التفكيكية بين الفينومينولوجيا والهيرمينوطيقيا

                         التفكيكية بين الفينومينولوجيا والهيرمينوطيقيا
أماني أبو رحمة

يرى بول دي مان أن عودة دريدا إلى نيتشه وهايدغر بدلا من هيغل وهوسرل تشكل لحظة حاسمة في تاريخ الفلسفة المعاصرة، بينما يذهب جوزيف إيفانز (Joseph Claude Evans) إلى أن كل من هوسرل ودريدا ينطلقان من الفينومينولوجيا، غير أن دريدا يعطينا القراءة الأكثر تطرفا لفينومينولوجيا هوسرل. فنظرية المعنى عند هوسرل تعتمد على الحضور التام للمعنى في الحاضر، بينما يقول دريدا بالإرجاء أو التأجيل الدائم للمعنى في النص، وبالتالي فهو في حالة من الغياب التام. لم يكن أمام تفكيكية دريدا إلا أن تدخل في حوار جاد وعميق مع الفلسفتين الكبيرتين اللتين كانتا تهيمنان على نظرية المعنى وتأويل النصوص في الفلسفة الغربية وهما الفينومينولوجيا والهيرمينوطيقيا. وفي عام 1981 في باريس حصل لقاء بين ممثل الهيرمينوطيقيا التاريخية الفيلسوف البارز هانز جورج غدامير (Hans- Georg Gadamer) وجاك دريدا، حيث قام دريدا بمداخلة شهيرة على المحاضرة التي ألقاها غدامير حول النص والتأويل. يعد غدامير تلميذا لهايدغر أنطلق من تصوراته حول المعنى والتأويل والحوار ليؤسس منهجا فلسفيا متكاملا في سياق الهرمينوطيقيا الحديثة. يؤمن غدامير بإمكانية التفاهم بين الذوات، سواء بالتواصل والاتصال المباشر عبر اللغة أو من خلال اللغة المكتوبة نصا، ويشترط تحقق نوع من الفهم المسبق من جانب المشتركين ليكون الحوار ممكنا. "ولا يشتمل هذا الفهم المسبق على توقعات المشتركين بخصوص وجهة نظر أحدهما للآخر فحسب، بل على فهم مادة موضوع الخطاب والاهتمام بها أيضاً ". ويضع هايدغر السياق التاريخي المشترك كخلفية لتحقق الفهم والحوار، فهو دائم الإشارة إلى التجربة التاريخية المشتركة.
و يمكن اعتبار مشروع الفيلسوف الهرمنيوطيقي الكبير غدامير بمجمله محاولة فلسفية جادة نحو تأسيس نظري مفارق للمقولات المثالية التجريدية التي جعلت من الإنسان ذاتاً تعيش في الفراغ، وجوهرا مكتملا خارج حدود الزمان والمكان. إن المعرفة عند غدامير هي معرفة تاريخية، والإنسان ذاته هو كائن تاريخي يحقق كينونته في الزمان والمكان، وهي كينونة في حالة سيرورة دائمة. وقد أنطلق غدامير من فلسفة أستاذه هايدغر وانشغل بالسؤال الفلسفي حول طبيعة المعرفة التاريخية. إن الوعي الإنساني عند هايدغر وغدامير محكوم باشتراطات المعرفة التاريخية ومحدد بإمكاناتها " فالجيل الحاضر لن يفهم نفسه على نحو مختلف عن الطريقة التي فهم بها الجيل الماضي نفسه فحسب، بل إنه سيفهم الجيل الماضي على نحو مختلف عن الطريقة التي فهم بها الجيل الماضي نفسه. ونظرا إلى أن العنصر الأساس لأي فهم ذاتي للجيل هو صورة لمكانته في التاريخ، فإن الحقائق التاريخية اللاحقة تقوم بتغيير هذه الصورة تغييرا جذريا ". فالفهم الهرمينوطيقي هو فهم ذو طبيعة تاريخية، والمعنى لا يحضر ناجزا داخل النص الأدبي ولا يكون موضوعا متعاليا يعبر عن قصدية مبدعه، بل أن المعنى سيرورة تاريخية متغيرة ومتبدلة باستمرار. وحسب غدامير فنحن لا نفهم أرسطو على نحو مغاير لما فهم به نفسه فقط، بل أننا نفهم أرسطو على نحو أفضل مما فهم هو نفسه. فالتاريخ يتيح لنا أن نموضع أرسطو في سياق تاريخي وثقافي عام كان من المستحيل عليه أن يفعله بنفسه. أي أن (لمنظور) هنا يتبدل ويتسع بفعل سيرورة المعرفة التاريخية، والسياق التاريخي الذي أنتج فيه. كما أن وعي القاري يكون بالضرورة جزءاً من وعي جيل كامل ينتمي إلى لحظة تاريخية محددة وله سياقه التاريخي الخاص والمغاير عن تاريخ وسياقات النص. ولتأويل هذا اللقاء بين الآفاق، عمل غدامير على بلورة مجموعة من المفاهيم الإجرائية والتي أصبحت ركائز بارزة في نظرية الهيرمينوطيقيا، مثل (انصهار الآفاق) و(الحوار) و(التطبيق) و(استباق الكمال). فالقراءة حسب تصور غدامير هي عملية تلاقي للأفق التاريخي للنص والأفق التاريخي للمؤول، ويتم ذلك التلاقي أو الانصهار بين الآفاق على أساس نوع من الحوار المفتوح حول المعنى والدلالات التي يوحي بها البناء لانطولوجيا للنص. وينطلق المؤول من معرفته المسبقة وإدراكاته القبلية في تصور أن النص الذي يعمل على تأويله هو نص يتمتع بالوحدة العضوية والانسجام الداخلي ويريد قول شيء ما عن قضية ما، وهذا ما يدعوه غدامير (باستباق الكمال). ومع تقدم عملية القراءة يتم تعديل وتغير ذلك الافتراض المسبق وفقا لماهية الموضوع الجمالي والبنية الانطولوجية للنص. وبذلك تكون لعملية القراءة أهمية كبيرة في تشكيل المعرفة التاريخية، "فكل التصورات الماضية والحاضرة التي يحملها الأفراد تمتزج وتتوسع مشكلة فضاء للمقاربة والتقارب أو حقلا للتواصل والتجاوب، فيعمل الأفراد على إحياء التصورات الماضية بإدراجها في الحاضر الحي أو التجربة الخلاقة وعلى إثراء التصورات الحاضرة بتوسيعها واغنائها".
غير أن غدامير ذاته لم يتمكن من تجاوز إشكالية التصورات المثالية والتجريدية رغم حرصه الشديد على إنشاء فلسفة تأويلية تاريخية تضع حلولا للأسئلة التي بقيت معلقة، حسب تصوره، أمام فينومينولوجيا هوسرل. فقد أكد غدامير على أهمية (الحوار) في النشاط المعرفي الإنساني بشكل عام، وفي عملية القراءة بشكل خاص. كان (الحوار) هو الحل الذي وضعه غدامير لإشكالية النسبية في العملية التأويلية، وذلك لتجاوز التأويل المضاعف أو السيرورة اللانهائية لعمليات التأويل والتي قد تصل إلى حد إنكار وجود المعنى من الأساس، أو أن المعنى في النص هو معنى مرجأ دائما ومؤجل، كما عند دريدا ورورتي، طالما أن كل قراءة جديدة، ضمن نفس المرحلة التاريخية أو ضمن مرحلة تاريخية مغايرة، تكشف عن دلالات جديدة لم تكن معروفة عن المعنى من قبل. ويؤكد دريدا من خلال فلسفته التفكيكية على أن مقولات غدامير حول المعنى بوصفه سيرورة تقود إلى استنتاج أن هذا المعنى هو معنى مؤجل إلى الأبد، وعليه فلا يمكننا الحديث عن معنى للنص أساسا. ويرد غدامير على ذلك بمقولة (الحوار) ذات الطبيعة الانطولوجية، حيث يصبح ذلك الحوار مدخلا لاتفاق ضمني بين الذوات على طبيعة المعنى. وبالتالي تصبح مقولة (مجتمع الاتفاق) هي معيار الحقيقة والموضوعية. وتعود الجذور الفلسفية لتك المقولة إلى الفيلسوف الأمريكي سان جون بيرس، وكذلك جوشيا رويس التي نادت (بمجتمع التأويل) " أو نظرية الواقع الاجتماعية التي تفترض أن جميع الذوات ملتحمة في مجتمع شمولي (universal) يتمثل هدفه بامتلاك الحقيقة في كليتها ". وقد تبنى هذا المفهوم كل من الفيلسوف الفرنسي كارل- أوتو آبل والألماني هابرماس. فالمعرفة الذاتية الإنسانية متناهية ومحدودة، ولا يمكن للذات المفردة أن تدرك الحقيقة كاملة أو أن ترى الموضوع من كل زوايا النظر العقلي في رؤية شمولية تحيط بالمعنى والدلالات الكلية. إن كل ذات محددة شرطا بالسياق التاريخي وبالمنظور التي يسقطه وعيها على الموضوع. وهي في الوقت الذي تتمكن فيه من الكشف عن مجموعة من الدلالات والمعاني المتعلقة بالموضوع تطمس وتغيب دلالات ومعان ٍ أُخر. وبذلك فان الطريقة الوحيدة للإمساك بالحقيقة الموضوعية في شموليتها وتعددها وتنوعها هي في تحقيق نوع من الإجماع مابين الذوات المندرجة ضمن مجتمع معين والمنشغلة بتحقيق المعرفة حول الموضوع المعطى نفسه. ويكون هذا الإجماع أو التواطؤ البين ذاتي هو معيار الحقيقة الموضوعية.
إن مفهوم الفهم المسبق وعمليات الإجماع والتواطؤ البين الذاتي والتي تؤدي إلى خلق المعنى وتداوله، هي بالتحديد ما يرفضه دريدا من خلال التفكيك. فهو يشكك بالإرادة الطيبة والرغبة الطبيعية في الوصول إلى الإجماع والاتفاق على معنى ما. ينتقد دريدا مفهوم الفهم المسبق عند غدامير بكونه من المسلمات الأولية ذات الطابع الأخلاقي لتصور قيام أي مجتمع من المتكلمين وذلك لتنظيم عمليتي عدم الاتفاق وسوء الفهم. ويأخذ دريدا على غدامير منظومة التصورات المسبقة المتعالية على النقد والجدل الفلسفي المتعلقة بطبيعة الذات وعمليات التواصل والفهم. ويضع سوء الفهم بدلا من محاولات تحقيق الحوار والفهم الغداميري، إن جاز لنا التعبير، كأساس وركيزة لتحقق إمكانيات التواصل وخلق المعنى.


تعليقات

المشاركات الشائعة