السياسات الحيوية بين حنة أرندت وميشيل فوكو.

السياسات الحيوية بين حنة أرندت وميشيل فوكو.
أماني أبو رحمة
كتبت حنا أرندت الفيلسوفة السياسية والذي يبدو أن فوكو قد قرأها جيدا عن الحياة والسياسة بمعنى عن "السياسات الحيوية" بطرق شتى، غير أنها لم تذكر المصطلح (السياسات الحيوية) أبدا. في كتابات فوكو عن السياسات الحيوية في عام 1976حديث غير مكتمل على الطريقة الغريبة التي تربط الحياة بالقانون في السياسة الحديثة. في الحداثة، يقول فوكو، أصبحت احتياجات الإنسان، وإمكانيات الإنسان، وقدرات الإنسان تخضع لتدخلات القانون : أصبحت بمثابة صرخة قوية لسياسة ثورية جديدة تستند على "حقوق الإنسان والمواطن" ولكن، يلاحظ فوكو، أن هذا قد في حدث في الوقت نفسه الذي بدأت فيه السلطة الحيويه ترسيخ سيطرتها على الجسم من خلال الأنظمة الجديدة للسلطة / المعرفة. في مركز "حقوق الإنسان"، يقول فوكو، بالتالي مأزقا غريبا. فالمفهوم الحداثي للحياة يشير لجوهر واحد وثابت بدرجة أقل من كونها مجموعة معايير تتحول باستمرار (معايير متعلقة بالصحة، والرعاية الاجتماعية، والسلامة، والأمن) التي تقيس مجموعة من المطالب التي لا حدود لها في جوهرها (فأنت لا يمكن أبدا أن تمتلك ما يكفي من السلامة أو الصحة، بعد كل شيء).
ولأن هذه المعايير والمطالب استعصت على الأشكال القانونية التي أُقترحت لحماية الحياة (لأن القانون يعمل كلاسيكيا من خلال التعاريف المستقرة للحدود الواضحة)، فإن "حقوق الإنسان" لا يمكن أن تتحقق في ظل غياب الجاهزيات الإدارية ـــ الجاهزيات المحددة، الجاهزيات ذات الهياكل المتغيرة والتوسعية كما الحياة غير المحدودة والتي لا يمكن التنبؤ بها والذي من المفترض أن تديرها هذه الجاهزيات. وكانت النتيجة أن الحياة البشرية دخلت في القانون في اللحظة نفسها حين أحكمت السلطة الحيويه قبضتها على الحياة بوصفها سلسلة من العمليات الغامضة، والتي لا تنتهي وسلمت الحياة إلى جاهزيات الحاكمية االتي سرعان ما بدأت عملياتها تتجاوز القانون من الداخل. وهكذا فإن "حقوق الإنسان" قد أعلنت في اللحظة نفسها عندما فقد القانون اتصاله بالحياة. وكما نعلم، فإن فوكو يواصل دراسة هذه المعضلة من بواطن السياسة، عن طريق التحقيق في الطريقة التي اكتسبت بها السلطة طريقا إلى الحياة من خلال مشكلة الجنسانية.
 قبل ثلاثين عاما، على النقيض من ذلك، درست أرندت بالفعل معضلة مشابهة ــ ولكن فقط من خارج السياسة. كانت أرندت تكتب في خضم أزمة اللاجئين التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحققت أرندت في معضلة حقوق الإنسان انطلاقا من موقف اللاجئين الذي أصبحوا "بلا دولة" أو " بلا جنسية" ؛ الذين تم استبعادهم من كل الحمايات القانونية بإستثناء حقوق الإنسان. تركزت تأملات أرندت التي ظهرت في عام 1951، بعد عام من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ثم نشرت لاحقاً في كتابها الذي يحمل عنوان” أصول التوليتارية” في الفصل التاسع المخصص لـ “إضطراب حقوق الإنسان”، حول مأزق متأصل في ذلك الإعلان. إذ من الواضح أن "من هم بلا جنسية" في ذلك الوقت هم من كانوا في أشد الحاجة إلى حماية حقوق الإنسان، ولكنهم كانوا الأقل حظاً ضمن المحميين بقانون حقوق الإنسان. ولأنه لا يوجد حق يمكن فرضه خارج أفق المجتمع السياسي القائم، كانت حقوق الإنسان بلا معنى بالنسبة للسكان الذين لم يعودوا ينتمون إلى أي جماعة سياسية. وهذا، بدوره أدى إلى معضلة أثارت فكر أرندت. إذ في اللحظة نفسها التي فقدوا فيها وطنهم وتم وصف هؤلاء "المحرومين من الجنسية" بأنهم "بشر أنقياء" (كما البشر بشكل عام، وليس كأعضاء في هذ المجتمع السياسي أو ذاك كأن يكونوا "بريطانيين" أو "فرنسيين")، لم يعد من الممكن الاحتجاج بـ "حقوقهم الإنسانية " بشكل فعال. فالفرد الذي يجب أن تطبق عليه حقوق الإنسان من حيث المبدأ، الإنسان المجرد والعاري، والإنسان في أبسط صورة وجودية له هو الفرد الذي لا تطبق عليه حقوق الإنسان عملياً، بل ولا يمكن أن تطبق على الإطلاق. مجتمع هؤلاء الذين لا ينتمون إلى أي مجتمع أخر عدا الإنسانية، والذين من حيث المبدأ ينبغي أن يكونوا في صميم جميع بنود إعلان حقوق الإنسان، مستثنون للمفارقة من أي حقوق للإنسان. 
ومثل إعلان "حقوق الإنسان “rights of man”" الذي حلله فوكو، فإن حقوق الإنسان human rights التي تناولتها أرندت أعلنت في نفس اللحظة عندما فقد القانون اتصاله مع الحياة. في تفكير كل من فوكو وأرندت (وإن بطرق مختلفة جدا، والكثير أيضا من النتائج المختلفة)، فإن إدراج الحياة في إطار القانون يتزامن مع استبعاد الحياة من القانون. في كتابها (حالة الإنسان)، تتقصى أرندت اشكالية اخرى من إشكاليات الحياة والسياسة التي تناولها فوكو بعد ذلك بكثير. ونقطة الانطلاق عند أرندت هي الإنعكاس المفاهيمي الذي حرض فوكو أيضا. بالنسبة لأرندت، يتجلى الطابع المميز للسياسة الحديثة بالترجمة السيئة لصياغة أرسطو للإنسان: فالإنسان عند الحداثيين "حيوان اجتماعي" و ليس "حيوانا سياسيا". وبذلك فإن الفكر الحديث نقل إلى المجالات السياسية من الفعل والعمل مفهوم "الضرورة necessity". المفهوم الذي، بالنسبة لأرسطو، كان السمة المميزة لإنتاج وإعادة إنتاج الحياة (من خلال العمل في المنزل وعملية الولادة نفسها)، وأنه على هذا النحو، كان نقيضا جدا لكل من العمل والفعل. وتشمل أعراض تحويل الحياة إلى السياسة، في رواية أرندت، اختفاء الإقناع والتحرر من السياسة، واستبدال الخلود بالموت بوصفه النموذج الرئيسي لكتابة التاريخ السياسي، وظهور تقنيات عنيفة من الحكومة تمليها " ضرورة "الدفاع عن المجتمع ضد إمكانياته الخاصة من الوفيات والمواليد. ويبدو أن قلق أرندت من السياسة الحديثة، في بعض جوانبها على الأقل، قد قادها الى أن تحكي لقاء الحياة والسياسة من خلال جانر "قصة الرعب": "الحياة"، في تقديم أرندت، تبدو في كثير من الأحيان، مثل كتلة لزجة على وشك الهجوم على السياسة.

إن انتقادات أرندت للاختزال الحداثي للسياسات إلى مجرد حماية الحياة، ودراستها لإدراج الموت في التأريخ وتحقيقها في مفهوم "الحياة البشرية المقدسة" بوصفه من مخلفات علمنة الخلاص secularization of salvation، وفوق كل ذلك تفكيرها في مشاكل الولادة ونسبة المواليد natality- تبدو كلها اليوم مقدمات قابلة للمقارنة مع تحقيقات فوكو اللاحقة. وبفهمه بهذه الطريقة، يوفر كتاب (حالة الإنسان ) استجابة مكملة للحدث العام ذاته ــــــ مشكلة الحياة والسياسات - التي عالجها فوكو في (ارادة العرفان): وفي حين ان نص فوكو يهتم بمشكلة الحياة من قبل السياسات، تتناول أرندت مشكلة السياسات من قبل الحياة. وبهذا المعنى، فإن ولادة السياسات الحيوية قد حدثت بطريقة، وفي مكان ـ على طريقة الجينيالوجياـ تتناقض مع قصص الأصل التي تحكم الانعطافة السياسية الحيوية المعاصرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة