نهاية عصر النهايات (9): موت الإله، موت الذات

 

نهاية عصر النهايات

(9): موت الإله، موت الذات

أماني أبو رحمة

على أبواب القرن العشرين خطت الفلسفة خطوات واسعة نحو رؤية مثلت نواة الوضعية والوجودية، رؤية دشنها نيتشه في عبارته الشهيرة( الإله مات) التي ترقى إلى إنكار أي شكل من أشكال التجاوز(الله، الآلهة، الأشباح، الأرواح، الأخلاق، الخطيئة، إلخ..) وإلى امتياز المذهب الوضعي[نظام فلسفي يعترف فقط بما يمكن التحقق منه علميًا أو قادرًا على إثبات منطقي أو رياضي، وبالتالي يرفض الميتافيزيقيا والإيمان بالله] بخطابه المهيمن باعتباره الوسيط الوحيد للحقيقة الموضوعية. لكن هذه "المرجعية الفارغة" لها نتيجتان بارزتان، وكلاهما غير مقبول إلى حد كبير عند ما بعد الحداثيين. الأول هو إهانة الشعوب والثقافات الأخرى التي تتبنى شكلاً من أشكال التجاوز، مهما كانت خرافية أو بدائية. إن حساسية ما بعد الحداثة، بناءً على قيمها في عدم الاستبعاد، تعتبر مثل هذا الموقف الهرمي والمتسلط تجاه الآخر أو الغريب شكلاً من أشكال الإمبريالية الثقافية، والتي من الواضح اليوم أنها ليست صحيحة سياسياً.

النتيجة الثانية لما بعد الحداثيين هي الحاجة إلى تصحيح سذاجة العلم الوضعي. لقد أظهرت القصة الكاملة لعلم ما بعد الوضعية أن المشروع العلمي يمكن أن يكون أي شيئا سوى أنه موضوعي. لقد تراجعت العلوم ما بعد الوضعية عن فكرة المنهج العلمي الذي يمكن أن يبحث بشكل موضوعي ويكتشف الطبيعة الكلية للواقع دون تدخل من العلماء المتحيزين أنفسهم ونماذجهم. لا تكشف القصة أن العلم ليس موضوعيًا تمامًا، فحسب، أن "العلم الجيد في تقصي الحقائق يحتوي على عناصر ذاتية أو تقديرية"، بل وقد أضيف، تفسيرية.

في عالم ما بعد نيتشه المستنير بمفاهيم ما بعد الوضعية، ترتبط الموضوعية والحقيقة والواقع ارتباطًا وثيقًا بشيء سبق أن ساهم به الذات، ولا يمكن تحقيقها بدون ذلك. لا يبقى شيء واضح من الواقع بمجرد "تصحيح" جميع الأحكام المسبقة أو "التحيزات" المحتملة للعالِم (الذات). في عالم ما بعد نيتشه لم يمت الله ؛ الوضعية والتوحيد هم من ماتوا. الربوبوية( تعدد الآلهة كما السرديات الصغرى) حية وبصحة جيدة. ومذهبها هو الفكرة النسبية للعوالم الموضوعية المتعددة، ووصيتها هي المشاركة في العملية التي لا تنتهي للتغلب على وجهات النظر [الغربية] الجزئية.

ومع كل ذلك، نعى ما بعد الحداثيين بصلافة واصرار شيئا آخر، إلا وهو الذات البشرية الحداثية.

إن الذات البشرية الحداثية التي يسعى ما بعد الحداثيين إلى حلها هي كيان مألوف لمعظمنا لأننا ذوات بشرية. الذات الحداثي كائن عارف ومفكر وحشوي وإرادي يسعى إلى النمو والتطور كشخص. يمتلك صورة ذاتية، وهوية مميزة، ويعمل بجد، ومنضبط شخصيًا، ويؤمن بشكل ما من أشكال الحقيقة الشخصية، ويدرك قيمة العلم والتكنولوجيا، يقطع على نفسه التزامات ويتابعها، ويشارك اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا، يؤسس علاقات ذات مغزى، يوظف العقلانية، يكافئ التعليم، يتبع العادات أو الأعراف الاجتماعية، ذو دراية، يعمل بشكل هادف، ملتزم بالقانون، إلخ. بشكل عام، الذات الحداثي هو شخصية فردية متكاملة تم إنشاؤها بواسطة القيم الحداثية. هناك شيء في هذا الكون لهذا الفرد.

 يمتلك الإنسان هوية داخلية وحيوية حقيقية ومستقرة ودائمة. نواة صلبة حقيقية. هذا هو النوع من الذات البشرية الحداثية هو الذي تسعى ما بعد الحداثة إلى تفكيكه وتدميره.

بالاعتماد على تعاليم نيتشه وفرويد في نقدهما للإنسان، نظر ما بعد الحداثيين (خاصة فوكو ودريدا) إلى الذات الإنسانية كرمز لكل ما تمثله الحداثة مثل العقلانية والعلم والحقيقة والموضوعية، إلخ. نظروا إلى الذات الحداثي باعتباره من ابتكار النزعة الإنسانية الليبرالية والعلمية والتنويرية التي تم استخدامها لتبرير التفوق الغربي والإمبريالية الثقافية. علاوة على ذلك، يرى ما بعد الحداثيين أن الذات الحداثية هي أساس ثنائية الذات / الموضوع المزعجة التي كانت، في تقديرهم، سبب علاقات القوة المؤسفة، والتسلسل الهرمي، وتجسيد البشر كأشياء، والادعاء بفهم الواقع وتمثيله، وأساس إصدار السرديات الكبرى ذات التمركز اللوغوسي التي تهيمن على الآخرين.

هذا النوع من الأشخاص غير مقبول لما بعد الحداثيين ويجب أن يذهب. وبالتالي، فإن ما بعد الحداثيين يشككون بشدة في إمكانية وجود إنسان موحد ومتماسك مع مركز متكامل ومضمون. يفتقر الشخص ما بعد الحداثي إلى المساءلة، فهو غير مسؤول وغير مستقل، ومنعزل بشدة، وينكر الحقيقة وأي شكل من أشكال الواقع النهائي، ويرفض جميع السرديات الكبرى، ويسخر من العلم، ويفضل العاطفي على العقلاني، ويسعى إلى ما هو غير عادي وغريب، ينكر وقار الحياة ويفضل النزوة. تقدم ما بعد الحداثة الفكرة القائلة بأن البشر مبنيون لغويًا، "تأثير الخطاب"، فالذات كيان مكون من اللغة التي تتوسط كل الموضوعات والأشياء. بصلة دون لب؛ انزع الطبقات المبنية اجتماعيًا ولغويًا وستجد أنه لن يتبق شيء. تبدأ طبيعة شخص ما بعد الحداثة برفض فكرة الشخصية المتكاملة لصالح التركيز على التقاطعات الثقافية المتعددة التي تشكل ذوات متضاربة ضمن الذات... -ذوات مشبعون بالدلالات، لكنهم محروم من المعنى - لم يعد الناس يظهرون على أنهم رعايا أو فاعلون في التاريخ، ولكن كائنات سلبية ومنعزلة تلعب ألعابًا من الباستيج والكولاج على الأسطح المزخرفة للتاريخ.

هنا تبرز أصوات ما بعد حداثية حادة بشرت صراحة بموت الذات الحداثي: فوكو ولاكان ودريدا من بين آخرين. سنستعرض هنا الثلاثة الأهم الذين نظروا لموت الذات الحداثي.

