التاريخ بوصفه فن الذاكرة.

أماني أبو رحمة.
((... نقطة البداية عندي هي الطريقة التي نتورط بها بفعالية مع الماضي باستخدام مختلف وسائل الإعلام والأساليب، بدلا من الفكرة المجردة عن "التاريخ" كما لو أنه كائن الجمال النائم في انتظار قبلة المهنية لإيقاظه.))
                                             (آن ريني، "أن تكون مؤرخا خاطئاً "، 2007)

 في تناول بيير نورا (لأماكن من الذاكرة، 1989) يبقى التاريخ والذاكرة متناقضين. ترتبط الذاكرة، التي تثبت بوصفها "الحياة"، و"العاطفة" و"السحر"، بالتكرار التلقائي، في حين أن التاريخ هو "إعادة البناء، الإشكالي وغير المكتمل دائماً، لما لم يعد موجوداً ".
 يصبح التاريخ مصطنعاً في حين تصبح الذاكرة مؤقلمة ومطبعة. هنا، مرة أخرى، فإن الماضي يدرك بوصفه حضوراً غير إشكالي، يمكن الوصول إليه مباشرة في الحاضر إذا ما وظفنا الأداة الصحيحة. وفي هذه الحالة تحل الذاكرة محل التاريخ بوصفه سلطة الماضي. وتصبح الذاكرة التي تعد بالفورية بديلاً عن التاريخ الذي لم يعد بإمكانه أن يعد بسبيل يوصل إلى الواقع :" تغرينا الذاكرة لأنها تبرز لنا الفورية التي شعرنا بأنها قد فقدت من التاريخ...تعد الذاكرة بعودات مكللة بالضياء".
ويقترح  كيروين كلاين ـ مرتكزا على الصياغة الحديثة للتاريخانية الجديدة والتاريخ الثقافي الجديد، التي تعد الكلمة المفتاحية (الذاكرة) عندها مصطلحاً شبه ديني يوظف لإكمال التاريخ، أو ربما للحلول محله بوصفه صيغة التفكير التاريخي، " إذ على النقيض من التاريخ، تهتز الذاكرة إلى حد كبير مع امتلاء الكينونة ". ترمم الذاكرة أصالة الواقع الماضي، ومتاحيته والمرجعية التقليدية للتاريخ. ويطلب منها أيضاً "إعادة الفتنة والسحر إلى علاقتنا بالعالم وصب الحاضر في الماضي مرة أخرى " .
تتعقد مقابلة التاريخ والذاكرة كما يعرضها نورا على يد العلماء الذين يبدو أنهم يعكسون ما يدعيه نورا حول " اقتحام التاريخ للذاكرة وإبادتها ".
 إنهم يسقطون التعارض بين التاريخ والذاكرة، بحيث يصبح التاريخ نوعاً من الذاكرة، مرتبطاً في أغلب الأحيان بالتذكر الإرادي. وتبعا لذلك يحدد بول ريكور نوعين من الذاكرة موظفا التمايز في اللغة اليونانية بين mne¯me¯ وبين anamne¯sis ¯. فكلمة mne¯me¯ التي تعني "الذاكرة كما تظهر في نهاية المطاف ظهورا سلبيا  لنقطة التشخيص بوصفها عاطفة – مثيرة للشفقة "، في حين أن anamne¯sis هي" الذاكرة بوصفها هدفاً بحثياً يطلق عليه عادة الاستدعاء، أو التذكار "(Ricoeur, 2004: 4).
 ويرى باتريك هاتون أن هذا التناول يحاذي بين anamne¯sis والتاريخ. ففي كتابه (التاريخ بوصفه فن الذاكرة ) يتتبع هاتون لحظتين مختلفتين من الذاكرة ويصنف التاريخ ضمن فئة الذاكرة الأوسع. فلحظة الذاكرة الأولى هي التكرار التي تُعنى بحضور الماضي؛ إنها لحظة الذاكرة التي تشق الطريق أمام صور الماضي ليستمر في تشكيل فهمنا الحالي بطرائق غير عاكسة. ويمكن للمرء أن يطلق على هذه اللحظات من الذاكرة (عادات العقل)، وتبعا لذلك فإنها غير واعية إلى حد كبير.
واللحظة الثانية من الذاكرة هو الاستذكار، وهو أكثر وعياً بمعنى أنها محاولة إرادية لاسترداد الذاكرة. وهذا ما دفع هاتون إلى التأكيد على أن التاريخ هو "فن الذاكرة" لأنه الوسيط بين لحظتين من الذاكرة: التكرار والاستذكار". يتشكل التاريخ بوصفه مظهراً من مظاهر الذاكرة، التي "تعنى بجهودنا الحالية لاستحضار الماضي".
إنها تلك اللحظة من الذاكرة التي نعيد بها تركيب صور الماضي بوعي وانتقائية تناسب احتياجات وضعنا الحالي. واحد من تأثيرات تصنيف التاريخ ضمن الذاكرة هو أنه يؤكد مجموعة من الممارسات التذكارية التي تشكل السبل التي نتورط بها مع الماضي، مما يجعل من التاريخ – الأكاديمي والعلمي - وجهاً واحداً فقط من أوجه مقاربات المعرفة التاريخية الكثيرة. وفي حين يسعى المؤرخون للوصول إلى القصة الأكثر صلاحية وموثوقية حول الماضي، ولاكتشاف "ما الذي حدث بالفعل "، تمتلك الذاكرة عدداً من الأهداف المختلفة:
إذ من المهم أن ندرك أننا نتذكر أشياء معينة لا لأنها حقيقة الماضي بالفعل ( مع ملاحظة أنها قد تكون كذلك )، بل لأنها ذات معنى في الحاضر بطريقة أو بأخرى. وبعبارة أخرى، فإن الـ "أصالة" قد لا تكون دائما ذات صلة بديناميات التذكر، وإن أشياء معينة قد نتذكرها لأنها ذات مغزى لأولئك الذين يقومون بالتذكر وليس لأنها حقيقية أو واقعية من منظور المؤرخ".
واليوم هناك مجموعة متزايدة تقر وتحتفل بـ"المصفوفة" التي شكلها التاريخ، والرواية التاريخية، والأفلام، والذاكرة، والتذكارات، والتراث المادي، وكلها تسهم في الطريقة التي نفكر بها ـ في القرن الواحد والعشرين ـ في أنفسنا من الناحية التاريخية. والهدف من هذا العمل هو فهم السبل التي يمكن للمجتمع أن يشارك بها في الديناميات التذكارية. والتي يمكن وصفها عنئذٍ بـ "ديناميات النصب التذكاري"، أو الذاكرة " الجماعية"، "الشعبية"، "الاجتماعية" أو 'الثقافية"، أو "الوعي التاريخي" أو "الخيالية التاريخية "، ويتجنب هذا العمل إضفاء صفة الرومانسية على التذكار romanticising بوصفها (الرومانسية ) شكلا لا طوعياً للذكريات التاريخية كما أنها  دون وسيط من التذكر التاريخي الذي يضمن الأصالة. بدلا من ذلك، فإنني أصوغ الذاكرة العامة أو الثقافية بوصفها مبنية وبحاجة إلى وسيط; علاقتها بالتاريخ " توريطية تشاركية وليس تعارضية أو خلافية".
وفي حين أنه يتم تقييم الرواية التاريخية من حيث إخلاصها لتناول التاريخ لأحداث الماضي، ويتوقع من وراء القص التاريخي أن يميز مشكلة تمثيل التاريخ على حساب الذاكرة التاريخية، فإن نصوص الذكريات أو إعادة التذكر يمكن لها أن تستوعب صيغاً تاريخية متعددة بما فيها الوجدانية والعاطفية، وفي الواقع فإن عدداً من هذه الصيغ يمكن أن تتنافس ضمن نص واحد.
لا يعني استدعاء "الذاكرة"، بدلاً من "التاريخ"، توفير وسيلة بسيطة للخروج من عقد التعاريف المرتبطة بـ "التاريخ" و "الرواية"، ولكنه يقدم مجموعة أخرى من المصطلحات التي تحدد في كثير من الأحيان عن طريق معارضتها لبعضها البعض.
ومثل الرواية والتاريخ، فإن التاريخ والذاكرة يحتل كل منهما الآخر يؤكد ديفيد لونثال مرددا مزاعم غيرهات حول الحدود المفتوحة بين التاريخ والرواية ـ أن كلا من التاريخ والذاكرة "ينطوي على عناصر من الأخر، كما أن حدودهما غامضة . وينتقد كلاين ظهور الذاكرة في الخطاب التاريخي، ويشير إلى أن "الذاكرة تستبدل المفضلات القديمةـ الطبيعة والثقافة واللغة ـ بوصفها الكلمات الأكثر اقتراناً بالتاريخ، ويعيد هذا التحول صنع الخيال التاريخي.




تعليقات

المشاركات الشائعة