فاشية ما بعد الحداثة.(3/4)

فاشية  ما بعد الحداثة.(3)
أماني أبو رحمة.
استغلت الفاشية الجديدة أثنين من التطورات المترابطة: أزمة الشرعية السياسية، والظروف الثقافية لما بعد الحداثة.
فمن الناحية السياسية أدت عمليات ما بعد التصنيع (Post-industrial) إلى أضرار اقتصادية على العاملين لحسابهم الخاص والعمال اليدويين ذلك أن القانون والنظام الصارم، والاعتزاز بالهوية الوطنية والمعايير الأخلاقية التقليدية، وتمكين الدولة قد فرض إعادة صياغة رمزية الانتماء والدفاع عن النفس. تعززت هذه العملية بالتمثيل النسبي والانتخابات المحلية، وأيضا ب"مرحلة ما قبل الانتخابات"، حيث سلط تراخي الناخبين التقليدين عن دعم أحزاب طالما انتموا إليها وميوعة أنماط التصويت، الضوء على جماهير انتخابية جديدة محتملة، فضلا عن تكشف أزمة في الشرعية في المجتمعات الغربية تمثلت في تراجع الثقة في النظام وصعود أحزاب اليمين المتطرف. لقد تراجع الرضا عن أداء الديمقراطية التي كانت مقبولة بنسبة 95 ٪ لدى المواطنين الأوروبيين الغربيين باعتبارها النموذج المثالي إلى 57 ٪. وهذا يشير إلى أن التوجه نحو اليمين المتطرف لا يقوم على العنصرية فحسب، ولكن أيضا على معارضة إضفاء الشرعية على قواعد النظام الديمقراطي الليبرالي.
لم يترافق الشرط الثقافي في ما بعد الحداثة بتراجع العقلانية التنويرية فحسب، ولكن أيضا بمجموعة كبيرة جديدة من قيم ما بعد المادية (postmaterial) (1)المرتبطة بأنماط الحياة الفردية. ارتكزت التعبئة الفاشية الجديدة المعاصرة على حماية الهوية الأوروبية من تهديد الأصولية الإسلامية (والإمبراطورية الأميركية). يرجع أغنازي تبني اليمين لسياسات الهوية السياسية إلى تراجع القطاع الصناعي (وهو ما يعني تراجع الصراع الطبقي)، وتصاعد نزاعات القيم. كان على الفاشية الجديدة مواجهة التذرير الاجتماعي (Social atomization) والفردية الجديدة ـالتي هي نتاج المجتمع ما بعد الصناعي ـ الأمر الذي قادها إلى تبني تعبيرين أساسيين: الأول هو تأكيد الذات الذي تبناه الجناح اليساري في مرحلة قيم ما بعد المادية والثاني هو الدفاع عن النفس الذي تبناه الجناح اليميني في مرحلة قيم ما بعد المادية. واجه تأكيد الذات التذرير الاجتماعي بواسطة تعبئة الموارد الشخصية. أما الدفاع عن النفس فقد تصدى له من خلال إعادة اكتشاف أشكال من التضامن العضوي (Organicist solidarity) التي مثلت استجابة لتراجع عوامل التضامن التقليدية: الطبقة والدين والأمة.
تجمع أحزاب الفاشية الجديدة بين التذرير والتآلف الاجتماعي ويتضح ذلك في برامجها الانتخابية إذ بالرغم من الاختلافات المحلية إلا أن هذه الأحزاب تحمل نواة مشتركة من المطالب الانتخابية. يعزز الخطاب العضواني الفاشي الجديد تركيبة متميزة من) مشاكل خاصة وحلول عامة (. أما تراجع المشاركة الاجتماعية والقيم المدنية في الحياة الخاصة للمواطنين العاديين فإن حله سيكون باللجوء إلى دولة استبدادية تفرض) الأخلاق العامة (.
إن ما يسمى ب (صيغة فوز) الفاشية الجديدة هي وصفة السياسات الاستبدادية المعادية للمهاجرين مع اقتصاد السوق الحرة. يحاول البعض أن يذهب (إلى ما بعد اليسار واليمين) في السياسة الاقتصادية مع التوازن بين القطاعين العام والخاص بهدف ضمان أن الإنسان الاقتصادي (homo oeconomicus) (2) لن يحل محل الرجل السياسي. بالإضافة إلى ذلك، تستبق هذه الأحزاب مطالب مرتبطة بالحاجة إلى الأمن في مواجهة عدم اليقين:
• الأمن من الجريمة والعنف.
• مجتمع متجانس ومتناغم.
• القيادة القوية والمؤسسات التي توفر الثقة والاطمئنان.
 يزعم بعض الباحثين أن الفاشية الجديدة هي تطور خاص نتج عن تحولات ما بعد الفوردية (3)التي أدت إلى ظهور تقسيم دولي جديد للعمل (العولمة)، وتحول تاريخي حاسم مترتب على استنفاذ الحداثة. ويرى بيتز في قراءته لمقال (العولمة ودولة الرفاه واليمينية الشعبوية في غرب أوروبا لدوان سوانك وهانس جورج بيتز) أنه" ليس من قبيل المصادفة أن البروز المتصاعد الأخير لليمين المتطرف في الديمقراطيات الرأسمالية المتقدمة قد حدث في وقت اضطرابات هائلة وتغيير عميق أثّر تقريبا في جميع جوانب الحياة الفردية. لقد استغلت الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة الفرصة لتقديم نفسها بدائل عن القوى التقليدية، وملء الفراغ الناجم عن تآكل وانهيار الهياكل القائمة" (4). وفي السنوات الأخيرة ارتبطت هذه التطورات في المقام الأول بالعولمة وما بعد التحديث. فالنسبة للعولمة ـ تبعا للمصدر السابق ـ فإن التقسيم الدولي الجديد للقوى العاملة جعل العمالة غير المدربة عرضة لتحديات تنافسية تقوم على الحركة العالمية لرأس المال. ولكن فكرة أن اليمين الراديكالي يعتمد على ضحايا العولمة تبدو ساذجة وتبسيطية، فقد بينت الدراسات أن تأييد الفاشية الجديدة إنما هو استجابة لـ(حالة قلق). قلق بشأن إعادة الهيكلة الاقتصادية وما ينتج عنها من أزمات الهوية والاستبعاد الاجتماعي والاغتراب الثقافي داخل الثقافات التعددية ونظم العولمة. إنها ردة فعل على فقدان سلطة الدول القومية والهوية الثقافية، والأفضلية الوطنية. ونظام التجارة الحرة. هذه الحالة الثقافية تحرم الثورة (الوطنية) من شرعيتها وتفتح المجال للشعبوية الاستبدادية في آن واحد.
وتكمن المفارقة هنا انه وفي محاولة لتأكيد قربها من الجماهير ورفضها للوضع القائم، فإن أحزاب اليمين المتطرف الجديدة تفضل تعريف نفسها على أنها حركة عبر الحدود الوطنية، لها ممثلين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة واستراليا، مما يوحي بأنها تتجاوز نطاق الأحزاب السياسية الرئيسية. ويمكن القول أنه وعلى الرغم من تبني هذه الأحزاب موقفا واضحا مناهضاً للعولمة، إلا أنها لا تجد حرجا في توظيف الوسائل التكنولوجية المتقدمة في صميم العولمة من أجل الترويج لصورتها ليس فقط داخل بلدانها وإنما عبر الحدود الوطنية أيضا.
 أما عن ما بعد التحديث (Postmodernisation)(5) ـ وهو مصطلح يوظف للإشارة إلى الفترة التي تلت عهد التحديث(Modernisation) أو التصنيع(industrialisation) والتي تميزت باستنفاذ مشروع التنوير وانهيار شرعية سرديات الحداثة والتقدم العلمي وتحرر الإنسان وعلى الصعيد الاقتصادي بالتحول من الصناعة إلى الخدمات والمعلومات ـ فقد ولدت حالة عدم اليقين والحدود المائعة للحالة الثقافية التي ميزت ما بعد التحديث جدلية التوق لتحقيق الأمن والاستقرار، ودعم الكاريزما السلطوية. كما أن انحسار الأسرة التقليدية وانهيار السلطة الأبوية المرتبطة بتحول أدوار الجنسين أدى إلى خلخلة فكرة القوامة الذكورية وأطاح بصورة الذكر المثالية في حالة أطلق عليها أزمة الذكورة. فلا غرو إذا أن يكون مؤيدو اليمين الراديكالي رجالا لا نساء.
