فاشية ما بعد الحداثة.(2/4)

فاشية ما بعد الحداثة.(2)
أماني أبو رحمة
أبقت ما بعد الحداثة على كثير من الطروحات الفاشية مثل رفض وجود مصدر متعال للحقيقة، وأن الحقائق ليست سوى بُنى اجتماعية. وفي حين صادرت الفاشية حرية التعبير صراحة بحجة تأثيرها الهادم على التضامن العضوي، فإن ما بعد الحداثة صاغت هذا التقيد بلطافة الكياسة السياسية والشفرات الكلامية. فالكلمات تبعا لما بعد الحداثة ليست سوى وسائل قمع وتهديد. يؤكد الفاشيون وما بعد الحداثيين على سيادة الحكومة، ويعارضون الهوية الفردية (8) وكرامة الإنسان المتأصلة في التراث الإنساني، وبدلا من ذلك، فإنهم يشددون على هوية المجموعة والتعددية الثقافية. إن بناء الهوية في مفاهيم ما بعد الحداثة يعادل الاستهلاك الثقافي، يقول بودريلار"أصبحت هويتنا هي ما نستهلكه" (9).
 ينكر ما بعد الحداثيين السمو الإلهي كما فعل الفاشيون تماما. افتتنت الفاشية التاريخية بشكل الإنسان، وبالمثل، يبدو الجسد المثالي مع إطالة العمر هاجسا في ما بعد الحداثة المعاصرة. تفسر الفاشية كل فعل تفسيرا سياسيا ولا تختلف ما بعد الحداثة عنها كثير فهي التي ترفع شعار كل الحياة سياسية. يدعي ما بعد الحداثيين نبذ العنف ولكن مظاهر العنف الصارخ الهمجي تصدمنا في الفن والسينما وعروض التلفاز يقول جين ادوارد فيث في كتابة (الفاشية المعاصرة):"في الثلاثينيات من القرن الماضي صدم الفنانون الطليعيون البرجوازيين بنظرياتهم الجمالية التي تمجد العنف وتدعو لإخراج مكنونات النفس من العواطف البدائية الهمجية. واليوم إذا كنت ترغب في مشاهدة أمثلة لجماليات الفاشية البدائية فما عليك إلا أن تذهب لمشاهدة أحدث انفجارات هوليود السينمائية الضخمة أو أن تشغل قنوات التلفاز الموسيقية أو أن تذهب إلى حفلة الهيفي ميتال(10) الموسيقية هناك ستشاهد المثل الفنية الفاشية مجسدة المتعة من العنف، رعشة التمرد الأخلاقي، عبادة الجسد الآري، المذابح المروعة، وبطل كمال الأجسام الذي يأخذ القانون بعضلاته ويقتل أعداءه بدم بارد، وجماهير من المراهقين يرقصون على أنغام فرقة الميتاليكا" اصرخ وأنا أقتلك" هذه الفنون هي جوهر الفاشية" (11).
 أسقطت ما بعد الحداثة من طروحاتها أمرين خالفت بهما الفاشية التقليدية وهما: القومية والعنصرية البيولوجية، ولكن ما حدث هو أن الفاشية الجديدة قد تبنت خطابات انعكاسية صممت لتموضع التناقضات الثقافية محل العنصرية البيولوجية، وفي الوقت نفسه تحتضن الفاشية الجديدة"التشكيل الذاتي للفرد" المميز لسياسات ما بعد الحداثة والثقافة المرتكزة على أسلوب الحياة، لكنها تؤطر هذه النزعة الفردية الجديدة في إطار من العنصرية الثقافية. وعلى الرغم من أن البيئة الديمقراطية في السياسة المعاصرة تستبعد التمرد المسلح، و(هيمنة الفاشية) والدكتاتورية العسكرية والحرب الأهلية التي ترعاها الدولة، والمرتبطة بحالات الإبادة الجماعية ومعسكرات الاعتقال في أوروبا أو أميركا، إلا أن الأمر لا يبعث على كثير من الطمأنينة. إذ يجب أن نتنبه إلى خطر حقيقي يستند إلى حقيقة أن الدور المساند للفاشية الجديدة يجري تنفيذه اليوم من قبل حكومات ما بعد الحداثة المحافظة، وأن الأحزاب الفاشية الجديدة في السلطة قد انجذبت نحو البراغماتية المحافظة ما بعد الحداثية بدلا من التوجه نحو الديكتاتورية العسكرية، يحذرنا أمبرتو ايكو من صور خداع الفاشية الجديدة حين يقول:" يجب علينا توخي الحذر، كي لا ننسى معنى هذه الكلمات، الفاشية البدائية لازالت بيننا، وأحيانا في صور فاضحة. سيكون من السهل علينا لو أن أحدهم ظهر على الساحة مطالبا بإعادة فتح أوشفيتز أو قال لنا: أريد أن تتمختر القمصان السوداء في ساحات ايطاليا من جديد، ولكن الحياة ليست بهذه البساطة. الفاشية البدائية يمكن أن تعود وقد أجادت التنكر واصطناع البراءة" (12).
