فاشية ما بعد الحداثة.(1/4)

فاشية ما بعد الحداثة.
أماني أبو رحمة.
تراجعت الفاشية التقليدية في الدول الرأسمالية الصناعية الديمقراطية بشكل ملحوظ. ولكن هذا التراجع ترافق مع صعود ضرب من الفاشية الجديدة ما بعد الحداثية التي ترتكز على التنوع المحلي الهائل والنجاح السياسي المتصاعد. تختلف الفاشية الجديدة في الظاهر عن الفاشية التقليدية، الأمر الذي دعا كثير من النقاد الليبراليين إلى تسميتها باليمين المتطرف وقصر مصطلح الفاشية على تلك الأحزاب التي تعتبر نفسها امتدادا للأحزاب الفاشية التي سادت في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن دراسة معمقة لهذه الأحزاب اليمينية المتطرفة الجديدة وتفجرها الراديكالي في الثمانينيات من القرن الماضي لا يستبعد فكرة كونها صورة ما بعد حداثية للفاشية التقليدية.
تشير التطورات الحديثة في فهم الفاشية إلى أن الفاشية شكلا ثوريا من القومية المتطرفة تهدف إلى تعبئة عامة لطاقات الأمة الجماعية لأجل إعادة التأهيل والتجديد والبعث الوطني. وتشكل الفاشية ردا على هشاشة الروح الوطنية في بيئة دولية تنافسية غير عادلة في جوهرها، وعلى فشل النخبة الوطنية في تعزيز قاعدة السلطة المحلية. ومن هنا فإن الفاشية تدعو كما يراها روجر غريفين ـ في كتابه (طبيعة الفاشية) ـ إلى مناهضة الديمقراطية الليبرالية، وإيديولوجية جمعية واقتصاد تعاوني، ومعاداة التعددية الثقافية والتقسيم الاجتماعي. ويمثل اليمين المتطرف اليوم شعبوية سلطوية داخل هياكل ديمقراطية تمثيلية، تدعو إلى شكل من (الأفضلية الوطنية) مقترنا باعتناق اقتصاد السوق الحرة فضلا عن دعمه لنظرية التعددية الإثنية Ethnopluralism)) على أساس التجانس الثقافي واستحالة تمازج الكتل الحضارية (1).
والتعددية الإثنية هي مصطلح نحته اليمين المتطرف للدعوة إلى احترام الاختلافات الثقافية والعرقية مع التأكيد على أن أفضل إستراتيجية لحمايتها هي تجنب الاختلاط والتمازج بينها. ويوظف اليمين المتطرف الجديد المصطلح ليشير إلى تخليه عن الإشارة إلى التفوق العنصري أو العرقي ويفترض وجود خطاب ما بعد عنصري جديد يرتكز على أساس الحفاظ على الهوية والثقافة الوطنية. وبذلك فإن اليمين المتطرف يكون قد خصخص وحول تعريف (الاختلاف) الذي وظف تقليدياً من قبل اليسار لتعزيز التعددية الثقافية واحترام التنوع. يقول بيار أندريه تاغيياف في كتابة (العنصرية الثقافية في فرنسا):" يدعي اليمين الجديد أن العنصرية الحقيقية هي محاولة لفرض نموذجا عاما وفريدا بوصفه الأفضل، مما يعني القضاء على الاختلافات... وبناء عليه، فإن المناهضة الحقيقة للعنصرية تقوم على الاحترام المطلق للاختلافات بين المجموعات المتجانسة عرقيا وثقافيا" (2)
ويمكن القول أن تقبل اليمين المتطرف لنظام السوق الرأسمالي، يمثل واحدة من نقاط ضعفه الأساسية، إذ يعني ذلك أنه يفتقد إلى برنامج اقتصادي بديل لبرنامج الأحزاب السياسية الرئيسية. استبدلت أحزاب اليمين المتطرف عداء الفاشية التقليدية للبرجوازية بعدائها للمهاجرين، وطالبي اللجوء، واللاجئين، سيما إذا كانوا من غير البيض والغربيين.
يرصد جيف باوتشر الفروقات بين الفاشية التقليدية التي سادت بين الحربين العالميتين (1918-1939) والفاشية الجديدة المعاصرة ويقول" تميزت فاشية الثلاثينيات بتجذر القومية الإثنية في العنصرية البيولوجية والهيمنة الاقتصادية والنزعة العسكرية المناهضة للديمقراطية، في حين تميزت فاشية الألفية الثانية بالتعددية العرقية ضمن وحدة ناظمة، وبالليبرالية الجديدة، والأفضلية الوطنية، والشعبوية الديمقراطية، وسياسات الاستفتاء" (3). يتابع باوتشر ملاحظاته ليلفت النظر إلى طبيعة مؤيدي الفاشية الثلاثينية والفاشية المعاصرة" تضم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا منظمات الطبقات العاملة، بل إن عدد العمال المؤيدين للأحزاب اليمينية يفوق أعداد المؤيدين للأحزاب الشيوعية"(4). يرى بيرو أغنازي في كتابه (الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية)" أن تصويت أعداد هائلة من أبناء الطبقة العاملة لصالح أحزاب اليمين المتطرف هو أكثر جوانب الرواية إثارة للدهشة مقارنة مع العام 1980" (5). وهذا يشير إلى أن أحزاب الفاشية الجديدة لم تعد تعتمد على أصوات المحتجين من الطبقة الوسطى. بل أن ناخبي اليمين المتطرف اليوم ـ ولازال الكلام لأغنازي ـ يمثلون جمهورا انتخابيا محددا معبأ بمشاعر العزلة عن النظام السياسي وعدم الرضا تجاه الديناميات الاجتماعية والاقتصادية لعملية ما بعد الحداثة والعولمة.
وفي الوقت نفسه، فإن الطرح القائل بأن الفاشية الجديدة هي شكل من أشكال فاشية ما بعد الحداثة ـ وليست بدعة، مثل اليمين المتطرف ـ يحتاج إلى بعض التفسير.
ربما يتفق كثير من منظري ما بعد الحداثة، أن ما بعد الحداثة هي سليلة مباشرة للفاشية وأنها لا زالت تحتفظ بمعظم عناصرها الرئيسة وأن الفاشية بوصفها أيديولوجية أو نظرة عالمية هي أحد أجداد ما بعد الحداثة التي لا يمكن تجاهلها. هناك تشابه كبير ولكن قليلين في الماضي كانت لديهم جسارة الكشف عن هذه العلاقة. يقول ريتشارد فولن في كتابه (غواية اللامعقول):"تزودت ما بعد الحداثة بمذاهب فريدريك نيتشه ومارتن هايدغر وموريس بلانشو وبول دي مان، وجميعهم أما أنه أوشك أن يذعن أو أنه أذعن تماما لـ" الافتتان الفكري والثقافي بالفاشية"(6).

إن أفضل تعريف للفاشية التاريخية والفلسفية يقوم على إدراك ثلاثة من أهم أفكارها المتداخلة وهي: العضوانية أو العضوية (organicism) (7)، واللاعقلانية (irrationalism)، ومبدأ الكمون والحلول (Immanence) الذي يقول بأن الإله والكون كيان (جوهر) واحد. وهذه الأفكار الثلاثة بالتحديد هي أعمدة الفكر ما بعد الحداثي. 

هوامش:

  1. ينظر: (Griffin, Roger. The Nature of Fascism. Pinters Publisher Limited(1991
  2. ينظر: Pierre-Andre Taguieff,"Cultural Racism in France," in Telos 83 (Spring 1990), pp111
  3. ينظر: Geoff, Boucher. The resistable rise of postmodern neo-fascism: 1930s-style Fascism has been replaced by a species of postmodern neo-fascism, Viewpoint essay. Arena Magazine (April 1, 2006)
  4. المصدر السابق.
  5. ينظر: Piero Ignazi, Extreme Right Parties in Western Europe, Oxford and New     York: Oxford University Press, 2003:155.
  6.  ينظر: Richard Wolin, The Seduction of Unreason (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004), p. xii.
  7. العضوية: يرى الفاشيون أن الدولة هي وحدة عضوية حيةـ تماما مثل جسم الإنسان ـ والأفراد هم الأعضاء الذين يساهمون في تحقيق الرفاه العام أو الهدف الأعظم أو الإرادة العامة، وأن ذلك أعلي وأسمي وأكثر أهمية من أي فرد من أفراد الدولة. ترى الليبرالية أن الدولة بوصفها مؤسسة قد خلصت لحماية حقوق الإنسان. وبالمقابل فإن الفاشية تنظر إلى الوحدة العضوية دون أن يكون الفرد في المشهد، وفي مجتمع كهذا حيث لا وجود للعلو والسمو الإلهي تصبح الدولة هي الاسمي والأهم. يقول موسيلليني:" كل شيء في الدولة، لاشيء ضد الدولة، ولا شيء خارجها". ويمكن أن نستنتج أن في الفاشية صوت عدائي واضح للأنا الفردية. الإنسان في الفاشية هو البطل الشجاع القاسي الذي لا تشغله المتع والملذات والذي يحارب من اجل المثل العليا والقيم وليس من اجل تحقيق غايات فردية. ترى الأيديولوجيا الفاشية أن الهوية الفردية تأتي من الجماعة ولأن الثقافة تحدد الفرد فإن الحاجة إلى الثقافة تمثل أولوية قصوى. تعارض الفاشية استقلالية الإنسان. وتبعا لذلك فإن للثقافة منزلة مقدسة غامضة تكاد تقارب الإلوهية. ترى الفاشية أن الحضارة هي نتيجة التجريد والعقل اليهودي. إذن فالثقافة هي كل شيء، إنها العضوية الإثنية. آما الحضارة فهي آلية وعقلانية تؤدي إلى الإقصاء والتنفير. هذا التقديس للثقافة والعرق أدى بالتأكيد إلى العنصرية، التي كانت النازية أفضل مثال لها. 

تعليقات

المشاركات الشائعة