النسب الأمومي للرواية التاريخية.

النسب الأمومي للرواية التاريخية.
أماني أبو رحمة.

تكرس ديانا والاس كتابها رواية المرأة التاريخية الصادر عام 2005، لرواية المرأة التاريخية من 1900-2000، ويشمل العديد من الأمثلة من الروايات التاريخية التي نشرت في أوائل القرن العشرين. في الواقع، فإن والاس تقنعنا أن الحرب العالمية الأُولى قد حولت الوعي التاريخي كما فعلت حروب نابليون في القرن السابق.  معززة وعي الأفراد بأنهم يعيشون في التاريخ، ويتأثرون به بعمق. وتقول، نقلاً عن لوكاش، إن التاريخ قد أصبح خبرة جماهيرية مرة أخرى على نحو جلي، مع فارق رئيس هو أن "هذا الوعي بالوجود في التاريخ أصبح يضم نساء للمرة الأولى". وكما فعلت حروب نابليون فقد حولت الحرب العالمية الأولى الأدب إلى رواية تاريخية. وتحولت المرأة المتحررة حديثا والمسلحة بالعلم والعمل إلى هذا النوع من الأدب وقامت بتجديده. يدعم رأي والاس أن النساء قد تحولن إلى هذا الجنس الأدبي حين هجره الرجال، جوانب من ادعاءات ويسلنغ حين قالت إنه بدلاً من أن تختفي الرواية التاريخية أصبحت غير مرئية بالنسبة لتحديد الجنس الأدبي المبني على نموذج ويفرلي. لقد تسببت هيمنة تعريف لوكاش للرواية الكلاسيكية التاريخية استناداً إلى نموذج روايات السير سكوت في استبعاد أشكال عديدة من الروايات التاريخية التي كتبتها النساء من التناول النقدي. وخلاقا للقول بأن الرواية التاريخية لا تناسب قضايا طبيعة واحتمالات المعرفة التاريخية، تركز والاس على النسب الامومي للرواية التاريخية الذي مكنها من أن تقترح سبلاً ـ استنادا إلى خصائصها الفريدة ـ لطرح قضايا متعلقة بالموضوعات الابستمولوجية المرتبطة بمعرفة الماضي.
 وتضرب والاس مثالاً موظفةً رواية صوفيا لي ( المنعزل أو حكاية أزمنة أخرى،1783) التي تدور أحداثها في عهد إليزابيث الأُولى. لاقت هذه الرواية، التي تخترع توأم بنات للملكة ماري الاسكتلندية تعيشان مختبئتين في باطن الأرض، في متاهة لا تنتهي من الممرات والغرف، أو "منعزل"، انتقادات حادة لافتقارها للحقيقة التاريخية، وفشلها في مقاربة حقائق التاريخ. وتستند تلك الإنتقادات على فكرة معينة حول الحقيقة التاريخي. تقول ولاس إن توظيف لي لشخصيات مبتدعة في مشهد تاريخي حقيقي قد مكنها من عرض الحقيقة التي فقدت من السجلات الرسمية :  تتمثل التجاوزات التي انتقد النص بسببها في عدم امكانيته، وعدم احترام التسلسل الزمني المتفق عليه، والإفراط في مشاعر البطلات – وقد عملت جميعا على زعزعة التناول المقبول للـ "التاريخ"، وأشارت إلى أن ما يقدم بوصفه "الحقيقة" هو في الواقع خيالي بدرجة مساوية ويلحق الأذى بالنساء" . يشير ذلك إلى أن التحدي النسوي للمنهج التاريخي والكتابة التاريخية في أواخر القرن العشرين له سابقة في القرن الثامن عشر. فالرواية التاريخية النسوية قد عالجت بالفعل إهمال التاريخ الرسمي للنساء، وحكت بالفعل " القصص غير المحكية للنساء والحياة اليومية ". وهذا بالضبط بؤرة ما وراء القص التاريخي لليندا هتشيون.
أصبحت موضوعات مثل تلك التي سجلت والاس ظهورها في الروايات التاريخية النسوية، محوراً مركزياً في أواخر القرن العشرين. تحول تحدي "ما بعد الحداثة" لسلطة التاريخ إلى مسألة المرجعية في التاريخ والخيال، وخصوصا التمييز بين أحداث الماضي والمعاني التي تعزى إليها في السرد، كما لاحظت هتشيون أن مَشكلة ما بعد الحداثة للتاريخ قد تسببت في "وعي ذاتي جديد حول التمييز بين الأحداث الغاشمة من الماضي والحقائق التاريخية التي بنيناها من هذه الأحداث.
مكن التمييز بين أحداث الماضي وبين تناولنا لهذه الأحداث ليندا هتشيون من صياغة مشكلة المرجعيات بطريقة مثمرة: "هل أن مرجعية الكتابة التاريخية، هي الحقيقة أو الحدث، الأثر المنصص أو التجربة نفسها؟
 عززت "النزعة اللغوية" في الكتابة التاريخية اعتماد التاريخ على اللغة والسرد مصدرا لأدلته وتواصليته على حد سواء بوصفه قصة. فعلى سبيل المثال، يحلل رولان بارت الخطاب التاريخي التقليدي لتسليط الضوء على الطريقة التي يؤقلم بها التاريخ نفسه، وينتج سردياته بوصفه خطاباً رسمياً من خلال تجاهل حضور التاريخ بوصفه مؤلفاً، وخلق مظهر من الوصول إلى الماضي دون وساطة. يحدد هايدن وايت الاستعارات والوسائل السردية المشتركة بين التاريخ والرواية، وتشاركهما باللغة، ليقول إن خدعة السرد تُقرض الماضي شكل القصة، وتُشَرّب أحداث الماضي "بالتماسك، والوحدة، والامتلاء، والغلق... التي لا يمكن إلا أن تكون وهمية". وإذا كانت اللغة والسرد هي "مصادر أخرى" للتاريخ والرواية على حد سواء، وإذا كانت مراجع التاريخ ليست "هناك" تنتظر من يكتشفها ويسجلها، ولكنها يُركب تركيباً بدلاً من ذلك، فإن فكرة أن ذلك السرد التاريخي يمتلك امتياز الوصول إلى الحقيقة قد قوضت تماما. وفي الواقع، فإن السرد التاريخي الذي لم يعد يضمن الوصول غير الإشكالي للماضي، قد انفصل عن الماضي "الذي يُعتقد أنه قد حدث فعلاً ". لم تكن المصادر الإبتدائية مجرد وسائط للماضي ولكنها كانت تفسرها بالفعل، أما السرديات التاريخية، التي بنيت من بقايا تلك النصوص، فقد كانت هي تفسيراتها. لم يعد التاريخ كياناً مستقراً، وأصبح من المؤكد أن هناك واقعاً خارج النص أو سياق يمكن فهم الأدب بمقابلته به. كما أنه لم يعد سياقاً مستقراً يمكننا من الحكم على صواب أو خطأ الرواية التاريخية من خلال عرضها عليه. يلاحظ بول هاميلتون في هذا السياق، أن التاريخية الجديدة "تعيد صياغة التاريخ من حيث كونه معركة ضد القص والتخييل". وفي الواقع، فإن إعادة تشكيل العلاقة بين الخيال والتاريخ التي قام بها المؤرخون الجدد تؤكد أن تاريخية النصوص، وتناصية التاريخ توحي بأن كاتب الرواية يمكن أن يتقاسم دور المؤرخ. تربط مارثا تك روزيه بين نشر أمبرتو إيكو لروايته ( اسم الوردة) (1984) و تأثير مدرسة المؤرخين الجدد النقدية. وتدعي أن "هذا الإبهار هو مزيج من بحث تاريخي كثيف ورواية بوليسية شعبية تدعو قرائها للنظر إلى الرواية التاريخية بوصفها جنساً أدبيا ذا قيمة أكاديمية ووسيلة لإعادة كشف الماضي وتخيله بطرائق غير تقليدية".  يؤكد ايكو في معرض تعليقه على اسم الوردة (1988)، على أهمية البحث التاريخي في بناء عالم مفصل، وخلق شخصيات تنتمي حقا إلى الزمان والمكان. وبشكل أكثر تحديداً، يقول إن الروائي يمكن أن يمثل "الماضي الذي لم تحدثنا عنه كتب التاريخ بوضوح و أن يجعل التاريخ، الذي حدث، أكثر فهماً... وأن يحدد في الماضي الأسباب التي قادت إلى ما حدث لاحقاً , وأن يتتبع أيضاً العملية التي من خلالها بدأت تلك الأسباب تنتج آثارها ببطء". يذكرنا ترسيم ما بعد الحداثة لمهمة الروائي التاريخي بما نسبته فيرس لسكوت عند كتابه رواياته. ذلك أن دوره هو إلقاء الضوء على التاريخ، بما في ذلك جعل هذا النمط من التاريخ مفهوماً.
في حين أن ذلك يعني بالنسبة لسكوت تصوير تطور الجدلية الهيغلية أو النشوء الناتج عن صدام الحضارات، إلا أنه يعني لإيكو علم الأنساب الفوكووي أو الأصل الأركيولوجي : عملية تقصي الحقائق التاريخية، وليس عملية التاريخ القصدي purposive history. ما هو جدير بالاهتمام بالنسبة لتناول ايكو لمشروعه بوصفه روائياً تاريخياً ما بعد حداثي، هو أنه ما زال يبرز إلى الواجهة اشتباكه القوي مع الماضي بوصفه حقيقة حدثت ذات يوم، على الرغم من أنها اليوم مجرد آثار منصصة. وبالنسبة لهتشيون التي أطلقت على الرواية لتاريخية ما بعد الحداثية (ما وراء القص التاريخي)، فإن اشتباك ايكو مع الماضي الذي مكنه من إعادة بناء العالم مفصلاً، خاضع بحزم لإبراز عملية البناء والتركيب، وآليات التمثيل.