قبل سنوات الثمانينيات كان اليمين المتطرف الأوروبي مهمشا سياسيا لأنه حافظ على خط فاشية ما بين الحربين. ومع نهاية التسعينيات ارتفع التصويت لصالح أحزاب اليمين المتطرف. يرى أغنازي أن سبب هذا التحول هو أن حقبة الثمانينيات مثلت انفصالا جذريا بين أسلوب الفاشية الثلاثينية والفاشية الجديدة المعاصرة. وبسبب هذه القطيعة حصلت الفاشية الجديدة على مصداقية انتخابية عالية ساعدها في ذلك عاملان أساسيان يوضحهما باوتشر:
1- إنكار الصلة بالفاشية القديمة الذي تمثل في رفض الإطاحة بالدولة الديمقراطية، ورفض سلطة الدولة على التجديد القومي، والتخلي عن البنى التعاونية الاستبدادية الاقتصادية والاجتماعية، ونبذ العنف السياسي.
2-   و الاحتفاظ، مع ذلك، بمفاهيم اللامساواة، ومكافحة التعددية، ومناهضة الليبرالية، حين تنادي بمجتمعات عضوية ترتكز جذريا على مفهوم الأمة والسياسات السلطوية والتحيز ضد الليبرالية (13).

أطلق أغنازي على الفاشية الجديدة مصطلح (فاشية ما بعد الصناعة post-industrial fascism) (14) وهو النموذج الذي ينكر صلته بالفاشية القديمة ولكنه يتبنى قيمها المعارضة للتعددية والليبرالية والديمقراطية. يعطي أغنازي أمثلة على أحزاب الفاشية التقليدية مثل الحزب البريطاني القومي BNP الذي أحيا الدعوة العنصرية بمعارضة السماح باستقبال المهاجرين من آسيا للعمل في بريطانيا، أو للجوء السياسي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، والحزب الوطني الديمقراطي الألماني والتحاف الوطني الإيطالي الذي تأسسّ في سنة 1995 ويتزعمه جيان فرانسكو فيني والذي حصد 12 بالمائة من أصوات الناخبين في انتخابات 2006، ويفتخر هذا الحزب بأبيه الروحي بينيتو موسيليني. أما في روسيا فقد هبت جماعات تدعو للقومية الروسية بعد سقوط الحكم الشيوعي، وقد تبنى هذا الموقف الأيديولوجي الحزب الليبرالي الديمقراطي بزعامة فلاديمير زيرينوفيسكي. أما فاشية ما بعد الصناعة فيمثلها حزب الحريات النمساوي Freiheits Österreich Partei وحزب ليغا نورد الايطالي (LN-Italy) الذي تأسسّ في سنة 1994 ويترأسه أومبرتو بوسي والذي حصد 4% من أصوات الناخبين في انتخابات 2006، ويتبنى الحزب سياسة عدائية من المهاجرين، بل وطالب رئيسه في حوار صحفي بالقيام بإطلاق النار على المقيمين بطريقة غير شرعية في إيطاليا، وقريب من هذا الحزب حزب الجبهة الوطنية الفرنسي الذي يتزعمّه جون ماري لوبان والذي تأسس سنة 1972، وفي السياق نفسه يتحرك حزب من أجل فرنسا MPF)) الذي تأسسّ في سنة 1994 وترأسّه فيليب دوفلييه. 
