فوكو عن الوسط والسكان وجاهزيات الأمن .

فوكو عن الوسط والسكان وجاهزيات الأمن.
أماني أبو رحمة
"لتلخيص كل هذا، دعونا نقول أن السيادة ترسمل الأقليم، والمشكلة الرئيسية هنا هي مكان الحكومة، في حين أن الإنضباط يهيكل حيزا أو مكانا ومشكلته الأساسية هي التوزيع الهرمي والوظيفي للعناصر، أما الأمن فإنه سيحاول أن يخطط الوسط  Milieu ( أو المحيط ) من حيث الأحداث أو سلسلة الأحداث أو العناصر الممكنة، السلسلة التي من شأنها أن تنتظم ضمن إطار تعددي وقابل للتحويل. تشير المساحة المحددة للأمن، إذا، إلى سلسلة من الأحداث المحتملة. بمعنى أنها تشير إلى المؤقت، والمتوقع، وغير المؤكد، والذي يجب إدراجه ضمن مساحة معينة. المساحة التي تتكشف فيها سلسلة العناصر غير المؤكدة هي، كما أعتقد، تقريبا، ما يمكن تسميته بالوسط ... وهو بالتالي محيط العمل أو بيئته الذي ينتشر ويتوزع ويدور فيه. ولذلك فإن ما هو على المحك في هذا المصطلح تحديدا هو مشكلة الإنتشار والتوزيع الدائري والسببية...وجاهزيات الأمن تعمل وتنظم وتخطط هذا المحيط حتى قبل تشكيل الفكرة وعزلها. الوسط هو المساحة التي يتم فيها تنفيذ الإنتشار والتوزيع. والوسط هو عبارة عن مجموعة من المعطيات الطبيعية - الأنهار والمستنقعات والتلال - ومجموعة من المعطيات الاصطناعية - تجمع من الأفراد والمنازل، إلى آخره. الوسط هو عدد معين من الآثار العامة المجمعة والتراكمية التي تؤثر على كل من يعيش فيها. وهو المجال الذي تنتج فيه صلة دائرية بين الآثار والأسباب، وذلك لأن التأثير من جهة نظر معينة سوف يكون سببا من جهة أُخرى... وأخيرا، يظهر الوسط كحقل تدخل، فبدلا من أن تؤثر على الأفراد بوصفهم مجموعة من الذوات القانونية القادرة على الأفعال الطوعية - كما هو الحال في السيادة - وبدلاً من أن تؤثر عليهم بوصفهم عدد من الكائنات الحية، أجساد قادرة على الأداء، والأداء المطلوب - كما هو الحال في الإنضباط - فإن المرء يحاول أن يؤثر، على وجه التحديد، على السكان. وأعني بالسكان هنا عدد كبير من الأفراد الذين يرتبط وجودهم البيولوجي بالبيئة التي يعيشون فيها بشكل أسسي ومبدئي. ما أحاول الوصول إليه من خلال هذا الوسط، هو بالضبط اقتران سلسلة الأحداث التي ينتجها هؤلاء الأفراد، والسكان، والجماعات، بالأحداث شبة الطبيعية التي تحدث من حولهم ".(فوكو، الأمن والأقليم و السكان: 1978: 20-21)
يستعير فوكو مصطلح "الوسط " من الدراسات البيولوجية للامارك - وهو المصطلح الذي يدل على "التفاعل العضوي مع تأثير خارجي". الوسط (تمييزا له عن الأقليم ): كناية بيولوجية تسمي الوسط الذي يحدث فيه التوزيع والإنتشار والتبادل الدائري.
وما يريد فوكو أن يصل اليه من توظيف هذا المصطلح هو توضيح العلاقة بين نشر جاهزيات الأمن والمكان الذي يتم فيه هذا الانتشار. الأقليم السيادي (الخطوط على الخريطة) لا تستنفد مدى تأثير السلطة - ولذلك فإن نوعا آخر من السلطة ينتشر عبر المكان (سلطة دائرية عندما يحاول المرء تفسيرها سببيا - أي أنها "لولبية ") تحت ستار الأمن.