 وبالمثل، تقول سوزان كين في دراستها المدهشة (رومانسية الأرشيف) إن الروايات التي تبدي وجهات نظر، مثل محاكمة الماضي بقوانين الحاضرpresentism والأثرية antiquarianism والتي سبقت ما بعد الحداثة تعرض طيفاً أوسع من الاشكاليات التأريخية مما حصرته هتشيون في مصطلحها. وكما يقول ديل إيفان يانيك، أيضاً، إن "النوع الجديد من الرواية التاريخية... ليس مجرد نوع فرعي من ما بعد الحداثة". و وتوسع ايمي الياس في كتابها ( الكتابة في أعقاب نظرية ما بعد الكولونيالية) تصنيف هتشيون ليضم مجموعة متنوعة من المواقف المميزة لما وصفته بالرومانسية ما وراء التاريخية بدءا من "االسخربة و التفكيكية العدمية " إلى الإيمان المقدس العلماني". ويوضح جيروم دي غروت أن الرواية التاريخية "تضم بين جنباتها توجهات غامضة ومعقدة نحو الماضي - محاولات الأصالة، والتمثيل الحقيقي، والتذكر، وعرض الآخرية في التاريخ، والعمل ضمن حدود شبكة الحقيقة". ولأن تحديد النوع يستلزم - وإن إلى حد معين - التركيز على أوجه التشابه بين النصوص، ولأن هتشيون لم تُنح المناقشات الأخرى لهذه الروايات، فإن "التشابه" في قراءاتها قد لا يكون مشكلة كما يوحي مكهيل. ومع ذلك، فإن الإشكالية المحتملة في وضع هتشيون ما وراء القص التاريخي متماد مع ما بعد الحداثة (زمانيا ومكانياً) هي التي جعلت نمط الكتابة والتخريب، والتركيز على مشكلة المرجع تاريخي توحي بمسافة نقدية. وبناء على تحليل هتشيون، فإن التعارض بين الاشتباك النقدي مع الماضي ( المتمثل بسرد الوعي الذاتي والتجريبي في روايات ما وراء القص التاريخي )، والاشتباه باستعادة الماضي أو احيائه أو الحنين النوستالجي إليه، يرتبط عادة مع بعض أشكال السرد الواقعي، التي أصبحت مناقضة للتحقيق والتقصي.
فالنوستالجيا التقليدية أوحتى الساذجة قد قوبلت بموقف أكثر أصالة بفضل نقديته من الماضي. فإصرار هتشيون على أن ما وراء القص التاريخي يجسد تاريخ التمثيل، بدلا من يمثل التاريخ ، يجعل من الصعب مناقشة ادعاء الروايات التاريخية المعاصرة وتقييمها من حيث إنها أيضاً تمثل ـ أو بمصطلحات هتشيون تحيي الماضي. وربما تكون المشكلة أكثر وضوحاً بالنسبة للروايات التي تحاول إحياء التاريخ، فإذا كانت الرواية التاريخية تمنح مساحة للنساء لدخول التاريخ، فإن كاتبات الرواية التاريخية قد يستثمرن تمثيل التاريخ استثمارا أوسع مما يسمح به نموذج هتشيون القائم على الكتابة الساخرة وتخريب النمط والاتفاقيات السردية. لم تكن الروايات التاريخية النسوية معنية على الإطلاق باستعادة التاريخ بوصفه حضوراً غير إشكالي، إذ أنها كانت تدرك دائما أنه يحكي جزءا من الحقيقة. ومع ذلك فإن إحياءهن لتاريخ النساء يقترح بعضا من التفاؤل، والالتزام السياسي بإنتاج تناول ذي معنى للواقع الماضي، مهما كانت تلك التناولات افتراضية وجزئية وجمعية. ولا يبدو أيضاً أن تركيز هتشيون على السخرية والتمثيل الإشكالي والتواطؤ النقدي هي المصطلحات الأفضل عند تناول رواية مثل (محبوبة) لتوني موريسون (1987)، التي تطرح قضية العبودية من المنظور الصامت للرقيق. تقول كارولين رودي " إنه وعلى الرغم من أن رواية محبوبة تتقاطع مع السخرية ما بعد الحداثية السائدة من قضايا مثل الحقيقة والتمثيل، والرواية والتاريخ، فإنها ليست "رواية ما وراء قص تاريخي " تنكر إمكانية "الحقيقة" التاريخية ". وفي حين أن الرواية تستغل التاريخ الأبيض إن جاز التعبير, إلا أنها تسعى إلى إعادة كتابة فكرة (استعادة الذاكرة ) التي تفترض علاقة حميمة، حتى وإن كانت غير واعية في كثير من الأحيان، بين الماضي والحاضر، وتتكئ على مراجع التاريخ بدرجة أقوى من تناول ما وراء القص التاريخي الذي حددته هتشيون. ليس الأمر أن موريسون تقدم روايتها بوصفها نسخة صحيحة من ذلك التاريخ المؤلم، ولكنها تحتج أو تعيد بناء نسخة أقرب من حيث الحقيقة إلى الخبرة، من حيث كونها وسيلة ذات معنى لتذكر هذا الجانب المظلم من الماضي الأميركي.

































تعليقات

المشاركات الشائعة