من الأركيولوجيا إلى الجينيالوجيا

من الأركيولوجيا إلى الجينيالوجيا
أماني أبو رحمة

     تعمد فوكو توظيف مصطلح "الجينيالوجيا " من أجل أن يستحضر جينيالوجيا الأخلاق لنيتشه، خاصة فكرته عن الأصول المعقدة والدنيوية والمعيبة - التي ليست بحال من الأحوال جزءا من أي مخطط كبير للتاريخ التقدمي. نقطة التحليل الجينيالوجي هي إظهار أن نظاما معينا من الفكر (الذي كشفه البحث الأركيولوجي في هياكله الأساسية، والذي يظل بالتالي جزءا من تأريخ فوكو) كان نتيجة للتحولات الطارئة في التاريخ، وليس نتيجة اتجاهات عقلانية لا مفر منها.

     يقدم فوكو في (المراقبة والمعاقبة) الكتاب الذي صدر في منتصف السبعينيات، دراسة جينيالوجية لتطوير الطريقة الحداثية (الأكثر تهذيبا) الممثلة بسجن المجرمين بدلا من تعذيبهم أو قتلهم. ومع الاعتراف بعنصر الإصلاح المستنير، يؤكد فوكو بشكل خاص كيف يصبح هذا الإصلاح أيضا وسيلة لسيطرة أكثر فعالية: "أن تعاقب أقل، ربما؛ ولكن بالتأكيد أن تعاقب أفضل ". ويدعي أيضا أن طريقة العقاب الجديدة تصبح نموذجا للسيطرة على مجتمع بأسره، حيث المصانع والمستشفيات والمدارس تقوم على غرار السجن الحداثي. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نعتقد أن انتشار هذا النموذج يرجع إلى قرارات صريحة صادرة عن بعض الأجهزة المركزية للرقابة. ويظهر تحليل فوكو كيف أن التقنيات والمؤسسات، التي وضعت لأغراض مختلفة وغالبا ما تكون غير ضارة، تتكاتف معا لإنشاء نظام حديث للسلطة التأديبية.

     في صميم صورة فوكو عن المجتمع الحداثي "الإنضباطي " ثلاث تقنيات رئيسية للسيطرة: المراقبة الهرمية، والحكم التطبيعي، والفحص أو الامتحان. إذ لا يمكن للسيطرة على الناس (السلطة) أن تتحقق إلا من خلال مراقبتهم لذلك نجد، على سبيل المثال، أن الصفوف المتدرجة من المقاعد في الملعب لا تجعل من السهل على المتفرجين الرؤية فحسب، ولكنها أيضا تسهل على الحراس أو الكاميرات الأمنية مسح الجمهور. ومن شأن نظام المراقبة المثالي أن يسمح لأحد "الحراس" أن يرى كل شيء (وضع يقارب بانوبيتيكون جيريمي بنثام). ولكن نظرا لأن ذلك غير ممكن عادة، فإن هناك حاجة إلى "صفوف " المراقبين، المرتبة ترتيبا هرميا، تنتقل من خلالها البيانات المرصودة من المستويات الدنيا إلى المستويات العليا. السمة المميزة للسلطة الحداثية (السيطرة الإنضباطية ) هو اهتمامها بما لم يفعله الناس، بمعنى، فشل الشخص في الوصول إلى المعايير المطلوبة. يوضح هذا الاهتمام الوظيفة الأساسية للنظم الإنضباطية الحداثية: تصحيح السلوك المنحرف. والهدف من ذلك ليس الانتقام (كما هو الحال في حالة التعذيب ما قبل الحداثي) ولكن الإصلاح. حيث يعني الإصلاح بطبيعة الحال العيش بمعايير المجتمع. ويختلف الانضباط من خلال فرض معايير دقيقة ("التطبيع") اختلافا كبيرا عن النظام القديم للعقوبة القضائية الذي يقتصر على تقييم كل إجراء على أساس ما يسمح به القانون أو لا يسمح به فقط ولا يحدد من يعتبرون "طبيعيين" أو " غير طبيعيين".    تنتشر فكرة التطبيع هذه في مجتمعنا: على سبيل المثال، المعايير الوطنية للبرامج التعليمية، وللممارسة الطبية، وللعمليات والمنتجات الصناعية.

     الفحص أيضا (على سبيل المثال، لطلاب المدارس وللمرضى في المستشفيات) هو وسيلة للسيطرة التي تجمع بين المراقبة الهرمية والتقييم التطبيعي. وهو مثال رئيسي على ما يسميه فوكو السلطة / المعرفة، لأنه يجمع بين "نشر القوة وإرساء الحقيقة".  يظهر الفحص الحقيقة حول أولئك الذين يخضعون للإمتحان (يقولون ما يعرفونه أو ما هي حالة صحتهم) ويتحكم في سلوكهم في الوقت ذاته (عن طريق إجبارهم على الدراسة أو توجيههم إلى مسار العلاج).

     علاقة السلطة والمعرفة، في طرح فوكو، أقرب بكثير مما كانت عليه في النموذج الهندسي الباكوني المألوف؛ حيث تعني عبارة "المعرفة قوة" أن المعرفة هي أداة السلطة، على الرغم من وجود الاثنتين بشكل مستقل تماما. إن نقطة فوكو هي أنه، على الأقل بالنسبة لدراسة البشر، لا يمكن فصل أهداف السلطة وأهداف المعرفة: فبالمعرفة نحن نسيطر وبالسيطرة نحن نعرف. ويضع الفحص أيضا الأفراد في "مجال التوثيق". تسجل نتائج الإمتحانات في الوثائق التي تقدم معلومات مفصلة عن الأفراد الذين تم فحصهم وتسمح لأنظمة السلطة بالتحكم فيها (على سبيل المثال، سجلات الغياب للمدارس ووصفات وسجلات المرضى في المستشفيات). واستنادا إلى هذه السجلات، يمكن للمراقبين أن يصوغوا فئات ومتوسطات ومعايير تشكل بدورها أساسا للمعرفة. يحول الفحص الفرد إلى "حالة" - بمعنيي هذا المصطلح: مثال علمي وكائن الرعاية. الرعاية هي دائما فرصة للسيطرة.  

     يعد بانوبتيكون بنثام بالنسبة لفوكو نموذجا معماريا مثاليا للسلطة التأديبية الحداثية. فهو تصميم للسجن، بحيث يتم فصل كل نزيل عن غيره كما أنه يكون غير مرئي من الآخرين (في "زنازين منفصلة") وكل سجين مرئي دائما لمراقب يجلس في برج مركزي. لن ير المراقب في الواقع كل نزيل طوال الوقت. ولكن الفكرة هي أنه يمكن أن يفعل في أي وقت ودون سابق انذار. وبما أن السجناء لا يعرفون أبدا ما إذا كانوا مراقبين أم لا في لحظة ما، فإن عليهم أن يتصرفوا كما لو كانوا دائما تحت المراقبة. ونتیجة لذلك، تتحقق السیطرة بشکل أکبر من خلال المراقبة الداخلیة للمراقبین مقارنة بالقيود الجسدية الثقیلة. يمكن تطبيق مبدأ بانوبتيكون ليس فقط على السجون ولكن على أي نظام للسلطة التأديبية (مصنع، مستشفى، مدرسة). وفي الواقع، على الرغم من أن بنثام نفسه لم يكن قادرا على بناء سجنه، إلا أن مبدأه قد اجتاح كل جانب من جوانب المجتمع الحداثي. إنها الأداة التي حل من خلالها الانضباط الحداثي محل السيادة ما قبل الحداثية للملوك والقضاة كعلاقة السلطة الأساسية.

     خطط فوكو لـ(تاريخ الجنسانية) أن يكون امتدادا مباشرا إلى حد ما لنهج الجينيالوجيا في (المراقبة والمعاقبة) ولكن مع التركيز على موضوعة الجنسانية. فكرة فوكو هي أن الهيئات الحداثية المختلفة المعنية بالمعرفة الجنسانية( مختلف "العلوم الجنسانية، بما في ذلك التحليل النفسي) ترتبط بعلاقة حميمة مع هياكل السلطة في المجتمع الحداثي، ولذلك فانها تعد أهدافا مباشرة لتحليلة الجينيالوجي. يعد المجلد الأول من هذا المشروع، الذي نشر في عام 1976، مقدمة لسلسلة من الدراسات عن جوانب معينة من الحياة الجنسية الحداثية (الأطفال والنساء و "المنحرفون" والسكان، وما إلى ذلك). يوجز الكتاب مشروع التاريخ الشامل، موضحا وجهة النظر الأساسية والطرق التي سيتم استخدامها في المجلدات الستة القادمة (والتي أنجز منها فوكو ثلاثة فقط قبل وفاته).

     يرى فوكو أن مراقبة وتنظيم الجنسانية في الحداثة يوازي مراقبة ومحاولة السيطرة على (الإجرام) من خلال جعل الجنس مثل الجريمة موضوع تخصصات تزعم أنها علمية، توفر المعرفة والهيمنة ب /وعلى مواضيع بحثها في آن واحد. ومع ذلك، من الواضح أن هناك بعدا آخر في السلطة المرتبطة بعلوم الجنسانية. ليس أنها تمارس السيطرة من خلال معرفة الآخرين عن الأفراد؛ بل أيضا من خلال معرفة الأفراد بأنفسهم. يذوت الأفراد المعايير التي وضعتها العلوم الجنسية ويرصدون أنفسهم في محاولة للتوافق مع هذه المعايير. وبالتالي، فإن السيطرة عليهم ليست من حيث كونهم مادة التخصصات العلمية فقط، ولكن أيضا بفضل الرقابة الذاتية والتشكيل الذاتي للذوات وفق المعايير.

     جاء انخراط فوكو الأخير مع الفلسفة التقليدية ممثلا بالتحول المفاجئ إلى العالم القديم الذي أختار أن يدرسه في السنوات الأخيرة من حياته. خطط فوكو لتاريخ الجنسانية ليكون عدة مجلدات حول مواضيع مختلفة تدرس الحياة الجنسانية الحداثية. وكان المجلد الأول، كما ذكرنا، مقدمة عامة. كتب فوكو المجلد الثاني (اعترافات الجسد)، لكنه لم ينشر في حياته، الذي تناول أصول المفهوم الحداثي للذات في ممارسات الاعتراف المسيحي. وكانت فكرته هي أن الفهم السليم للتطور المسيحي يتطلب مقارنة مع المفاهيم القديمة عن الذات الأخلاقية، وهو ما قام به في كتابيه الأخيرين (1984) حول الجنسانيات اليونانية والرومانية: استخدام المتعة ورعاية الذات. نقلت هذه التناولات للجنسانية القديمة فوكو إلى القضايا الأخلاقية التي كانت ضمنية ولكن نادرا ما تم طرحها صراحة في كتاباته السابقة. وكان هدفه المحدد هو مقارنة الأخلاق الوثنية والمسيحية القديمة من خلال اختبار حالة الجنسانية وتتبع تطور الأفكار المسيحية حول الجنس من أفكار مختلفة جدا عند القدماء. كان التباين الكبير، في رأي فوكو، بين المنظور المسيحي الذي يرى الأفعال الجنسية، في مجملها، شر بحد ذاتها والرأي اليوناني بأنها جيدة وطبيعية وضرورية، وإن كانت عرضة لسوء التوظيف. ونتيجة لذلك، وفي مقابل القانون الأخلاقي المسيحي الذي يحظر معظم أشكال النشاط الجنسي (ويقيد بشدة ما يسمح به)، أكد الإغريق القدماء على التوظيف السليم (chresis) للملذات، وانطوى ذلك على الإنخراط في مجموعة كاملة من الأنشطة الجنسانية ( الجنس المثلي ،  والجنس الغيري، الجنس بالزواج، الجنس خارج الزواج)، ولكن مع الاعتدال السليم. ومن المفهوم أن الجنس بالنسبة لليونانيين كان جزءا رئيسيا مما سماه فوكو ب "جماليات الذات": خلق الذات لوجود جميل وممتع.

     قادت هذه الدراسات عن الحياة الجنسية القديمة، ولا سيما فكرة جماليات الذات، فوكو إلى الفكرة القديمة عن الفلسفة كطريقة للحياة بدلا من البحث عن الحقيقة النظرية. وعلى الرغم من أننا نجد هنا بعض النقاشات حول (استخدام المتعة) وعن مفهوم أفلاطون للفلسفة، الا أن تناول فوكو للموضوع كان في محاضرات (الثمانينيات ) ولم يتوفر له الوقت لتطويرها في كتاب للنشر. تناقش بعض هذه المحاضرات سقراط (Apology و Alcibiades I) بوصفه نموذجا ودليلا للحياة الفلسفية الذي يركز على "رعاية الذات" ويتبع فوكو المناقشات القديمة اللاحقة لهذا الموضوع عند، على سبيل المثال، إبيكتيتوس، سينيكا، وبلوتارخ. ويتناول البعض الآخر من المحاضرات المثاليات القديمة مثل "قول الحقيقة " (أو (الباريسيا parrhesia)، التي تعد فضيلة سياسية وأخلاقية مركزية.


     هنا يناقش فوكو الصيغ السابقة للمفهوم، عند يوريبيديس وسقراط، وكذلك تحولاته في وقت لاحق على يد الأبيقوريين، والرواقيين، والكلبيين. قد يكون هذا المشروع البحثي الأكثر فائدة من كل تورطات فوكو مع الفلسفة التقليدية، لكن موته المبكر في عام 1984 حال دون إكماله.

تعليقات

  1. مقال مختصر و عميق، لك جزيل الشكر د.أماني

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة