علم النفس الاستطرادي: العقل والذات والهوية.

علم النفس الاستطرادي: العقل والذات والهوية.
                                              أماني ابو رحمة.

مقدمة:
يمكن القول أن الاستجوابات حول الذات قديمة قدم الجنس البشري لدرجة يبدو معها أن سؤال "من أنا؟" يسافر عبر العصور ويتسكع في زوايا الفلسفة والدين و التخصصات العلمية والأدبية على السواء. غير أن الأمر لم يكن أكثر حدة في أي وقت مضى مما كان عليه في ما بعد الحداثة.
فقد شهدت السنوات  الخمسة عشر الأخيرة نمو الحركة التي تهدف إلى إعادة توجيه تخصص علم النفس نحو دراسة الخطاب. الحركة التي قادت لاحقا إلى التخصص الفرعي المعروف الآن بــ( علم النفس الاستطرادي أو الخطابي). ويعد علم النفس الخطابي جزءا من الحركة العامة لعلم النفس النقدي، الذي عارض علم النفس الاجتماعي السائد، وخاصة هذا النوع من علم النفس التجريبي الذي لا يزال  مهيمنا في الولايات المتحدة.
 لم يكن هدف علماء النفس استطرادي مجرد نقد علم النفس السائد. ولكنهم اقترحوا طرقا بديلة لإجراء البحوث النفسية، وتحويل الاهتمام من المنهجيات الكمية الى النوعية، جنبا إلى جنب مع التزام بدراسة النفس البشرية من خلال توظيف اللغة. ومع ذلك، فان علم النفس الاستطرادي يمثل أكثر من مجرد بديل منهجي لعلم النفس التقليدي. إنه  يعمل على محاولة إرساء مبادئ نظرية جديدة، تتكئ على مفهوم مختلف جدا للغة من تلك التي قبلت من قبل معظم علماء النفس السائد، خاصة علم النفس المعرفي.
وقد اتخذ علماء النفس الاستطرادي وجهة النظر المادية والاجتماعية للغة، التي اقترحها فيتجنشتاين وأوستن مع الالتزام التجريبي بتحليل المحادثة. لذلك فان إحدى السمات المميزة لعلم النفس الاستطرادي هو دراسة كيف يوظف المتحدث العادي الكلمات النفسية. وبذلك، فقد حول الأسئلة التقليدية لعلم النفس نحو منحى جديد. على سبيل المثال، بدلا من أن يسأل كيف يتذكر العقل؟ فإنه يسأل عما يفعله الناس عندما يدعون انهم قد تذكروا الأشياء.
وبالنسبة لدراسة (المواقفpositions) فان علماء النفس الاستطرادي لا يفترضون أن "المواقف" موجودة حقا بوصفها مخططا معرفيا داخل العقل( سكيماتا معرفية). فعلماء النفس االاستطرادي يفحصون ما الذي يفعله الناس حين يبدون  رأيهم أو مواقفهم في المناقشات الحوارية. يتوقع النهج التقليدي أن الناس سيقولون الأشياء نفسها عندما يتجاوبون مع محفزات موقفية، لأن كلماتهم تنتج من الهياكل المعرفية التي تبقى ثابتة جامدة. ولكن وجهة النظر الاستطرادية والبلاغية  تدعي أن هناك تفاوتا كبيرا في ما يقولة الناس، لأن الشخص نفسه قد يفعل أشياء مختلفة عندما يتحدث في مناسبات مختلفة وفي سياقات تفاعلية مختلفة. في الواقع، فإن المتحدث نفسه نادرا يتكلم بالطريقة نفسها تماما في مناسبات منفصلة.
هذا المقال يركز على الطريقة التي يجيب بها علم النفس الاستطرادي (الخطابي) عن سؤال العقل والذات والهوية الفردية والجماعية. فضلا عن المشاكل الرئيسية  التي تواجه علماء النفس حين التنظير حول الذات. ويشرح  الاسس التي يستند عليها هذا الحقل : ما بعد البنيوية وتحديدا مفهوم فوكو للغة والخطاب والفرد، والمنهجية الاثنوغرافية، وتحليل المحادثات، والبنائية الاجتماعية، وعلم النفس البلاغي. كما يناقش نظرية (الموضعة) والفروقات بين المدارس المختلفة ضمن هذا المجال بوصفه الآن أحد أهم مدارس تحليل الخطاب.
____
  
يقوم علم النفس الاستطرادي(الخطابي)، على أساس البنائية الاجتماعية حيث الذات الفردية ليست كيانا مستقلا معزولا، بل في تفاعل ديناميكي مستمر مع العالم الاجتماعي. تتشكل العقول والذوات والهويات، وتتفاوض، ويعاد تشكيلها في التفاعل الاجتماعي. ويغترف علم النفس الاستطرادي جزئيا من عمل ميخائيل باختين، وجورج هيربت ميد، وليف فيجوتسكي. لذلك فإنه يرى أن العقول والذوات قد شيدت من خلال استبطان أو تذويت internalisation الحوارات الاجتماعية. ووفقا لعلم النفس البلاغي، على سبيل المثال، فان كل رأي هو موقف(موضع) في نقاش بدلا من تقييم فردي معزول. ويستند هذا النموذج البلاغي للعقل، على وجه الخصوص، إلى عمل ميخائيل باختين. اقترح باختين أن الفكر هو الحوار الداخلي الناجم عن تذويت النقاش العام. يتم إجراء الحوارات الاجتماعية التي تُشكل أساسا للذات من السرديات والخطابات الثقافية التي تُموضع الافراد في فئات اجتماعية معينة مثل الجندر. ينمي الأطفال احساسهم بالذات بتذويت موقعهم في فئات ضمن الروايات والخطابات المختلفة. ومن خلال الاستماع إلى اطروحات العالم، يتعلم الأطفال أساليب مناسبة للتحدث عن أنفسهم والآخرين، بما في ذلك التعبير عن الأفكار والعواطف. ومن خلال القصص التي يروونها بأنفسهم، يمثل الأطفال، ويبرزون، ويفاوضون جوانب الذات. وبعيدا عن فكرة أنه يجري تشكيلها مرة واحدة وإلى الأبد في مرحلة الطفولة، فإن الذات الفردية في عملية مستمرة من البناء طوال حياة الفرد من خلال المشاركة في السرد والممارسات الاستطرادية في التفاعل الاجتماعي. ومع هذا الفهم للذات، فإن التمييز بين العالم الخارجي والعالم النفسي الداخلي يصبح أكثر ليونة. تفهم الذات بوصفها علائقية أو "موزعة ". تقول مارغريت ويذرل وجانيت ميبين في كتابهما (الصحة وتركيب الفرد،1996):
" ينظر إلى الشخص، والوعي، والعقل، والذات بوصفها الاجتماعي من خلال / وعبر. ونتيجة لذلك، فمن غير المعقول أن نسأل ما الذي يتحدد من "الداخل" وما الذي يتحدد من "الخارج". [...] والذات، في هذا النهج، ليست كائنا يوصف مرة واحدة وإلى الأبد ولكنها متغيرة باستمرار. تاريخ مائع من العلاقات. يجسد جيروم برونر هذه النقطة بشكل جيد عندما يقول أن الذات يجب أن يُنظر إليها بوصفها موزعة، وليست ثابتة في محل ككرة البلياردو، ولكنها تنتشر باستمرار، وتتغير، وتتجمع، ويعاد تجميعها عبر الحقل العلائقي والاجتماعي".



يرفض علم النفس الاستطرادي فكرة الحداثة التي ترى أن الذات الفردية تتكون من هوية واحدة مستقرة. وبدلا من ذلك، فإنه يتصور أن الذات تتكون من هويات متعددة، تتشكل استطراديا. ومن المهم أن نشير إلى أنه في حين أن علماء النفس الاستطرادي يتشاركون الرأي القائل أن تشكيل الهويات يتم من خلال الطرق التي يموضع بها الناس أنفسهم في النصوص والحديث في الحياة اليومية، إلا أنهم يختلفون في طريقة فهمهم للبناء الاستطرادي للهوية.
يبتعد منظرو علم النفس الاستطرادي عن المفهوم المجرد للخطاب، على سبيل المثال، نهج إرنستو لاكلاو وشانتال موف، لصالح موقف أكثر تآثرية و تفاعلية interactionist، الا أنهم يختلفون في كيفية تحقيق التوازن بين تداول أوسع لأنماط المعنى في المجتمع من جهة، وإنتاج المعنى في سياقات محددة من جهة أخرى. وعلى هذا الصعيد يمكننا أن نميز بين ثلاث منظورات مختلفة لعلم النفس الاستطرادي:
• منظور ما بعد البنيوية الذي ينهل من مفاهيم فوكو عن الخطاب والسلطة والشخص.
• ومنظور تفاعلي يبني على تحليل المحادثة والمنهجية الاثنوغرافية ethnomethodology [الاثنوغرافيا تعني الدراسة الوصفية لطريقة وأسلوب الحياة لشعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات ].
• منظور توفيقي يستقي من المنظورين السابقين.
يرى منظور التفاعلية (التآثرية) أن الهويات تُكتشف تجريبيا بوصفها موارد يجندها الناس لإنجاز الأعمال من خلال الكلام. وينصب التركيز على الطرق التي توظف بها هويات خاصة في الكلام في سياق محدد لأداء إجراءات اجتماعية مثل إضفاء الشرعية على موقف معين. وعلى النقيض من هذا المنظور، فإن الفرعين الآخرين من علم النفس الخطابي - منظور ما بعد البنيوية الصارم والمنظور الذي يجمع بين ما بعد البنيوية والتفاعلية – يحددان ويحللان الطرق المعينة من الكلام التي تعد الهويات جزءا لا يتجزأ منها مثل الخطابات التي تُهيكل وتطوق الحديث عبر سياقات التفاعل.
ترى ما بعد البنيوية الفوكووية الهويات بوصفها نتاجات مواقع الأشخاص ضمن الخطابات. يصف ستيوارت هول، وهو من أتباع هذا المنظور ضمن علم الاجتماع، ومرجع العديد من علماء النفس استطرادي، مفهوم الهوية على النحو التالي:
"أوظف "الهوية" للإشارة إلى نقطة التقاء [...] الخطابات والممارسات التي تحاول استدماجنا "استجوابنا"، والتحدث إلينا أو الابقاء علينا في المكان (موضعتنا) بوصفنا أشخاصا اجتماعيين لخطابات معينة من ناحية، والعمليات التي تنتج الذوات subjectivities التي تهيكلنا كأشخاص يمكن اـلـ تحدث" عنها من ناحية أخرى." ( من يحتاج الى الهوية،1996).
الهويات بالتالي، هي نقاط إسناد مؤقت لمواقف الشخص التي تهيكلها الممارسات الخطابية. يتأمل التيار الثالث، الذي يحتضن البنيوية ولكنه يجمع بينها وبين التفاعلية أو التآثرية، الهوية باعتبارها نتاج خطابات محددة وموردا لإنجاز الأعمال الاجتماعية في التحدث ــ التفاعل على حد سواء. من هذا المنطلق، تم تطوير مفهوم الموضعة أو تحديد المواقع في نظرية الموضعة  " “Positioning Theory” من قبل المنظرين مثل برونوين ديفيز وروم هاري ولوك فان لانجينهوف. ففي محاضرة عام 2012، عرف البروفيسور روم هاري نظرية الموضعة:
[... استناداً إلى مبدأ انه ليس كل من ينخرط في حلقة الاجتماعية لديه فرص متساوية في الحقوق والواجبات لأداء أنواع معينة من الإجراءات الهادفة في تلك اللحظة ومع هؤلاء الناس، فإن الحقوق والواجبات، في كثير من الحالات المثيرة للاهتمام، تحدد من الذي يمكنه توظيف صيغة معينة من الخطاب... ويطلق على مجموعة الحقوق والواجبات والالتزامات قصيرة المدى والمتنازع عليها "موقف" أو "موضع" ].
ويُنظر لتحديد المواقع بوصفه جزءا لا يتجزأ من العمليات التي تُمكن الناس من بناء تصورات عن أنفسهم في التفاعل مع الآخرين. يتم فهم هذه العمليات على أنها عمليات التفاوض عندما يأخذ الناس بنشاط مواضغهم داخل الخطابات المختلفة والمتنافسة أحيانا. يتم التعامل مع الناس بوصهم منتجات من الخطابات ومنتجين لها في سياقات محددة بعينها؛ على هذا النحو، فهم أشخاص الخطاب كما أنهم وكلاء فاعلين في التنمية الاجتماعية والانتاج الثقافي والتغيير. إنهم محدودون بالكلمات التي توجد كموارد للحديث، ولكن توظيفها بوصفها موارد مرنة في الجدل، وتركيبها بطرق جديدة، ُثم اعادة توظيفها في سياقات مختلفة يمكن أن يسهم في التغيير.
في منظور كل من ما بعد البنيوية والتفاعلية التآثرية يجري التأكيد على أن الهويات أصبحت مجزأة وغير مستقرة في أواخر الحداثة حين يتم تركيبها عبر عدد من الخطابات المتناقضة وغالبا المعادية لبعضها البعض. ففي حين كانت أبعاد مثل الأمة، والطبقة، والجندر، والأسرة تعمل في وقت سابق بوصفها فئات مركزية تشكل جميع الهويات الأخرى، أصبح هناك الآن مجموعة واسعة من المراكز التي تنتج هويات متناقضة. هوية مثل مسيحي أو مسلم، على سبيل المثال، يمكن أن تتحدى هوية مثل نسوية أو عاملة. أو أن هوية الشخص بوصفه مستهلكا يمكن أن تتعارض مع هويته بوصفه ناشطا بيئيا. كمستهلك، قد يكون للشخص موضع في الخطاب الاستهلاكي الذي يدعو إلى حرية الفرد في الاختيار والمبدأ القائل بأن الجودة يجب أن تتطابق مع السعر، ولكن قد يكون هذا االموضع في صراع مع خطاب عن البيئة الذي ينظر إلى التسوق بوصفه وسيلة للحفاظ على الصالح العام؛ البيئة. هوية "المستهلك الأخضر" قد تنشأ من موضعة الفرد داخل الخطاب الهجين حين يتشابك الخطابان الاستهلاكي والبيئي معا. ويمكن فهم هذا بوصفه جزءا من "سياسات الهوية"حيث تم استبدال العلاقات التقليدية والمستقرة التي تستند، على سبيل المثال، على الطبقة أو الأسرة أو الأمة بتحديدات غير مستقرة جديدة خُلقت جزئيا من خلال الاستهلاك.
تعمل السلطة خطابيا من خلال موضعة الفرد لنفسه والآخرين ضمن فئات خطابية معينة. على سبيل المثال، في فئة العضو "المتحضر" الغربي أو "الهمجي" غير الغربي ضمن خطاب الاستشراق. ويمكن للنهج ما بعد البنيوي أن يلقي الضوء على هذه الأنماط الاستطرادية مع التركيز على العلاقات بين الخطابات المختلفة ومواقع الشخص وعلاقات السلطة التي تبنيها. في حين أن النهج الذي يجمع بين ما بعد البنيوية والتآثرية يمكن أن يُبصرنا بالطرق التي تسمح للناس، من خلال توظيف الخطابات المتاحة بوصفها مواردا مرنة في الحديث، موضعة أنفسهم والآخرين بطرق تدعم طروحات بعضها البعض، وتخلق إجماع على معنى، أو تتحدي طروحات بعضها البعض، مما يؤدي إلى التفاوض والجدل حول المعنى. الرأي السائد في الفروع الثلاثة لعلم النفس الاستطرادي، هو أن الهويات يتم بناؤها على أساس مورد خطابي مختلف ومتحول ولهذا فإنها علائقية، ناقصة، وغير مستقرة وبالتالي، ولكن ليس تماما، مفتوحة.
وبمصطلحات هول، نحن نشكل "الشعور بالذات" من خلال اختيار نسخة الذات من بين جميع النسخ الممكنة للـ"أنا". هذا إغلاق وهو، مع ذلك، مؤقت فقط. يقول هول:
" ولكن أليس قبول الوضع الخيالي أو السردي للهوية في علاقتها بالعالم يتطلب نقيضه - لحظة الاغلاق التعسفي ؟ الخطاب لا نهاية له : علامات لا حصر لها للمعنى. ولكن لأجل أن تقول أي شيء على الإطلاق يجب عليك أن تتوقف عن الكلام. بالطبع كل وقف كامل هو مؤقت. فما هو هذا الـ"إنهاء" اذا؟ [...] إنه نوع من الحصة، وهو نوع من الرهان أيضا: تقول مثلا: "أريد أن أقول شيئا، شيئا... فقط الآن. ليس إلى الأبد، ليس صحيح عالميا [...]. ولكن الآن فقط، وهذا هو ما أعنيه. وهذا هو أنا. عند نقطة معينة، في خطاب معين. نحن نطلق على هذه الإغلاقات التي لم تكتمل: "الذات"، "المجتمع"، السياسة" وما إلى ذلك. توقف كامل. ولكن هل حقا ؟ ليس هناك توقف كامل من هذا النوع." ( الذوات في الحد الأدنى، 1993: 136-137)
إنتاج المعنى، وبالتالي بناء الهوية، مقيد بمجموعة من الموارد الخطابية المتاحة للأفراد بحكم وضعهم الاجتماعي والثقافي والوضع الاجتماعي. ومن السهل بالنسبة لبعض الأفراد تبني /أو أن تُنسب اليهم بعض الهويات مثل هوية الغربي "المتحضر" ضمن الخطاب الاستشراقي أو هوية "الخبير" في الخطاب العلمي. علاوة على ذلك، فإن الطبيعة المحتملة القابلة للتغيير للهوية لا تعني أن الناس يبدءون من جديد مع هويات جديدة في كل مرة يتحدثون.
يمكن فهم الهوية التي يتم تفصيلها في وقت معين مثل ترسيبات الممارسات الخطابية السابقة.
أحد العوامل المسؤولة عن الاستمرار هو أن الفرد يجب أن يقدم نفسه بطريقة مقبولة ومعترف بها على حد سواء لنفسه وللناس الذين يتفاعل معهم.
تفتح حقيقة أن الناس يخلقون هوياتهم من خلال الــ "إغلاق" المؤقت إمكانية إنشاء الهويات الجماعية، والمجتمعات المتخيلة، كما يقول بندكت أندرسون (المجتمعات المتخيلة، 1983)، والتي تقوم على فكرة الهوية المشتركة ــــــ قل امرأة وعربية مثلا.
 وفي الوقت ذاته، فإن هذه المجتمعات لا يمكن أن تكون أمرا مفروغا منه لأن الإغلاق الذي يخلق لتحديد، وبالتالي يبني، المجتمع هو مؤقت فقط. ولأن الذاتية مجزأة، فإن الناس لا يشعرون بالضرورة أنهم يتقاسمون المصالح مع، أو يدينون بالولاء، لـلمجموعات ذاتها بشكل دائم.
في حادثة ما، يمكن أن يكون للناس انتماء سياسي إلى مجموعة، بينما في وقت لاحق يشعرون بعدوانية لبعض أعضاء المجموعة. على سبيل المثال، أنثى كينية تعمل مهندسة في انكلترا تستطيع، في حالات مختلفة، أن تموضع نفسها في هذه الصيغ على التوالي، عضو في الطبقة المسيطرة، وعضو في مجموعة مسيطر عليها؛ "النساء"، وعضو في الأقلية المضطهدة غير البريطانية.
يستلزم الإغلاق أن يقوم هذا الشخص بتثبيت هوية واحدة مؤقتا ــــــ عليك أن تتوقف عن الكلام، كما يقول هول. ولكن من حيث المبدأ، فإن الهوية مفتوحة على التغيير، وبالتالي، لا يمكن للمجتمع أن يذوب ويمكن خلق مجتمع جديد كل حين.
يؤدي مفهوم العقول والذوات والهويات بوصفها منتجات التفاعل الاجتماعي المشترك في الفروع الثلاثة لعلم النفس استطرادي إلى تحليل المنظومة البلاغية من النص والحديث ـــــــ بمعنى كيفية توجيه النص والحديث نحو العمل الاجتماعي - وليس التنظيم اللغوي للنص والحديث كما هو الحال في تحليل الخطاب النقدي. الاهتمام هنا هو في كيف يوظف الناس الخطابات بنشاط كموارد في التحدث ـــ في ــ التفاعل. ويُنظر إلى الكلمات بوصفها ملازمة للسياق أو "مولدّة"، كون معانيها تعتمد على السياق الخطابي، مثل انتشارها في الجدال لتبرير فعل ما.
النقطة التي تؤكد عليها تيارات علم النفس الاستطرادي الملتصقة بمنظور التفاعلية (لوحدها
 أو بالاشتراك مع ما بعد البنيوية) هو أن الناس في التفاعل الاجتماعي يعاملون بعضهم بعضا كوكلاء يمكن أن نستفيد منهم وبالتالي فانهم يمتلكون حصة في أفعالهم.
 ينطوي توظيف اللغة اليومية على معضلات(الحصة) فيما يكافح الناس لأجل بناء أطروحاتهم بوصفها تمثيلات واقعية ومستقرة من العالم، وإلى تفكيك أطروحات أخرى بوصفها نتاجا لمصالح شخصية أو جماعة.
هنا يستقي علم النفس الاستطرادي جزئيا من كل من المنهجية الاثنوغرافية وتحليل المحادثة والخطاب البلاغي. وبتسليطها الضوء على القواعد التي يتبعها الناس والتقنيات التي يوظفونها لإنجاز الأعمال من الكلام والبلاغة، تمنحنا المنهجية الاثنوغرافية وتحليل المحادثة نظرة ثاقبة عن كيف أن تركيب الناس للعالم مصمم خصيصاً لمواجهة التحديات المحتملة أو الفعلية وتقويض النسخ البديلة التي تهدد (مواضعهم) الحالية.

·         اضافة إلى المراجع في متن الدراسة، فإن المرجع الرئيس هو كتاب تحليل الخطاب: النظرية والاسلوب لماريان يورغنسن ولويز فيليبس الصادر عن دار سيج، 2002 (بالانكليزية).


تعليقات

المشاركات الشائعة