خضعت الأحزاب الفاشية التقليدية خلال الثمانينيات من القرن الماضي لعمليات هبوط وانقسام وإعادة تشكيل وتحول، وبفضل هذه العمليات تخلت عن العناصر الرئيسية الإيديولوجية والسياسية لفاشية ما بين الحربين: الاقتصاد التعاوني، والديكتاتوريات العسكرية، والعنصرية البيولوجية، والذاتية الجمعية. وفي الوقت نفسه شهدت الحقبة ذاتها صعودا هائلا لتشكيلات جديدة اتسمت منذ البداية بالشعبوية العنصرية. واليوم فإن اغلب المنتمين إلى اليمين يؤيدون التعددية الإثنية ما بعد العنصرية post-racist ethno-pluralism)) التي تهدف إلى حماية والحفاظ على الثقافة والمجتمع الخاص بكل مجموعة بدلا من الانتقاص من الثقافات الأخرى. تعد الوطنية أو الأهلية (nativism) الراديكالية اليوم وطنية ثقافية معنية بالهوية الأمريكية والأوروبية والاختلافات الإقليمية وتبعا لذلك يصبح بإمكان الفاشية الجديدة أن تقدم نفسها مدافعة عن الحرية الديمقراطية والعدالة القانونية في وجه الغرباء المختلفين ثقافياً. لا تستند كراهية الأجانب التي نراها في أوروبا اليوم إذا على الدم، ولكن على الدين والثقافة. يقول بورغ هايدر زعيم حزب الحريات النمساوي:
"يتعارض النظام الاجتماعي الإسلامي مع قيمنا الغربية. كما تتعارض حقوق الإنسان وحقوق النساء والديمقراطية مع العقيدة الدينية الإسلامية. لا يقيم الإسلام وزنا للفرد أو للإرادة الحرة بينما يمثل الإيمان والجهاد المقدس كل شيء" (15).
هوامش.
  1. ترفض ما بعد الحداثة الفردية المستقلة ذات السيادة، وبدلا من رؤية البشرية بوصفها محيطا من الأفراد، يفكر ما بعد الحداثيين في البشر بأنهم"تركيبات اجتماعية". لا تفكير ولا وجود للفرد بشكل مستقل عن المجتمع الذي يتحدد فيه. لذا لا يمكن له الوصول إلى الحقيقة باستقلالية. أفكاره سياقية دائماً. تركز ما بعد الحداثة على الجمعية الفوضوية، والخبرة المجهولة والكولاج، والتنوع، والغامض أو المجهول الغير قابل للتمثيل، والعاطفة الشهوانية المتسمة بالعربدة والتي أصبحت هي بؤر الاهتمام. والأهم من ذلك غياب التمييز، وإدماج الذات والموضوع، والذات والآخر. هذه هي المحاكاة الساخرة اللعوب من الحداثة الغربية والرفض الراديكالي الفوضوي لجميع المحاولات الرامية إلى تعريف، أو تجسيد أو إعادة تمثيل الإنسان/ الموضوع.
  2. ينظر: Sarup, Madan, and Tasneem Raja. Identity, Culture and the Postmodern World. Edinburgh: Edinburgh University Press, 1996:105-106.
  3. الهيفي ميتال: الهيفي ميتال Heavy Metal(أو فقط ميتال Metal للاختصار) لون من ألوان موسيقى الروك تطور في ستينات القرن العشرين من البلوز والروك. يمتاز الهيفي ميتال بصوت الجيتار Guitar القوي مع استعمال الدرامز drums والباس جيتار Bass Guitar. وتختلف كلمات الأغاني من نوع إلى آخر وتتحدث في المجمل عن الموت وقصص الفانتازيا وميثولوجي والحروب والحزن والشياطين والوثنية وغيرها الكثير. جاء في موقع Allmusic في تعريف الهيفي ميتال:" من جميع أنواع الروك & رول المختلفة, الهيفي ميتال هو النوع الأكثر تطرفاً بدرجة الصوت, الرجولية ومضاهاتها للتمثيلات المسرحية." وقد ظهر المصطلح الميتال على يد فريق ستبنولف Steppenwolf عام 1968 حينما استخدموا فقرة كتبها مارس بونفاير Heavy Metal Thunder في أغنيتهم" ولد ليكون متوحشا" Born to be wild (الويكيبيديا العربية).
  4. ينظر: Gene Edward Veith, Modern Fascism: Liquidating the Judeo-Christian Worldview, Concordia Publishing House, St. Louis, 1993:12
  5. ينظر: Umberto Eco. Ur-Fascism, Article from The New York Review of Books, June 22, 1995, pp. 12-15..
  6. ينظر: Geoff, Boucher. Postmodern Neofascism: Contemporary Rightwing Extremism in the Metropolitan Countries. February 2006:
http://ethicalpolitics. org/seminars/neo-fascism. Htm             
  1. ينظر: Piero Ignazi, Extreme Right Parties in Western Europe, Oxford and New     York: Oxford University Press, 2003.
  2. ينظر: Geoff, Boucher. Postmodern Neofascism: Contemporary Rightwing Extremism in the Metropolitan Countries. February 2006:
http://ethicalpolitics. org/seminars/neo-fascism. Htm                 

تعليقات

المشاركات الشائعة