التاريخية.  ظهور خطاب الذاكرة في أواخر القرن العشرين، والاهتمام المتزايد بالتاريخ في الأوساط غير الأكاديمية، يتيح لنا أن نفكر بما أسداه الإسهام الفيكتوري الجديد للطريقة التي نتذكر بها الماضي بوسائل تقاوم تفضيل الخطاب التاريخي غير التخيلي، من ناحية، ومشكلة ما بعد الحداثة للتمثيل من ناحية أخرى. توفر مقاربة الرواية الفيكتورية الجديدة بوصفها (نصوص ذاكرة memory texts) إطارا أوسع لفحص التنوع الهائل في دوافع تورطها مع الماضي وصيغه وتأثيراته ، وخصوصا تلك التي تتحرك أبعد من عاطفة الرفض والنبذ. توفر موضعة روايات الفكتورية الجديدة بوصفها أعمال الذاكرة وسيلة لتقييم استثماراتها في استذكار التاريخية نقدياً بوصفها أفعال الحاضر؛ ووسيلة لمعالجة احتياجات أو مخاطبة رغبات جماعات معينة الآن. تقاوم رواية الفكتورية العائدة التوظيف الشعبي والمقنع أكاديميا لمصطلح "النوستالجيا" بوصفه معارضا للتحقق التاريخي النقدي، وتتجلى هذه المعارضة في اقتراح هتشيون أن الماضي في (إمرأة الضابط الفرنسي) لليوتنانت يتموضع من حيث علاقته بالحاضر دائما نقديا وليس نوستاليجيا ". وفي الواقع فإنها تميز بين النهج ما بعد الحداثي لمقاربة الماضي الذي يعتمد التهكم النقدي  وبين "الاسترداد أو النوستالجيا أو الأحياء". ازدرت ما بعد الحداثة النوستالجيا ، فهي  بالنسبة لهتشيون  رهن أو دين حررت ما بعد الحداثة وما وراء القص التاريخي المميز لها نفسها منه لصالح " المراجعة النقدية والحوارية لأشكال وسياقات وقيم الماضي". هنا يتناقض الموقف الأكثر أصالة من الماضي؛ لأنه نقدي مع النوستالجيا والسذاجة والمحافظة.  يؤكد ديفيد وينثال، أيضاً، أن "الأحلام النوستالجية " الموظفة لاسترجاع الماضي "أصبحت اعتيادية في انتشارها تقريبا، إن لم تكن وبائية " في السنوات الأخيرة. وقد وجد أن التعبير النوستالجي عن "التوعك الحداثي " يمكن أن يطلق عليه اليوم " الشعار الشامل للنظرة إلى الوراء" . لا تسعى هذه "النظرة الى الوراء " الى التورط مع الماضي ولكنها "حريصة، بدلا من ذلك، على جمع قطعه الاثرية والاحتفاء بفضله". وبالمثل، فقد اتهم فريدريك جيمسون ما بعد الحداثة بعدم القدرة على التفكير تاريخياً. يقول" الأسلم لفهم مفهوم ما بعد الحداثة هو محاولة التفكير بالحاضر تاريخيا في عصر قد نسي كيف يفكر تاريخيا في المقام الأول". وعلى وفق جيمسون، يتميز الاتجاه الحالي في العودة الى الوراء باعادة التدوير السريع لأساليب الماضي بوصفها جماليات دون تفهم، أو الاشارة الى السياق التاريخي الواسع النطاق الذي أنتجها. وفي الواقع فإن الرواية التاريخية المعاصرة هي " رواية تاريخية في المظهر فقط. ويبدو أننا مدانون حين نسعى نحو الماضي التاريخي من خلال صور البوب خاصتنا والتنميط حول الماضي، الذي سيبقى بعيداً عن متناولنا  إلى الأبد". يهيكل هذا التقسم الحاد للتورط في الماضي بين النوستالجيا والنقد تناول كريستيان غاتلبن لروايات الفكتورية الجديدة في كتابه (ما بعد الحداثية النوستالجية) (2001). يدور كثير من نقده حول الاحتجاج على النوستالجيا بوصفها مصطلحا سلبيا ومحافظا. ولهذا "وبسبب أن الرواية المعاصرة تحتفي بالتقاليد الفكتورية بدرجة ما، فإنه لا يمكن عَدَّها تخريبية و نقدية جذريا ". علاوة على ذلك، فإن نجاحها في السوق، الناجم عن "استغلال" مشاهير العصر الفيكتوري، تعلمها بوصفها متواطئة ـ وليست محرضة ـ مع ما بعد الحداثة  ومع ذلك، فإنه لا يمكننا تجاهل علاقة حاضرنا المعقدة بالماضي الفيكتوري كما تعلمنا روايات النوستالجيا والفكتورية الجديدة التي تتناول- وان جزئياً - الفن والتفكير النقدي، من خلال تحدي جيمسون نفسه : التفكير بالحاضر تاريخياً . مما لا شك فيه أن بعض النصوص الفردية تتضمن لحظة نوستالجية في محاولتها الوصول إلى الماضي، بمعنى أنها تؤجج المشاعر بوصفها وسيلة نحو الذكريات التاريخية. ومع ذلك فإن هذا لا يحول دون الاشتباك النقدي مع الماضي. وفضلا على ذلك، فإن النوستالجيا قد تكون مثمرة، حين تمنح صوتا لرغبتنا في الذاكرة الثقافية التي تشهد عليها تلك الروايات. وخلال العقدين الماضيين اشتغل العلماء المتخصصون في مجالات مختلفة على فكرة النوستالجيا، ناسبين إليها دورا أكثر ايجابية وإنتاجا في استعادة الماضي، وهو المشروع الذي يبدو مهما، بل وحتى ضروريا، في ثقافة تضاعف السرديات التاريخية في مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام.
