الأحزاب اليسارية وما بعد الحداثة.

 الأحزاب اليسارية وما بعد الحداثة.
أماني ابو رحمة.
كشفت  العلاقة الجدلية بين التغيرات في طبيعة قوى الإنتاج وملكيتها وبين التغيرات في طبيعة العلاقات الاجتماعية والمظاهر الثقافية والأدبية والفنية والسياسية المرتبطة بها، عن الاهتمام الكبير الذي يوليه مفكرو ونقاد ما بعد الحداثة إلى الجوانب الاقتصادية والسياسية في المجتمع. غير أنه من الضروري التوضيح بأن هذا الربط كان قد تجاوز النظرية الماركسية التقليدية وفلسفتها المادية الجدلية والتاريخية. حيث تجاوزت تلك الأطروحات حول المجتمع ما بعد الصناعي وما بعد الفوردي ومجتمع المعرفة والمعلومات الإطار الفكري والنظري للماركسية التقليدية وموقفها من الرأسمالية الإمبريالية والاحتكارية في بدايات القرن العشرين. لم يعد هناك حديث عن مستقبل الصراع الطبقي التقليدي بين الطبقة العاملة والبرجوازية، ولا عن إمكانيات انهيار سريع للرأسمالية تحت ضغط تناقضاتها الداخلية الكبيرة، وصعود الطبقة العمالية إلى مواقع الهيمنة والسلطة من خلال ملكية وسائل الإنتاج وتحقيق ديكتاتورية البروليتاريا. لقد حدثت تغيرات وتحولات هائلة في طبيعة الأحزاب الماركسية منذ النصف الثاني من القرن الماضي وتصاعدت وتيرتها بعد انهيار المعسكر الشيوعي في أوروبا الشرقية وسقوط جدار برلين، وظهر ما يعرف بالماركسية الجديدة واليسار الجديد، والذي عمل أبرز مفكريه ونقاده على إعادة صياغة جذرية للفلسفة الماركسية ولطبيعة تأويلها للحركة التاريخية للمجتمعات الغربية وعلاقاتها مع القوى اليسارية والراديكالية في المجتمع.
لقد شكل خطاب "خروتشوف" السري الذي ألقاه في عام 1956 نقطة تحول بارزة في مسيرة الأحزاب الشيوعية والحركات اليسارية خارج الإتحاد السوفيتي. هاجم "خروتشوف" السياسات الستالينية وأنتقد الاحتلال السوفيتي لهنغاريا في العام نفسه، ودعا إلى تجديد المنطلقات الماركسية للحركة الشيوعية العالمية. كان وقع الخطاب على حركة اليسار التقليدي مدويا. صمتت الأحزاب الشيوعية في كل من فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وظهر جيل جديد من المثقفين اليساريين لملأ هذا الفراغ السياسي والثقافي، جيل تميز بالجرأة في طرح القضايا ومناقشتها وتأشير مواطن الخلل في النظرية الماركسية اللينينية وأسباب فشل اليسار بشكل عام، في أحداث الثورة داخل المجتمعات الرأسمالية الكبرى، وضعف ارتباط الأحزاب الشيوعية بالحركة العمالية في بلدانها واستغلال قوة البروليتاريا لإسقاط البرجوازية الرأسمالية والتي كانت تعاني من أزمات ما بعد الحرب. لم تعد مقولات ماركس تنطبق على طبيعة الأزمات والتحولات التاريخية المعاصرة. كان الالتزام بالخط الماركسي اللينيني، بالنسبة لمفكري اليسار الجديد، ضربا من السير عكس حركة التاريخ. وبلهجة غاضبة وكلمات حادة يصف المفكر الفرنسي روجيه غارودي ما كان يحدث للأحزاب الشيوعية واليسارية في أنحاء العالم مع نهاية الستينيات من القرن الماضي " لم يعد الصمت ممكنا. فالحركة الشيوعية الدولية في أزمة. إن الانشقاق الصيني، واجتياح تشيكوسلوفاكيا عام 1968 عسكريا، ومؤتمر موسكو في يونيو (حزيران) 1969 وفرض التراجع على الحزب التشيكوسلوفاكي عن الاحتجاجات التي أصدرها في أغسطس (آب) 1968، هي المظاهر البادية للعيان في هذه الأزمة".
 انشقت فئات عديدة عن الأحزاب الشيوعية التقليدية وانضمت إلى حركات يسارية أخرى مثل التروتسكية والماوية أو تجمعات المجتمع المدني الراديكالية مثل حركات نزع التسلح النووي والسلم العالمي. ولعل أهم ما ميز حركة اليسار الجديد في أوروبا وأمريكا هو تجاوز مقولة الصراع الطبقي القائم على أساس طبيعة علاقات الإنتاج في المجتمع وحصر التناقضات الاجتماعية الحادة بالجذر الاقتصادي والنظر إلى الطبقة العمالية كالركيزة الاجتماعية الأساسية في الثورة اليسارية. طرح اليسار الجديد مقولات تتعلق بدور الفئات المهمشة في المجتمع والخاضعة بدورها لهيمنة القوى الرأسمالية العالمية في النضال، مثل فئات العرق والجنس واللون، وتوسيع دائرة الصراع ليشمل النقد الجذري للبنى الثقافية والفكرية في المجتمع دون الأخذ بالتقسيم التبسيطي الماركسي التقليدي إلى بنية تحتية وبنية فوقية. أكدت أدبيات اليسار الجديد على أن العلاقات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة ليست مجرد علاقات إنتاج اقتصادية. إن " كل تحليل للعلاقات الاقتصادية المادية لا يستقيم بمعزل عن الممارسات الثقافية الرمزية، لما بينهما في سيرورة الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها الحية من تداخل ينمحي فيه الحد الفاصل بين الاقتصادي والثقافي، والمادي والرمزي، والداخلي والخارجي، والموضوعي والذاتي، على نحو يصبح فيه ذلك التحليل تحليلا للعلاقات في ما بينها، وللقواعد الناظمة لتلك العلاقات". ولقد كان لانضمام الجماعات النسوية وحركة السود في أمريكا أثرا كبيراً على النتاج الفكري والأدبي في نهاية الستينيات من القرن العشرين. فشكلت تلك الفترة التاريخية نهاية حقبة معرفية معينة وولادة حقبة جديدة. وقد جرت إعادة تقييم ونقد شامل لمفاهيم مثل التمركز الفكري الغربي والايدولوجيا والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والتفوق العرقي والجنسي وحتى المفهوم الأنطولوجي للذات  والوعي. وظهرت مفاهيم جديدة مثل الاختلاف والهيمنة والخطاب كفضاء لعلاقات المعرفة والقوة والتقويض.
وخلافا لما كان متوقعا، شهد اليسار الجديد أفولا كبيراً على الصعيد الاجتماعي والسياسي وتمركز نشاطه على الصعيد الثقافي والأكاديمي، لينحصر في دوائر ضيقة من النخب المثقفة وأساتذة الجامعات. لقد سادت في بريطانيا وأمريكا في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي الاتجاهات اليمينية المحافظة على الصعيد الجماهيري وبالتالي السياسي. ففي بريطانيا هيمن حزب المحافظين تحت قيادة رئيس الوزراء مارغريت تاتشرعلى مواقع صنع القرار للفترة من عام 1979 وحتى 1990، وفي أمريكا تولى الرئيس الجمهوري المحافظ رونالد ريغان الرئاسة من 1981 إلى 1989. ومع نهاية السبعينيات هيمنت أسماء المفكرين المحافظين على الساحة الفكرية ومراكز صنع القرار، مثل دانيل بيل وبريجنسكي. فشلت الأحزاب اليسارية في مشاريعها وتخلت عن الجماهير لتنشغل بقضايا فكرية ذات طابع سجالي. وظهرت حركات اجتماعية لا تتبنى مفاهيما سياسية أو أفكارا ثورية لتنشط وتحتل الفراغ الذي سببه انسحاب اليسار الجديد. فتشكلت حركات الهبيين من تجمعات شبابية رفضت نمط المعيشة الذي تفرضه الرأسمالية الصناعية وتمردت على المجتمع وتقاليده ووقفت في وجه القيادة الأمريكية في حربها ضد فيتنام.




تعليقات

المشاركات الشائعة