حداثات الانفجارات والاشتعال السريع.

 حداثات الانفجارات والاشتعال السريع.
أماني أبو رحمة.

لا تحدد مصطلحات الحداثة، وما بعد الحداثة، وبعد ما بعد الحداثة أسلوباً أو طريقة تفكير. إنها تمثل أدوات تسمح لنا بأن ننسب مقياس الزمن إلى الحقبة الثقافية. وحتى يمكننا أن نفهم لماذا كان الانهيار المالي العالمي في خريف عام 2008، علامة فارقة ونقطة انقلاب في التاريخ, فعلينا أن نُعيد فحص الحداثة من وجهة نظر الاستهلاك العالمي للطاقة. ففي مقالة كتبها الفيلسوف الألماني بيتر سـﻠﻮﺗﻴﺮدﻳﻚ ((Peter sloterdijkعام 2004، عرّف الطريقة الحداثية في الحياة بأنها ثقافة الاشتعال السريع , حالة خاصة من المدنية في عصر الوفرة وغزارة إنتاج الطاقة. واليوم ,يتابع سلوتيرديك, فإن أسلوب حياتنا لازال معتمداً على قدرته على تبديد مصادر الوقود الأرضي. وبكلمات أخرى، فلا زلنا نراهن على نوع من الانفجار. ونحن جميعاً مؤمنون متعصبون لهذا الانفجار، عبيدٌ لهذا التوافر السريع لكمية ضخمة من الطاقة. يعلق نيكولاس  بوريو على المقالة فيقول: من هنا نجد الرابط بين ثقافة الانفجار هذه , وأفلام المغامرة أو الإثارة. ذلك أن رمز حضارتنا الأساسي هو الانفجار. انفجار سيارة، أو طائرة، أو ناقلة بحرية، أو ربما كان برميل وقود ضخم هو وثن هذا العصر. أما العلاقة بين الحياة الحديثة والانفجار فتظهر حرفياً ورمزياً عبر القرن العشرين. فمن مدح للحرب , إلى تحرير مفاجئ لكمية كبيرة من الطاقة الجسدية والنفسية كما في الفنون الأدائية التي تمثلها مجموعة (غوتاي /Gutai الفنيّة اليابانيّة)  و((Viennese Actionism . فضلا عن الأشكال المتشظية من الدادائية، وآلات التدمير الذاتي لجان تانجلى ، وتصوير الإنفجارات في الفن الشعبي أو فن الفرقعة.
لقد تزامن  ظهور مصطلح ما بعد الحداثة  مع أزمة النفط العالمية عام 1973 , الحدث الذي أكد للعالم أجمع أن احتياط الوقود الأرضي محدود: نهاية الوفرة أو الغزارة التي حدثنا عنها سلوتيرديك. وبعبارة أخرى لقد أصبح مستقبلنا رهن مصادر الطاقة. وليس من المصادفة أيضاً أن شيوع توظيف مصطلح ما بعد الحداثة كان في النصف الثاني من السبعينيات، حين وظفه أولا المعماري تشارلز جينيكس ثم الفيلسوف الفرنسي ليوتار. كانت فكرة جينيكس هي نقد الحداثة المعمارية وتحديدا وظيفية باوهاوس وكوربوزييه . بينما أراد ليوتار أن يُنصِّب أنموذجاً جديداً معرفياً بالدرجة الأولى , يُمكننا من إطالة أمد الحداثة. وعليه،  فإن ما بعد الحداثة تطورت في أعقاب أزمة الطاقة، ونهاية الطفرة: طفرة الثلاثون عاما المزدهرة (1945-1975). تماماً كما يعقب الاكتئاب صدمة الفقد: فقد أيديولوجيات الوفرة المجانية، والتقدم الخطي الثقافي والسياسي والاجتماعي والتقني. كانت الأزمة ـ أزمة النفط العالمية ـ هي المشهد الأولي لما بعد الحداثة، تماماً كما كان تدفق النفط من بئر يرمز إلى حداثة القرن العشرين، تلك اللحظة المصيرية التي ارتكز فيها الاقتصاد على ثقة متناهية بمصادر الطاقة التي لا تنضب , واستندت الثقافة على توجهات مستقبلية لا حدود لها. ولكن أزمة النفط السبعينية مسحت هاذين المبدأين، وكان اختفاؤهما تحديداً هو موعد ولادة ما بعد الحداثة. ومنذ تلك الأزمة لم يعد الاقتصاد معتمداً على استغلال المواد الخام , فقد انفصلت الرأسمالية عن المصادر الطبيعية، واهتمت إما بالاختراعات التقنية كما في اليابان، أو بتمييل الاقتصاد (financiarisation) وهو الخيار الأمريكي. والآن وبعد أن قطع الاقتصاد روابطه مع الجغرافيا أعلنت الثقافة طلاقها من التاريخ: عمليتان متوازيتان تميلان إلى التجريد. 

تعليقات

المشاركات الشائعة