وهو مستوى جديد من تحليل السلطة يضم الأفراد والهيئات جنبا إلى جنب مع بيئتهم "الطبيعية"، بوصفهم سكانا تجري السيطرة عليهم بالتناغم والإنسجام مع المناطق المحيطة المعطاة مسبقا : الوسط .
تعمل السلطة في مستوى الوسط  المنتشر. وتظهر بشكل عام في التأثيرات المشتركة  مثل الخوف والقلق والغضب وغيرها، وتمتلك خاصية التموج والجهورية. ويمكن أن يكون للموقف الإيجابي، والهدوء في مواجهة القلق، أو التعبير عن الفرح في وضع متوتر، تأثير الموجة التي تتغلغل في جميع أنحاء مكان - مع إمكانية تخفيف قبضة الأمن على الوسط .
يختلف التركيز على أمن السكان عن التركيز السابق على سلامة الأمير. فقد تراجعت المشكلة المكيافيلية ("كيفية الحفاظ على السيادة في السلطة") لصالح مشكلة الأمن ("كيف نضمن التداول والانتشار "). لهذا السبب، فإن آليات الأمن لا تركن إلى علاقة( السيادة/ الخضوع ) المبنية على الحظر والطاعة. بدلا من ذلك، فإن "الاقتصاد الجديد للسلطة" يقر بأن السكان هم مصدر ثروة الدولة. فالسكان بالنسبة للمذهب الطبيعى( الفيزوقراطي)،لا يمكن أن يكونوا الهدف المباشر للإرادة السيادية. إذ بخلاف السيادة المفردة المتعالية التي تحكم الإقليم وسكانه، فإن "فن الحكم" الجديد يتكون من مجموعة من الحكام، ويعملون على مسطح محايث immanent plane، يضعون الأمور في ترتيب ونظام محدد، ويخدمون السكان، ويضمنون الازدهار. وهكذا يتحول فوكو لمفهوم "الحاكمية"، والذي يختلف عن الحكم أو السيادة أو القيادة.
فجاهزية الأمن “apparatus” (dispositif) of security:" مثلا في( الأمن والاقليم والسكان) تفهم كجزء من نوع جديد من الحكم تكون الحياة فيه هي الخزان الذي يجب استغلاله إلى حد ما بعيدا عن القيود القانونية أو الانضباطية. في بداية (الأمن والإقليم والسكان)، يفسر فوكو ذلك عن طريق تحليل السرقة. يمكن أن تفهم السرقة باعتبارها مخالفة لا بد من التعامل معها وفقا لجدول محدد مسبقا من العقاب، أي باعتبارها مشكلة قانونية. ويمكن أن ينظر إليها باعتبارها شكلا من أشكال السلوك المنحرف الذي يجب تصحيحه من خلال تطبيق تقنيات مختلفة، أي بوصفه مشكلة تأديبية وانضباطية؛ وأخيرا، فإنه يمكن أن تؤخذ على أنها ظاهرة إحصائية، حيث يجب على المرء أن يوازن بين الخسائر والمكاسب من التدابير الإنضباطية، وربما أن يسمح بمدى معين من الجرائم، على أساسه يمكن صياغة المشكلة من الناحية الأمنية. ويستند هذا الحل الثالث على الإحتمالات، على حساب التكلفة. المشكلة التي تطرح  هنا هي كيفية تحقيق التوازن الأمثل. يحذرنا فوكو من النظر إلى هذه النماذج بوصفها تطورا زمنيا من القديم إلى الحديث، أو أنها تشكل الطريق نحو العقلانية، بدلا من ذلك ، يقول فوكو إنها  حاضرة دائما بوصفها هياكل معقدة حيث، في كل حالة، يهيمن أحد العناصر على  العنصرين الآخرين. وهكذا، على سبيل المثال، يتكامل الأمن مع القانون والإنضباط، ولكن في شكل مرؤوس، مثلما أن القانون والإنضباط يحتوي كل منهما العنصرين الآخريين.

تعليقات

المشاركات الشائعة