فوكو: الذات في الخطاب

 يصف فوكو كيف شيدت الفلسفة الحداثية الانسان بوصفه كائن وذات المعرفة - على حد سواء - ضمن سلسلة من "الثنائيات" غير المستقرة: ثنائية الكوجيتو(الفكر)/ واللا فكر حيث يُحدد الانسان بقوة خارجية ولكنه يدرك هذا التحديد وله القدرة على تحرير نفسه منه؛ وثنائية انحسار وعودة الأصل حيث التاريخ يسبق الإنسان ولكنه المصدر الفينومينولوجي الذي يتكشف منه التاريخ ؛ وثنائية المتجاوز والتجريبي حيث الإنسان يشكل ويتشكل بالعالم الخارجي معا، ويجد أسسا أمنة للمعرفة عبر المسلمات او التصنيفات القبلية (كانط) أو عبر اجراءات الرد أو الاختزال التي تسمح للوعي ان ينفي نفسه من العالم التجريبي (هوسرل). يحاول الفكر الانساني في كل من هذه الثنائيات استرداد استقلالية وأفضلية الذات المفكرة وأن يسيطر على كل ما هو آخر بالنسبة لها. يتلخص نقد فوكو الأولي للعلوم الانسانية في أنها مثل الفلسفة تقوم على محاولة مستحيلة للتوفيق بين قطبين لا يمكن التوفيق بينهما: الفكر ووضع الذات التي تُشكِل.

  يخلص كتاب (الكلمات والاشياء) بعد تحليل (ولادة الانسان) إلى توقع (موت الانسان) بوصفه الذات الابستمولوجية في الفضاء الابستيمي ما بعد الحداثي وما بعد الإنساني، حيث أُسقط الانسان مرة واحدة وبالكلية عن العرش وفسر بوصفه نتيجة اللغة والرغبة واللاوعي. بدأ هذا التطور في القرن العشرين مع ظهور (مضادات العلم) مثل التحليل النفسي واللغويات وعلم الأجناس والاركيولوجيا ذاتها تنتمي إلى هذا الفضاء. وحين لم يعد الكوجيتو السيادي أو الأساس المتعالي، أصبحت الذات في هذه الابسمتية ظاهرة عارضة لقوى قبل شخصية.

جاك لاكان: الذاتية والهياكل اللغوية والإيديولوجية.

  جاء التأثير الآخر على موقف ما بعد الحداثة من الذاتية من جاك لاكان، المنظر الفرنسي ما بعد البنيوي. اكشف لاكان بناءالذاتية عن طريق تحليل الهياكل اللغوية والإيديولوجية التي تنظم اللا ـ وعي والوعي عند البشر.

  يقدم نموذج لاكان نقدا للمفهوم الإنسانوي للذات القائمة قبل/ والمستقلة عن الخطاب اللغوي. بالنسبة لاكان، يتم جلب الذات إلى الوجود من خلال عملية الدلالة. إن مدخل الإنسان إلى النظام الاجتماعي من خلال اللغة هو الذي يحدد تصوره لنفسه وواقعه. وبعبارة أخرى، يعود وجود الذات الإنسانوية ككيان اجتماعي، إلى النظام التفاضلي للغة الذي يسبقها ويحدد تصورها. يؤكد لاكان، مثل فوكو، على دور "الآخر" في عملية بناء الذاتية. يكتسب البشر دائما مفاهيم عن أنفسهم من حيث العلاقة بالآخرين والأفراد والأحداث على حد سواء، وبالتالي فإن الذات تحمل في ذاتها حالة الفقد. ومن خلال اكتساب اللغة، يجادل لاكان، تدخل الذات البشرية في الترتيب الرمزي حيث يتم اختزالها إلى الدال الفارغ في مجال "الآخر".

 

