الرأسمالية وما بعد الحداثة: سلاسة الهجرة من حقيقة الى أخرى

              الرأسمالية وما بعد الحداثة: سلاسة الهجرة من حقيقة الى أخرى
أماني ابو رحمة

يثير  تناول ماركس ودولوز وغواتاري للرأسمالية بوصفها احتمالية مظلمة لازمت جميع النظم الاجتماعية السابقة الدهشة. رأس المال ـ كما يقولون ـ هو (الشيء غير المسمى) والبغيض الذي تجنبته المجتمعات الإقطاعية والبدائية فعلاً، ولكنه عندما وصل، نزعت الرأسمالية القداسة عن الثقافة باسم رأس المال. إنه النظام الذي لم يعد يحكمه أي قانون متعال، بل على العكس، إنه يفكك كل هذه الرموز فقط لإعادة تثبيتها على نحو مخصص عند الحاجة. إن حدود الرأسمالية ليست ثابتة عند صيغة معينة ولكنها تحدد (ويعاد تحديدها) براغماتيا وتحسينياً على نحو مستمر.
وهذا يجعل الرأسمالية مثل (الشيء) في فيلم جون كاربنتر الذي يحمل الاسم نفسه (الشيء، 1982): وحشية، كيان من البلاستيك، وقادرة على التأيض واستيعاب أي شيء يتصل به. ويحكي الفيلم عن رحلة استكشافية علمية أمريكية إلى المناطق المتجمدة في القارة القطبية الجنوبية قًطعت من قبل مجموعة من النرويجيين المجانين الذين كانوا يلاحقون كلباً ثم أطلقوا النار عليه. ثم قامت مروحية بتتبع آثار الكلب المصاب دون وجود أي تفسير للمطاردة. وأثناء الليل، تحول الكلب لوحش وقام بالهجوم على الكلاب الأخرى في القفص وكذلك على أعضاء فريق التحقيق. وسرعان ما أدرك الفريق أن روح كائن فضائي لها القدرة على السيطرة على الأجسام الأخرى هي من تقوم بذلك مع عدم معرفتهم بمن تعرضوا للهجوم.
رأس المال ـ كما يقول دولوز وغواتاري ـ هو رسم مبهرج متعدد الأشكال والألوان أكثر من أي وقت مضى. إنه هجين غريب من تقاليد الحداثة الفائقة وتلك التي عفا عليها الزمن. وفي السنوات التي تلت كتابة دولوز وغواتاري لكتابهما (الرأسمالية والفصام) بدا الأمر كما لو أن نبضات نزع الحدود ((deterritorializing (1) للرأسمالية قد اقتصر على التمويل، فيما تركت الثقافة وحدها خاضعة لقوى إعادة الحدود (reterri torializa tion). هذا الشعور بالضيق والشعور بأن لا شيء جديد يلوح بالأفق هو في حد ذاته (لا شيء جديد). ولذلك نجد أنفسنا في(نهاية التاريخ) سيئة السمعة التي هلل لها فرانسيس فوكوياما بعد سقوط جدار برلين. لم تنتشر أطروحة فوكوياما التي تدعي بأن التاريخ قد بلغ ذروته مع الرأسمالية الليبرالية على نطاق واسع فحسب، ولكنها قبلت بل وافترضت على مستوى اللاوعي الثقافي أيضاً. ويذكر أنه حتى عندما طرح فوكوياما فكرته أن التاريخ قد وصلت إلى شاطئه النهائي، لم تكن فكرة متغطرسة أو ازدائية. لقد حذر فوكوياما أن مدينته المشرقة ستكون مسكونة بالأشباح ولكنه يعتقد أن أشباحها نيتشويون وليسو ماركسيين. إن بعضاً من صفحات نيتشة الأكثر تبصراً هي تلك التي يصف فيها التشبع الزائد للعصر بالتاريخ. الأمر الذي سيقود العصر إلى مزاج خطير من السخرية من نفسه ـ كما كتب في (ترنيمة للحياة) ـ وبالتالي إلى صيغة من الكلبية أكثر خطورة، تستبدل فيها المشاركة والاندماج بلمسة كوزموبوليتانية. وهكذا يصبح من السهل تصور نهاية العالم: حالة رجل نيتشه الأخير، الذي شهد كل شيء، ولكنه ضعيف بسب الوعي الزائد بالذات على وجه التحديد. لا يختلف موقف فوكوياما عن موقف فريدريك جيمسون، الذي ادعى أن ما بعد الحداثة هي المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة. وقال أن فشل المستقبل كان جوهرياً في المشهد الثقافي ما بعد الحداثي. وقد تنبأ بدقة أن هذا المشهد سوف تهيمن عليه المعارضة أدبية(pastiche)  والإحياء (revivalism) ـ بدلاً من الأصالة والابتكار.
وعلى الرغم من  أن جيمسون قد قدم سببا مقنعا للعلاقة بين ما بعد الحداثة الثقافية وميول معينة في الرأسمالية الاستهلاكية (أو ما بعد الفوردية)، إلا أن مصطلح ما بعد الحداثة بقي خلافيا بشكل كبير وظلت معانيه غير مستقرة ومتعددة. والأهم من ذلك ـ أن بعض العمليات التي وصفها تحليل جيمسون تفاقمت الآن وأصبحت مزمنة لدرجة أنها قد تغيرت كماً ونوعاً. لذلك يرى بعض النقاد  أن توظيف مصطلح (الواقعية الرأسمالية) أكثر ملائمة من مصطلح ما بعد الحداثة في توصيف المرحلة الحالية ويعزون الأمر إلى ثلاثة أساب:
أولاً: في الثمانينيات من القرن الماضي وفي الوقت الذي طرح فيه فريدريك جيمسون أطروحته عن ما بعد الحداثية كان هناك بديلا سياسيا للرأسمالية ـ حتى وان كان اسميا أو غير فاعل بما فيه الكفاية. أما في الوقت الحالي فإن ما نتعامل معه هو إحساس أعمق واشمل من الإعياء والعقم الثقافي والسياسي.
وثانياً: أن ما بعد الحداثة تتضمن علاقة من نوع ما بالحداثة. فقد بدأ جيمسون العمل على استجواب الفكرة التي تقول بأن الحداثة تمتلك إمكانات ثورية بحكم ابتكاراتها الشكلية وحدها ـ وهو رأي أدورنو على سبيل المثال. ولكن ما حدث ـ وفقا لجيمسون ـ هو إدماج الموتيفات الحداثية في الثقافة الشعبية (فمثلا ظهرت تقنيات السريالية في الإعلانات التجارية). في الوقت نفسه فقد تم استيعاب وتسليع أشكال حداثية خاصة. والنتيجة أن عقائد الحداثة الأساسية التي تقوم على الإيمان بالنخبوية والنموذج الثقافي المونولوجي من الأعلى إلى الأسفل قد واجهت تحدياً ثم رفضاً باسم التعديدية والاختلاف والتنوع. ولكن الأمر يختلف تماما في الوقت الراهن ذلك أن الواقعية الرأسمالية قد اعتبرت أن هزيمة الحداثة أمراً مفروغاً منه. وقد تعاود الحداثة الظهور من وقت لأخر ولكنها تظهر فقط بوصفها نمطاً جماليا جامداً وليس طريقة حياة على الإطلاق.
وثالثاً: لقد مر جيل كامل منذ انهيار جدار برلين. ففي الستينيات والسبعينيات، كانت مشكلة الرأسمالية هي كيفية احتواء واستيعاب الطاقات من الخارج. ولكنها الآن تواجه مشكلة مناقضة تماما وهي: كيف يمكنها أن تعمل دون خارج مغاير تحتوية وتصلحه وتدجنه ؟ وبالنسبة لمعظم الشباب تحت سن العشرين في أوروبا فإن عدم وجود بدائل للرأسمالية لم تعد حتى قضية تستحق النقاش. فقد احتلت الرأسمالية بسلاسة كل أفق ممكن تصوره. وقد اعتاد جيمسون أن يسجل برعب بالغ الأساليب التي تسربت بها الرأسمالية إلى اللاوعي. والآن فإن حقيقة أن الرأسمالية قد استعمرت حتى أحلام البشر أضحت أمرا مفروغا منه ولا يستحق التعليق. ومن الخطورة والتضليل تخيل أن الماضي القريب كان حالة تشبه نعيم ما قبل الهبوط من الجنة من ناحية انه يعج بالإمكانيات السياسية، إذ علينا دائماً تذكر الدور الذي لعبته عملية التسليع في إنتاج الثقافة طوال القرن العشرين.
 إلا أن النضال القديم بين التحول أو الانقلاب (detournement) (2) واستعادة المفقود (recuperation) وبين التخريب والتأسيس يبدو أنه قد استنفذ تماماً. وما نقوم به الآن ليس إدماج incorporation)) المواد التي بدت سابقا ذات قدرات تخريبية محتملة، ولكننا وبدلا من ذلك ـ نتعامل مع حالات ما قبل الإدماج (precorporation):التنسيق الاستباقي وتشكيل الرغبات والتطلعات والآمال بواسطة الثقافة الرأسمالية. والشاهد، على سبيل المثال، هو إنشاء مناطق ثقافية (بديلة) أو (مستقلة) مستقرة تكرر إلى ما لا نهاية لمحات التمرد والاحتجاج القديمة كما لو أنها تقدم للمرة الأولى. أن تلك الثقافات (البديلة) و(المستقلة) لا تعين شيئاً خارج الثقافة السائدة، وإنما هي أنماط، بل أنها في الواقع أنماط سائدة داخل التيار الرأسمالي نفسه.
لقد كان معنى أن تكون واقعياً هو أن تتصالح مع الواقع المختبر بوصفه صلباً غير منقول ولكن الواقعية الرأسمالية تهدف إلى إخضاعنا ـ مثل أجزاء قابلة للاستبدال في آله كونية ـ" لواقعيه لدنة بلا حدود، قادرة على إعادة تشكيل نفسها في أيه لحظة".  وأصبحنا في مواجهة ما أطلق عليه جيمسون يوماً: الحاضر القابل للاستبدال (fungible present) الذي يكون فيه المكان والنفوس قابلة لإعادة التشكيل والتغير حسب الرغبة". وأصبح الواقع هو خيارات متعددة توفرها الوثائق الرقمية ـ التي تتميز بسهولة استعادتها وعرضها ـ وهكذا يمكننا استدعاء اللحظة السابقة في أي وقت حيث لا قرار نهائي وكل الأمور قابلة للمراجعة والتغير بفضل الاحتفاء بالتعددية: تعددية الحقيقة.
وبذلك يتمتع المرء بقدرة على (الهجرة) من حقيقة إلى أخرى بسلاسة.  تتضح هذه الفكرة في رواية أرسولا لو جين (مخرطة السماء، 1980). تتحدث الرواية عن جورج أور، وهو رجل تتحقق أحلامه حرفياً ولكن هذا الأمر سرعان ما يتحول إلى كارثة عندما يستحثه طبيبه الخاص هاربر على أن يحلم بحل مشكلة الاكتظاظ السكاني، فيستيقظ ليجد نفسه في عالم اختفى منه البلايين من البشر بسبب طاعون: الطاعون الذي وصفه جيمسون ـ في معرض حديثه عن الرواية ـ بأنه غير موجود الآن، ولكنه سيجد مكانه بسرعة في ذكرى الماضي القريب. تكمن قوة الرواية في الحكايات الاستعادية التي تتميز بآلياتها المألوفة ـ لأننا نمارسها كل ليلة عندما نحلم ـ والغريبة جداً في الوقت نفسه. إذ كيف يمكن لنا أن نصدق قصصاً متعاقبة أو متزامنة تناقض بعضها البعض ؟ ولكننا نعرف من كانط ونيتشه والمحللين النفسيين أن اليقظة ـ مثلها مثل الحلم ـ تعتمد على سرد مغربل من هذا القبيل. وإذا كان الواقع لا يطاق، فإن أي واقع نبنيه لا بد أن يكون نسيجا من التناقضات. إن ما يميز كانط ونيتشه وفرويد عن العبارة المبتذلة المملة أن (الحياة ليست سوى حلم) هو الإحساس بالرضا والتوافق مع الحكايات التي نعيشها. وفكرة أن العالم الذي نخبره هو وهم ذاتي تنبع من داخل عقولنا لتعزينا بدلا من أن تزعجنا، نظرا لأنها تتفق مع الأوهام الطفلية عن القدرة الكلية. ولكن الاعتقاد بأن باطننا يدين بوجوده إلى التوافق المتخيل تحمل عبوة استيحاشية تم تسجيلها في مخرطة السماء. وعندما يصبح الآخرون شهود عيان على الواقع المغلف بالأحلام مثل المعالج هابر، الذي يسعى للتلاعب ومراقبة قدرة أور، والمحامية هيذر ليلاك، يجوز لنا أن نسأل كيف يكون العيش من خلال تحقيق حلم شخص آخر ؟ يعجز هابر عن الحديث. ذلك أنه يرى التحول والوصول والتغيير. أما المحامية المرعوبة فإنها تتقبل العالم الجديد بوصفه عالما حقيقياً. هذه الإستراتيجية ـ قبول غير القابل للقياس والذي لا معنى له من دون سؤال ـ كان دائماً أسلوب التعقل المثالي، ولكن الغريب أنه يمتلك دوراً خاصاً في الرأسمالية المتأخرة: لوحة دولوز الموتلية المبهرجة، التي تحوي كل شكل ولون ـ وبذلك يصبح الحلم بـ/ وإلغاء القصص الاجتماعية يضاهي سرعة إنتاج والتخلص من السلع. وفي ظل هذه الظروف من الخوف وانعدام الأمن الوجودي، يصبح النسيان إستراتيجية تكيف.
هوامش:
  1. نزع الحدود وإعادة الحدود: وظف دولوز وغواتاري مصطلحات نزع الحدود وإعادة الحدود deterritorialization reterritorialization لوصف عملية التحول المستمرة، أن عملية نزع الحدود Deterritorialization هي العملية التي يتم بها التراجع عن ما تم القيام به مسبقاً. مثل نزع السيطرة عن الأماكن التي تم تأسيسها بالفعل. ويتبع نزع الحدود عادة إعادة الحدود reterritorialization. وهي عملية لإعادة فعل ما تم التراجع عنه إلى ما تم فعله. عدا أنه في هذه المرة يتضمن فعل إعادة الفعل سلطة جديدة. مثال نزع الحدود وإعادة الحدود هو حملة هتلر الدعائية التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية. فقد نزع الحدود بحظر وحرق الكتب التي تتعارض مع قيمه، وأعاد الحدود من خلال استبدالها بالكتب التي تتضمن قيمه ومبادئه
  2. التحول أو الانقلاب أو الانحراف (بالفرنسية détournement) هو أسلوب طورته مبدعي المواقف الأمميون أو الأممية الموقفية Situationist Internationals عام 1950. وتتمثل في"تحويل تعبيرات النظام الرأسمالي ضد نفسه". وقد اعتمد هذا الأسلوب على المزاح السياسي الهدام، وهو التكتيك المؤثر الذي أطلق عليه مصطلح المزحة الموقفية situationist prank وهو الموقف الذي كررته حركة البانك punk movementأواخر السبعينات كما انه قد ألهم حركة التشويش الثقافي في أواخر الثمانينات. وبشكل عام يمكن تعريفه بأنه الاختلاف على عمل وسائل الإعلام السابق، بحيث يكون لتلك الوسائل المنشأة حديثاً معنى عدائي أو تتناقضي مع الأصلي. شريطة أن يكون العمل الإعلامي الأصلي الذي يجري قلبه مألوفا نوعا ما لدى الجمهور المستهدف، بحيث يمكنه أن يقدر الرسالة المعارضة الجديدة. يشبه الانقلاب Détournement المحاكاة ساخرة، ولكنه يوظف محاكاة أكثر مباشرة بدلا من بناء العمل جديد يلمح إلى الأصلي. ويمكن مقارنة مصطلح الانقلاب بمصطلح استعادة المفقود أو الاستجمام recuperation، والذي يعني أن الأعمال والأفكار الهدامة في الأصل هي نفسها التي يجري انتحالها وتخصيصها لأغراض معينة من قبل وسائل الإعلام الرئيسية.

تعليقات

المشاركات الشائعة