دولوز وغواتاري وجيمسون: من التحليل الفرويدي واللاكاني إلى التحليل الفصامي .

دولوز وغواتاري وجيمسون: من التحليل الفرويدي واللاكاني إلى التحليل الفصامي .
أماني أبو رحمة.
من الواضح أن دولوز وغواتاري يرفضان فكرة الذات أو الأنا الثابتة والمستقرة والموحدة، تماما كما يرفضان موقف الشخص الثابت. ويعتقد الفيلسوفان الفرنسيان بأن (الإيجو) يجب أن تزال لصالح اللاوعي حيث الرغبة واللا-سيطرة. وبرفضهما لفكرة الذات الحداثية العقلانية المستقرة ولفكرة الذات المركبة اللاكانية، يؤكد دولوز وغواتاري على أن الأشخاص في ما بعد الحداثة هم كائنات رغبة فصامية. وقد قادت هذه الفكرة عن الشخص الفصامي الفيلسوفين إلى التحول من التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني إلى التحليل الفصامي schizoanalysis. ويرى دولوز وغواتاري أن (الفصامي السليم) يتمتع بلاوعي منتج وانه لا يتخيل أو يتوهم، ويؤكدان انه يصنع وينتج الحقيقة. وهذا المفهوم يتعارض تماما مع المفهوم الفرويدي واللاكاني عن اللاوعي الذي يراه الاثنان دراميا وهميا رمزيا ومائعًا، ولذلك فإنهما يربطان الرغبة بالفقد. بمعنى أن الرغبة ترغب بما هو وهمي وغائب ومقموع. وهكذا فإن الرغبة بالنسبة لكليهما متورطة تماما بكل ما هو مفقود ويحتاج إلى تمثيل. وهكذا، فإن الرغبة تفسح المجال لتمثيل ما هو مفقود، المغامرة الأُوديبية، الأنا المثالية. ولكن الفصامي لا يمكنه اختبار الفقد، وبالنسبة له فإن اللاوعي منتج دائما وغير وهمي على الإطلاق. ولأن اللاوعي الفرويدي غير مثمر فإن التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني لن يقدما شيئًا للإنسان. لذلك فإن الفصامي يحلل ويفكك الرموز ويعيد تشكيل الحوار في عملية التحليل النفسي، وبالتالي فإنه يغير مظهر الدلالة إلى الواقع ويرفض أن يكون أُوديبيًا. والفصاميون " يهربون من الترميز، ويحللون الرموز ويفرون في جميع الاتجاهات لـ[أنهم ] أيتام (بلا أم أو أب أو ذات)، ملحدين (بلا معتقد) ورحالة (بلا عادات أو تخوم محددة)". وهكذا فإن الفصامية عند دولوز وغواتاري لن تسقط في فخاخ السلطة والقمع وشبكات استبداد الدوال التي تشبع بها المجتمع وممارسات التحليل النفسي. وقدرة الفصامي على تحليل وتفكيك الرموز هي التي يربطها دولوز بالرأسمالية المعاصرة، ذلك أن الرأسمالية المعاصرة يمكنها أن تقحم نفسها في أي مكان أو في كل مكان بوصفها قادرة على تفكيك الرموز والخوض في غمار الطرق الوعرة.
لا يرى دولوز وغواتاري أن الرأسمالية متجانسة أو وحدوية. إنها لا تمتلك (الإيجو) أو الأنا الخاصة أو أي هوية متوحدة، وبدلا من ذلك فإنها تعمل بوصفها مدمرة متعددة الأشكال للرموز. إنها تحطم باستمرار الحواجز الثقافية والرمزية واللغوية وتخلق تبادلا دائما في الحدود والتخوم. لذلك يؤكد الفيلسوفان على أن "الحضارة تحدد من خلال فك رموز ونزع حدود تخوم تدفقات الإنتاج الرأسمالي" ويؤكدان أيضًا أن التدفق الفصامي يماثل التدفقات الرأسمالية من ناحية قدرتهما على فك الرموز.
فريدريك جيمسون : الفصام والاكتئاب والقهر النوستالجي.
ولا بد من الإشارة إلى أن دولوز وغواتاري يتفقان مع فريدريك جيمسون في تحديد الإنسان ما بعد الحداثي بوصفه فصاميا وبربط الفصام بالرأسمالية، إلا أن جيمسون الذي ينطلق من خلفية ثقافية مغايرة، يرى " أن الفصام هو تمثيل الإنسان ما بعد الحداثي الذي منح رؤية غير متمايزة للعالم من حوله ". ويقول ""الخبرة الفصامية هي خبرة الدلالات المادية المنفصلة والمنعزلة التي فشلت في الترابط والوصول إلى سلسلة متماسكة. وتبعا لذلك فإن الفصامي لا يعرف هوية شخصية بإدراكنا، لان شعورنا بالهوية يعتمد على إدراكنا باستمرارية الـ(أنا) و(لي) على مر الزمن" . الأمر الذي فصمته مرحلة المرآة اللاكانية. ويرى جيمسون أن الرأسمالية المعاصرة قد وسعت أعراض الفصام إلى الجماهير العريضة في صيغة الثقافة ما بعد الحداثية. ذلك أنه ينظر إلى ما بعد الحداثية والفصام بوصفهما قوى ثقافية تحلل وتشوش، وتبعاً لذلك فإن التشويش الفصامي يحطم إمكانية المنظور الحاسمة التي سادت مرحلة الحداثة. وفي ظل هذا التشظي فإن الرأسمالية والاستهلاكية يزدهران دون معارضة تذكر. وعندما يقول بأن الثقافة ما بعد الحداثية هي ثقافة فصامية فإنه يعني أنها ليست إنسانية كاملة، ذلك أنها كالفصامي تماما " فشلت في التوافق الكامل مع عالم اللغة والحديث "، وتميزت بالاقتلاع والانفصال عن التاريخ وبأنها خارج الزمن الإنساني.
وفي ذات السياق يذكر نيكولاس بوريو فريدريك جيمسون الذي ذكر في إحدى مقالته أن السمة الأساسية لما بعد الحداثة هي الفصام، أو لنكن أكثر دقة فإنها النتيجة الأكثر تدميراً لما بعد الحداثة، حين يفقد العقل قدرته على إدراك الزمن مرتباً ومنظماً، وعلى استيعاب الخبرات بوصفها سلسلة متجانسة ومتماسكة ومترابطة، مما يؤدي إلى نبذ المحاولة لصالح الافتتان بحاضر براق ومتلون . أما الفيلسوف سلافوي جيجيك فيقول بأن الاكتئاب هو موقف ما بعد حداثي بامتياز، لأنه يسمح لنا بالعيش في مجتمع العولمة، في الوقت الذي ندين فيه بالولاء لجذورنا الضائعة وفي النهاية لا بد أن يُعرِّج بوريو على فرويد الحداثي ومنظر الاكتئاب والفصام والحداد. ذلك أن أهم أعراض الاكتئاب الناتج عن الفقد والتفجع ـ تبعاً لفرويد ـ هو عملية حث المريض على تبني صفات معينة من صفات الفقيد إلى درجة التماهي معه كليا أو جزئيا، وهذا النوع من الاكتئاب والإحلال التوحدي شائع في ما بعد الحداثة، ويمكن التعرف عليه من أدوات الرواد المجددين التي طغت في أواخر التسعينيات: الاقتباس الرسمي من مفردات التجريد الهندسي، وتبني مفاهيم راديكالية سياسياً في النصوص النقدية.... الخ، وكانت النتيجة هي إفراغ الحداثة من معناها بتحويلها إلى شكل من القهر النوستالجي.

يرى جيمسون أن النوستالجيا ارتبطت في مجال الفن والأدب بالمعارضة الأدبية (Pastiche)، ويسرد في دراسته (ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي) عدة أمثلة من السينما والتلفزيون والرواية لتوضيح فكرته. ففي أفلام سينمائية مثل (ساعي البريد يطرق الباب مرتين دائما Postman Always Ring Twice) و(حرارة الجسد Body Heat) و(الحماية المزدوجة Double Indemnity) و(الحي الصيني Chinatown) هناك محاولات فنية لإحياء الماضي القريب أو البعيد عبر الصورة السينمائية. ويوضح جيمسون أنه لا يقصد الإشارة إلى نمط الأفلام التاريخية فقط، لان الأساليب الفنية التي تتبعها ما بعد الحداثة في الفن والأدب لاستعادة الماضي تختلف جذريا عن الأساليب والتقانات التقليدية للرواية التاريخية. ففي ما بعد الحداثة يتم الاعتماد على المعارضة الأدبية والسخرية والتهكم والمحاكاة عبر الإحالة إلى الرموز والصور وليس الواقع، كما تفعل الرواية التاريخية. ويضيف جيمسون فيلم (حرب النجوم Star Wars) إلى الأمثلة السينمائية الواردة أعلاه ليشرح أن هذا الفيلم هو من أفلام الخيال العلمي الذي تدور أحداثه حول المستقبل المتخيل، ولكنه ينتمي إلى أفلام النوستالجيا في ما بعد الحداثة لأنه يستعيد الماضي بطريقة غير مباشرة. فالفيلم يسعى لمحاكاة المسلسل التلفزيوني الذي يحمل نفس الاسم والذي حظي بشهرة واسعة في الماضي، وبهذا فإنه لا يعكس صورة الواقع الذي ينتمي للماضي، ولكنه يستعيد صورة لرمز من رموز الثقافة الشعبية في الماضي . وفي مجال الرواية يستشهد جيمسون بأعمال إي. أل. دكتوراو مثل (كتاب دانيال The Book of Daniel) و(موسيقى الراجتايم Ragtime) و(البحيرة لون Loon Lake)، والتي يعود من خلالها دكتوراو إلى بدايات القرن العشرين، ويقوم من خلال الدمج والتركيب بين عدة تقانات سردية ما بعد حديثة، بمحاكاة واسعة للماضي، أو للماضي كما يتجلى من خلال الرموز والصور التي اختزنتها الذاكرة الثقافية الجمعية عنه.

تعليقات

المشاركات الشائعة