جاك دريدا: تفكيك الذات بالديفرانس

   فكك عمل جاك دريدا الذات من خلال تحليل اللغة. ويختلف دريدا عن لاكان في أنه لا يركز على العمليات النفسية لاكتساب اللغة، ولكن بدلا من ذلك على الطبيعة المنقسمة والإدعائية للغة نفسها. وفقا لدريدا، ليس لأي مصطلح هوية في حد ذاته. تم تأسيس هويته من خلال علاقته بجميع المصطلحات الأخرى، التي ليس لها هوية إيجابية في حد ذاتها. فالاختلافات بين هذه المصطلحات هي التي تشكل هوياتها: وإمكانيات الاختيار والجمع بين المصطلحات (الاستعارة و الكناية في مصطلحات جاكوبسون )، هي ما يحدد المعنى و القيمة اللغوية لجميع المصطلحات. تعمل مصطلحات "الهوية" و"الإختلاف" فقط بسبب هذا الاختلاف اللغوي. يلعب دريدا على "الإختلاف" من داخل الإختلاف نفسه. الإختلاف، من ناحية، الذي يعمل بوصفه سلبا، عكس الهوية في النظام الثنائي، ومن ناحية أخرى، الذي يعمل لتمثيل الحركة العملية أو السيرورة / المفهوم الذي يسبق منطقيا الأزواج الثنائية. إنه يتجاوز النظام الثنائي.إنه تلك البقية التي تركت بسب الاستقطاب أو أنها لم تمثل فيه. نحن هنا أمام اختلافان: اختلاف يتسبب في المعنى والهوية واختلاف هو عكس الهوية تماما في النظام الثنائي. يميز دريدا الإختلاف الأول عن الثاني بتوظيف مفردة جديدة، ابتكرها حصرا، وهي الديفرانس Différance في حين أننا سنحتفظ بمفردة الإختلاف difference للإشارة إلى نقيض الهوية. الديفرانس هو الاختلاف بين الاختلاف والهوية. هو شرطهما وتجاوزهما معا، وأساس امكانيتهما، وهو أيضا التمزيق العنيف غير المقبول لحدودهما المزعومة. الديفرانس هو واحد من المصطلحات التي طورها دريدا لتسليط الضوء على الحدود العدوانية للتفاوت المفاهيمي بين الفلسفة والكتابة. الديفيرانس هو الاسم الذي اطلقه دريدا على اللعب المادي للقوى المنتجة لجميع الهويات. يظهر التسلسل الهرمي الميتافيزيقي منظما بشكل تعسفي، وبالتالي قابلا للتغيير. وبالمثل، في حين أن الكلام قد منح أولية واعتبر بدئيا مقارنة بالكتابة التي كانت مجرد الجهاز التقني لتسجيل الكلام وحفظه، فإن الكلام والكتابة، على حد سواء، يمكن أن ينظر إليها بوصفهما محكومين بقوانين الكتابة، لا الكلام. يمكن أن تحتل الكتابة أيضا المركز الأساسي، والكلام يصبح بالتالي اشتقاقها. ولكن تخيل أن هذه الرؤية قد تطيح بنظام المعارضات الثنائية من أساسه، سيقلل من شأن القوة القسرية والعنف الذي شكل تاريخ التمركز حول اللوغوس. فالمصطلح الذي منح الامتيازات في النظام الثنائي مارس تاريخيا قوة تحريضية قهرية على أنظمة تفكيرنا المعاصرة. ولكن دريدا يوضح أن تلك الضرورة التاريخية ليست ضرورة منطقية. فتلك القيم قابلة للعكس التعسفي والتحول السياسي. وبوصفها ضرورة تاريخية، فإن المصطلحات المميزة تفرض قوتها على التفكيك نفسه، الأمر الذي يفترض ضمنا، بالتالي، تفكيكا ذاتيا. تفكيك التفكيك. تفكيك لا نهاية له.

  يعمل مفهوم الذات كأساس لادعاءات اللغة حول نفسها وعملياتها وأصلها. تتشكل الذوات باللغة وفي تشكيلها على هذا النحو تساهم في/ وتواصل الغموض اللغوي للديفرانس. في تعليقه على مشروع "الغراماتولوجي" (دراسة تاريخ النحو، أو لاختلاف)، يبين دريدا كيف أن مشروعه وفهمه للغة هو تخريب للإنسانوية، والمعرفة العلمية، والأشكال الخطية للعقلانية. الديفراس، كما يأمل، يعرض طرقا جديدة للتفكير: "جمعية الأبعاد "، "غير خطية"، وبالتالي ثورية في مفاهيمها عن الإنسانية.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة