عن التفكيكية مرة أخرى: التمركز حول اللوغوس، والإرجاء ، ولا شيئ خارج النص(1).

عن التفكيكية مرة أخرى: التمركز حول اللوغوس، والإرجاء ، ولا شيئ خارج النص(1).
أماني أبو رحمة.
تتحدى التفكيكية بطبيعتها مأسسة ( اضفاء الطابع المؤسسي) التعريف الرسمي السلطوي. حدد دريدا المفهوم لأول مرة في كتابه الغراماتولوجي ( علم النحو) حيث يتطرق فيه إلى التفاعل بين اللغة وبناء المعنى. يمكن من هذا العمل المبكر، ثم من أعماله اللاحقة التي حاول فيها أن يشرح التفكيكية للآخرين، وأبرزها رسالة إلى صديق ياباني، أن نقدم تفسيرا أساسيا لما قد تعنيه التفكيكية .
 تتمحور التفكيكية حول ثلاث سمات رئيسية : أولا، الرغبة الكامنة في وجود مركز أو نقطة محورية من أجل تشيد الفهم (logocetrism)؛ وثانيا، اختزال المعنى لضبط تعريفات ملتزمة بالكتابه (لا شيء خارج النص)؛ وأخيرا، كيف أن اختزال المعنى إلى كتابة يلتقط المعارضة(المعاني المتنافسة) داخل المفهوم نفسه (الإرجاء). أوجدت هذه الميزات الثلاث إمكانية التفكيك بوصفه عملية مستمرة في استجواب الأساس المقبول للمعنى. في حين أن المفهوم قد نشأ في البداية في سياق اللغة، الا أنه ينطبق أيضا على دراسة القانون. يعتبر دريدا التفكيكية مَشكلة (مأسسة) القانون والأخلاق والسياسات. بالنسبة له كان "المنظور والرغبة أن اشكالية القانون والعدالة يجب تتوج دراسات الأسلوب التفكيكي". وبالتالي ستكون التفكيكية وسيلة لاستجواب العلاقة بين الاثنين.
ينطلق دريدا من التأكيد على أن الفلسفة الغربية الحديثة تتميز ب / وشيدت حول رغبة كامنة لوضع المعنى في قلب الحضور. وهذا يعني ببساطة، أن الفلسفة تحركها الرغبة في اليقين المرتبط بوجود حقيقة مطلقة، أو معنى موضوعي يمنح مكاننا في العالم معنى ما. أطلق دريدا على هذه الرغبة مصطلح اللوغوسنتريزم أو التمركز حول اللوغوس 'logocentrism ". وتأثيره هو وضع مصطلح واحد محدد أو مفهوم، مثل العدالة، في وسط كل الجهود الرامية إلى التنظير أو استجواب المعنى. يصبح المصطلح هو البؤرة التي يشيد حولها المعنى، والنقطة المرجعية التي تحدد كل معرفة لاحقة. يسلط دريدا الضوء على كيف أن التمركز حول اللوغوس يفترض وجود مجموعة معان مستقرة موجودة مسبقا فعلا وبحاجة لمن يكتشفها. الطريقة التي جعلت هذا المصطلح ــ اللوغوس ـــ معروفا - هي اللغة: التي تعني ترجمة المفهوم إلى كلمات أو طريقة في التفكير. ويمكن وصف هذا بأنه "ميتافيزيقية الحضور"'-الطريقة التي نسلكها لجعل كائنات التفكير حاضرة. فاللوغوس يمثل طبيعة، وهي أمر يختلف عن الشكل المؤسس (الذي جرت مأسسته أو منحه طابعا رسميا) الذي يتجسد في اللغة أو في النص. والأمر الحاسم هنا هو فكرة الفصل بين أصل المعنى (فكرة العدالة المجردة، على سبيل المثال هنا ) ومأسسة هذا المعنى في "الكتابة" (أو القانون).
بالنسبة لدريدا، فإن هذا التمركز حول اللوغوس، وفكرة كون المعنى خارجيا، تفتح المجال أمام إمكانية التفكيك. إنه يدرس كيف أن الـ"أصل" الطبيعي للمعنى و "مأسسته" في الكتابة لا يمكن فصلهما بسهولة. بدلا من أن تكون الطبيعة (العدالة) والمؤسسة (القانون) قائمتين بشكل مستقل عن بعضها البعض، يقترح دريدا أن الطبيعة ذاتها قد شيدت بالإشارة إلى المؤسسة. وهكذا، وبدلا من أن يكون القانون تجسيدا مباشرا للعدالة، فإن فهمنا لكل من العدالة و القانون يُحدد من خلال التفاعل بين الاثنين. وهذا هو رفض الفصل الجامد ــــ الذي يجعل السعي من أجل اليقين ممكنا - لفكرة أن العدالة كمعيار موضوعي موجود مسبقا ولا بد أن يكتشف. ومن خلال قراءة القانون بوصفه انعكاسا أو تجسدا للأصل الطبيعي للعدالة، فإن ما يتم تجاهله أو أخفاؤه هو كل التفسيرات المحتملة الأخرى للعدالة التي لا تتجسد أو تغلف بالقانون. وبهذه الطريقة فإن الكتابة تعرف الطبيعة وتعكسها في الوقت ذاته .
التفكيكية، بالتالي، معنية بمواجهة فكرة الأصل المتعالي التجاوزي أو المرجع الطبيعي. إنها تدحض فكرة أنه من الممكن أن تُنتهك المؤسسة (الطابع الرسمي أو المؤسساتي) من أجل اكتشاف شيء أبعد - وجود أصل مستقل.
يتم تغليف هذه الفكرة بالعبارة الشهيرة "لا يوجد شيء خارج النص"، التي غالبا ما تستخدم لتلخيص عمل دريدا. بالنسبة لدريدا ، فان الأصل لا يوجد مستقلا عن المؤسسة، ولكنه يوجد فقط من خلال عمله ضمن تصنيف، وبالتالي ضمن نظام الخلافات... " وبكلماته، يطلق دريدا على هذه الظاهرة" الإرجاء (différance)" . وهذه هي الفكرة التي تشكل أساس التفكيك. يشير الإرجاء إلى حقيقة أن المعنى لا يمكن اعتباره ثابتا أو جامدا ولكنه في تطور مستمر. وهو ينشأ من عملية مستمرة من المفاوضات بين المفاهيم المتنافسة. وبدلا من السعي إلى حقيقة الأصل الطبيعي، فإن التفكيكية تطلب استجواب هذه التفسيرات المتنافسة التي تجتمع لإنتاج معنى. فعل المأسسة أو الكتابة - ذاته يلتقط هذه المنافسة المستمرة بين التفسيرات المختلفة الممكنة للمعنى داخل المؤسسة. وبالتالي فإن تأثير ترجمة التفكير إلى اللغة هو تسجيل الإرجاء في بنية المعنى.
وهو يجسد المعنى المطلوب على النحو المنشود من قبل المؤلف، والقيود المفروضة على هذا المعنى من خلال فعل تفسير النص في الوقت نفسه. في هذا الصدد، فإن المعنى يعرف بالتساوي من ما هو مدرج في المؤسسة وما هو ليس كذلك. في لحظة ما، فإن مفهوما واحدا قد يكون مهيمنا على المفاهيم الآخرى، مما يؤدي إلى استبعاد البعض. لكن في حين أن فكرة الإقصاء تشير إلى غياب أي وجود لتلك المفاهيم التي يتم استبعادها، إلا أن ما تم مأسسته في الواقع يعتمد في وجوده على ما تم استبعاده. فهما موجودان في علاقة تسلسل الهرمي بحيث أن أحدهما سوف يكون دائما مسيطرا على الآخر. المفهوم السائد هو الذي نجح في أن يشرعن نفسه بوصفه انعكاسا للترتيب الطبيعي، مما يبعد التفسيرات المتنافسة التي تبقى حبيسة بوصفها الأثر المستبعد ضمن المعنى السائد.

وأخيرا، التفكيكية ليست فعلا أو عملية. وإنما هي شيء يحدث. يحدث في كل مكان. إنها لا تتطلب المداولة أو الوعي، بل أن امكاناتها موجودة ضمن هياكل المعنى. إنها مهتمة باستكشاف والكشف عن المنطق الداخلي للأفكار والمعنى. مهتمة بفتح هذه الهياكل والكشف عن الطريقة التي يتم بها تشيد فهمنا للمفاهيم الأساسية. هذا أمر داخلي للمعنى في حد ذاته ولا يعتمد على العوامل الخارجية. وهذا يشير إلى أن إمكانية التفكيك موجودة داخل بنية المعنى نفسه، داخل بنية الإرجاء، وليست شيئا يمكن العثور عليه وتطبيقه من الخارج. وباختصار فإن هم التفكيكية في المقام الأول هو فهم الأفكار، وليس تطبيقها.

تعليقات

المشاركات الشائعة