  تؤكد روايات الفيكتورية الجديدة أن الفترة الفيكتورية ما زالت قائمة على شكل سلسلة من الصور التلوية afterimages،(الصورة التي تبقى في مجال الرؤية حتى بعد اختفاء الكائن)  لا تزال مرئية، في أشكال متبدلة، على الرغم من ماضويتها غير القابلة للنقض، واختفائها. تجمع الرواية الفكتورية بين الشك المعاصر حول قدرتنا على معرفة الماضي مع شعور قوي بملازمة الماضي للحاضر، بأشكال وتكرارات غير نصية على الأغلب. توسع روايات الفيكتورية الجديدة "التاريخ" إلى ما وراء الوسائل والنصية و التمثيلية، لتشمل الصيغ غير النصية في استرجاع الذاكرة. وتشمل هذه التاريخ الشفوي، والجغرافيات، والخرائط واللوحات والصور الفوتوغرافية والهيئات، التي تنضم إلى اليوميات والرسائل والقصائد والروايات والمحفوظات التاريخية بوصفها وسيلة يمكن من خلالها تذكر جوانب من الماضي، وتكرارها أحياناً. وهكذا، وفي حين يقترح فريدريك هولمز أن "الرواية [التاريخية] تؤكد نجاعة الخيال في تزويدنا بتراكيب مؤقتة نشعر بالماضي من خلالها", إلا أن هناك روايات عديدة تظهر اهتماما أقل بخلق الماضي الفكتوري من عرضه بوصفه ذاكرة ثقافية، حتى يعاد استذكاره وابتكاره إبداعيا وليس فهمه أو تنقيحه. تتذكر الروايات تلك الفترة ولكن ليس بالمعنى المعتاد، أي بمعنى مجرد التذكّر به، ولكن أيضاً بمعنى أنها تعيد تجسيده وإعادة بنائه عضوا عضواً. تعيد روايات الفكتورية الجديدة لملمة الاعضاء المبعثرة من جسد الماضي في النص وبواسطته، وفي مخيلة القارئ أيضاً. وهكذا فإن القراء يجسدون ( يعيدون تركيب ) الماضي المتخيل.  تستغل  رواية غراهام سويفت ( أرض المياه)، الحقبة الفيكتورية لتوضيح الصناعة التقليدية للتاريخ ومفهوم الزخم التاريخي والتصميم بالتبعية في شخصية بطل الرواية الذي يعمل مدرسا للتاريخ، تواجه الرواية أزمة التأريخ في أواخر القرن العشرين، مستكشفة سردية التاريخ وافتراض عدم التيقن بالمعرفة التاريخية. في سرد توم كريك المتعرج، يصبح التاريخ ذاكرة مثل الثورة الفرنسية، والحرب العالمية الثانية، والتاريخ الإقليمي لفنلاند (أرض المستنقعات) بحيث يدرجه ضمن ذكرياته الخاصة. ويصور التاريخ هنا بوصفه مفرطاً، مراوغا للتمثيلات التي تحاول تقييده لدرجة تصبح معها المعرفة الكاملة بعيدة المنال دائماً. وحتى عندما تقوض امكانية المعرفة التاريخية، فإن الرواية مطعمة أيضاً بشعور من التاريخ لا مهرب ولا مفر منه. الفائض جدا من التاريخ تعاد صياغته بوصفه خصوبة، ويحتفى بالرغبة في معرفة الماضي بوصفها ضمانة طالما تستمر القصص بما فيها تلك التي عن الماضي، في أن تقال، وستتواصل صناعة المعاني، حتى لو كانت تلك المعاني مؤقتة وغير كاملة.  في البداية تبدو رواية انطونيا سوزان بيات (امتلاك: رومانسية ). متورطة في التعارض المختزل بين النوستالجيا والتحقيق التاريخي؛ لأنها تقابل الإعجاب بالنوستالجيا التي تتركز حول حيازة آثار ميتة من الماضي، مع نص أدبي بوصفه تحفة متقنة حية ووسط فعال من الماضي. ومع ذلك، فإن علاقتها الخاصة والمعقدة مع الفترة الفكتورية يعقد هذا التمييز الواضح بين النوستالجيا والمعرفة التاريخية. فالفترة الفيكتورية في الرواية هي المكان الطبيعي للقارئ المثالي، الذي تكون علاقته مع النص ليست نوعا من الاستيلاء، وإنما علاقة امتلاك متبادل  تميزه الرغبة بالدرجة الأولى. تؤسس بيات رمز الرومانسية , علاقة المحبين , من أجل ان توضح هذه الصيغة من المعرفة. فـ ( رومانسية ) التي تشكل عنوانا فرعيا لروايتها تشير لا إلى الشؤون الخاصة بين اثنين من الشخصيات المركزية فقط ، بل تشير أيضاً إلى الرومانسية بين النص والقارئ. وهنا تنهار أي معارضة بين النوستالجيا والتحقيق التاريخي. وفي الواقع يجب على القارئ المثالي ان يغرس علاقة عاطفية مع الماضي، وتوق نوستالجي خاص، من أجل أن يكون التحقيق التاريخي منتجاً.  تسمح  روايتا سارة ووترز (انجذاب1999) و(النشال)  بفحص النبض الاسترجاعي في رواية الفكتورية الجديدة. انهما تمثلان الروايات الفكتورية الزائفة faux Victorian fiction; الروايات التي تكتب بالتقليد الفكتوري والتي ترفض الاشارة المرجعية الذاتية الى اختلافها عنها في الصيغة المميزة لما وراء القص التاريخي. وبوصفها أدبا فكتوريا ً Vic Lit، فإن هذه الروايات تحيي التقاليد الروائية الفكتورية، وتستحضر على وجه الخصوص روايات القوطية الفكتورية وروايات الأثارة الحسية، وهما جنسان أدبيان مرتبطان بالأنوثة الآثمة. في هذه الروايات، تتجاوز ووترز التاريخ تماما، بوصفه صيغة ذكورية لا تظهر فيه جينولوجيا الرغبة المثلية. ونجدها بدلا من ذلك، تتكلم بلغة القص الفيكتوري من أجل أن تخترع تقليد المثلية الجنسية النسوية في القرن التاسع عشر، وقد أدرجتها في ذاكرتنا الثقافية عن التقاليد الأدبية الفيكتورية وكأنها كتبت بيد تخييلية مخفية. تختلف  رواية (أضواء ستون) لغيل جونز و(صورة تلوية) لهيلين هيمفريز عن رواية أرض المياه وامتلاك في أن كل الرواية في كل منهما تحتل ذات السطح الزمني : فمثل انجذاب والنشال فإنهما تحددان بالكامل داخل الحقبة الفيكتورية ولا تتأرجح بينها وبين الحاضر المعاصر. و خلافا للروايات السابقة، فإنهما لا تهولان السعي إلى المعرفة التاريخية علمياً عبر التاريخ الأكاديمي أو النقد الأدبي. ويحدد استكشافهما للمعرفة التاريخية على نحو عام، والحقبة الفكتورية على نحو خاص من خلال الذاكرة.  تصوير هذه الروايات للتوق إلى، وتعقب التاريخ يتجسد من خلال استعارة الشوق الى جسد الام المتوفاة.وفي حين أن التاريخ بالنسبة لهتشيون لا يتوافر إلا من خلال آثاره المنصصة , فإن هذه الروايات تقترح أن الماضي متلازم في الحاضر، دون أن يلحظه أحد في كثير من الأحيان، في شكل الذاكرة المجسدة، وذخيرة من الصور الثقافية المشتركة وسلسلة من التكرارت. استكشاف فعالية الكلمات والصور بوصفها تذكارات، أو محاولات للتعويض، فرواية (أضواء ستون ) و( صورة تلوية) تشير إلى أن إعادة خلق الماضي بتوظيف الخيال يمكننا من تجسيده، ويجرنا لتجربته مرة أخرى. هذه التحليلات النصية معا تشير إلى مجموعة من الاستراتيجيات السردية وتنوع الصور الفيكتورية التي تميز تورط روايات الفيكتورية الجديدة بالماضي، وتظهر التزام هذا الجنس الأدبي الفرعي لاستكشاف دوره الخلاق في التذكر التاريخي، بعيدا عن تقانات ما بعد الحداثة وما وراء القص التاريخي.





































تعليقات

المشاركات الشائعة