هوامش:
  1. يعد مفهوم ما بعد المادية أداة مفيدة في تطوير فهم للثقافة الحديثة. ويمكن تناوله، بالإشارة إلى ثلاثة مفاهيم ميزت المادية: المفهوم الأول من المادية، وهو الذي نوظف مصطلح ما بعد المادية نسبة إليه في معظم الأحيان، ويشير إلى المادية كنظام قيم يتصل بالرغبة في تلبية الاحتياجات المادية (مثل الأمن والقوت والمأوى)، والمفهوم الثاني هو المادية التاريخية والجدلية التي وضعها ماركس وإنجلز. والمفهوم الثالث هو النقاشات الفلسفية التي تهتم بالحقيقة الوحيدة الموجودة. تجدر الإشارة إلى أن المفهومين الأولين اجتماعيان، أما الثالث فهو فلسفي. وضع رونالد انكلهارت النظرية السوسيولوجية ما بعد المادية في السبعينات بعد مسوح واسعة النطاق، أفترض إنكلهارت أن المجتمعات الغربية ضمن نطاق المسح تشهد تحولا في القيم الفردية، من القيم المادية، التي تركز على الأمن الاقتصادي والمادي، إلى مجموعة جديدة من القيم ما بعد المادية، التي تركز على الاستقلال والتعبير عن الذات ويعتقد أنكلهارت أن ارتفاع معدلات الرفاهية والرخاء الاقتصادي أدى إلى تحرير الرأي العام في المجتمعات الصناعية المتقدمة من أعباء الاحتياجات المادية الأساسية. وقد لاحظ أنكلهارت أن الشباب أكثر عرضة لتبني قيم ما بعد المادية، وتكهن أنكلهارت أن هذه الثورة الصامتة لم تكن مجرد تغير في دورة الحياة، على اعتبار أن الناس يصبحون أكثر مادية مع تقدم العمر، ولكنها مثالا حقيقيا لتغير القيم بين الأجيال.
  2. الإنسان الاقتصادي (Homo Oeconomicus):هو الإنسان الذي يكون سلوكه محدداً بالمصالح الاقتصادية وحدها دون أي دافع عاطفي أو أخلاقي أو ديني. وقد وظف المصطلح أولا في أواخر القرن التاسع عشر من قبل الناقد جون ستيوارت ميل.
  3. مرحلة ما بعد الفوردية: هو الاسم الذي يطلق على نظام الإنتاج والاستهلاك الاقتصادي السائد، وما أرتبط به من ظواهر اجتماعية واقتصادية، في معظم البلدان الصناعية منذ أواخر القرن الماضي. وهو يتناقض مع الفوردية التي تعني النظام الذي صمم في مصانع هنري فورد للسيارات، والذي يعني أن العمال يعملون على خط إنتاج، ويؤدون المهام المتخصصة بصورة متكررة. يختلف تحديد وطبيعة ونطاق ما بعد الفوردية اختلافا كبيراً ولازال موضوع نقاش بين العلماء. ويمكننا أن نقول أن مرحلة ما بعد الفوردية تتميز بالسمات التالية: إنتاج دفعات صغيرة، واقتصاديات النطاق، والمنتجات والمهن المتخصصة، وتكنولوجيا المعلومات، والتركيز على أنماط المستهلكين على النقيض من التركيز السابق على الطبقة الاجتماعية ودخول ذوي الياقات البيضاء إلى الخدمة وتأنيث القوة العاملة.
  4. ينظر: Swank, Duane and Hans-Georg Betz (2003): Globalization, the Welfare State and Right-Wing Populism in Western Europe, in: Socio-Economic Review 1, S. 215-245
  5. في كتابة التحديث وما بعد التحديث يرى الباحث البريطاني رونالد انكلهارت أن مرحلة ما بعد التحديث قد تطورت خلال الخمس والعشرون سنة الماضية. وهي مسار جديدا يركز على تحقيق مكاسب اقتصادية بقدر تركيزه على صياغة منظومة من القيم الجديدة، مثل تعظيم رفاهية الفرد. كان هذا التغيير ممكنا بفضل أن الحاجة للأمن والاستقرار الاقتصادي قد حققتهما مرحلة التحديث والتصنيع فأصبح الهدف الرئيسي لما بعد التحديث هو الابتعاد عن الدين والدولة معا والانصراف إلى الفرد مع زيادة التركيز على الاهتمامات الفردية مثل الصداقة والترفيه ونوعية الحياة وأهمية التعبير عن الذات بالنسبة للفرد. 

تعليقات

المشاركات الشائعة