نهاية عصر النهات (8): موت المؤلف/الفنان. مؤلف ميت، نص مائع، وقارئ مسيطر.

 

نهاية عصر النهات

(8): موت المؤلف/الفنان.

مؤلف ميت، نص مائع، وقارئ مسيطر.

أماني أبو رحمة

 في سياق الحداثة، كان مؤلف النص هو الشخصية المركزية. في تكوين أي شكل من أشكال الأدب، يكتب المؤلف ما يقصده، ويقصد ما كتبه. كان المؤلف هو المصدر النهائي للموثوقية فيما يتعلق بمعنى النص الذي قام بإنشائه. كان الهدف المترتب على التفسير هو تمييز المعنى المقصود للمؤلف من خلال مجموعة متنوعة من المبادئ التأويلية. كان المعنى الموضوعي للنص هو هدف التفسير. في حين أن الروائيين أو الشعراء قد يكتبون ببساطة للترفيه عن جمهور القراء، فإن العاملين في العلوم الإنسانية والتخصصات العلمية كانوا يكتبون بقصد إعلام وتثقيف وتنوير القراء، سواء أكانوا محترفين أم من العامة. كان الكاتب فاعلا يسعى إلى توصيل المعلومات والمعرفة على أمل التأثير على قرائه في اتجاه واحد مقصود. وهكذا تولى المؤلف دورًا قويًا للغاية يمكن توظيفه لتعزيز عدد من القضايا الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية أو السياسية. امتلك المؤلف سلطة كبيرة واتخذ موقعًا مهيمنًا على النص والقارئ، وبالتالي أصبح أداة محتملة للسلطة. ولعل هذه الأسباب هي التي أطلقت القول المؤثور "الكلمة أقوى من الرصاصة".

 

تدعو ما بعد الحداثية إلى وضع حد لهذا الفهم الكلاسيكي لمؤلف النص وتعلن وفاة المؤلف الحداثي. تعارض ما بعد البنيوية الرأي القائل بأن المؤلف/ الفنان هو هوية متماسكة ورأس ينبوع المعنى المنذور لغرض ومبادرة والذي تؤثر قصديته على شكل العمل ومعناه. وظف ما بعد البنيويين " مصطلح"الذات" بدلا من المصطلحات التقليدية مثل "المؤلف/الفنان" أو "النفس. يجرد ما بعد البنيويين هذا المصطلح من فكرة أن المؤلف لديه السلطة المطلقة وهو من يحدد المعنى. في رأيهم، تميل البنيوية بالفعل إلى سحب القوة والمبادرة من الذات، وتحويل العامل الفاعل الانساني المتقصد إلى مجرد موقع، ولكن دريدا ذهب إلى أبعد من ذلك بحذف "المركز" وبالتالي القضاء على إمكانية وجود أي فاعلية مسيطرة في اللغة. المؤلف، بوصفه ذاتا، بالنسبة لهم، ليس إلا منتجًا لغويًا بحتًا.

شكك بارث وفوكو في سلطة المؤلف/الفنان. وأعلن بارت بنبرة ميلودرامية "موت المؤلف/الفنان". واستجوب الماركسيون والمؤرخون الجدد مفهوم المؤلف باعتباره "إنسانًا متماسكًا وقصديا وحاسمًا". يعتبر الإنسان نتاجًا لظروف اجتماعية وثقافية وسياسية ونفسية وجنسية متنوعة، خاضع لإكراهات اللاوعي الخارج عن سيطرته. يعتبر هؤلاء المنظرون المؤلف/الفنان "موقعا" لإنتاج العمل فقط.

يعترض ما بعد الحداثيين الراديكاليين على دور المؤلف لعدة أسباب. يجادلون (1) أنه من الخطأ قصر معنى النص على ما قصده المؤلف، وذلك لمنح مؤلف النص امتيازًا على قارئه ؛ (2) أنه بالنظر إلى غموض اللغة، فإن التحقق من المعنى المقصود للمؤلف في النص هو أقرب إلى المستحيل على أي حال ؛ (3) أن فهم السياق الذي كتب فيه المؤلف لا يساعد كثيرًا في تحديد معنى النص ؛ (4) أن المؤلفين، بوصفهم أدوات سلطة، يخضعون القراء لأجنداتهم السياسية الضمنية أو الصريحة ؛ و (5) أن مجموعة نخبوية من المفسرين الذين يدعون أن لهم امتياز الوصول إلى معنى عمل المؤلف يولدون الهيمنة أيضًا.

بدلاً من إعلان موت المؤلفين، يضعهم ما بعد الحداثيين الأقل راديكالية موضع نقد واستجواب. يقللون من سلطة المؤلف دون تدمير وجوده أو أهميته تمامًا. يدخل المؤلف، من خلال نصه، في حوار مع القارئ، وبدلاً من تقديم أي نوع من التصريحات الموضوعية النهائية أو الحقائق المتعالية، فإنه يحدد "رؤى" ليأخذها القارئ ما بعد الحداثي في ​​الاعتبار: النص وفقًا لأفقه التفسري.

 فيما يتعلق بالنصوص المكتوبة، فهمت الحداثة أنها وسيلة اتصال أنتجها مؤلف متضمن في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي. تحتوي النصوص على محتوى موضوعي ومعرّف ينقل المعنى المقصود من المؤلف. عندما تم تطبيق مبادئ التأويل الدقيقة، وعندما يتم أخذ الإعدادات الوجودية للمؤلف في الاعتبار، يمكن تفسير النص بشكل صحيح. واعتبرت بعض التفسيرات "أفضل" من غيرها اعتمادًا على مهارة المفسر. يستمع القراء المعاصرون إلى النصوص بلطف ويتلقون رسالتها بإخلاص.

 تصف ما بعد الحداثية النصوص الحداثية بأنها تلك التي "يجب قراءتها كرسالة محددة، وموجهة لقارئ سلبي، وتقاوم إعادة كتابتها من قبل القارئ".

 

تقوم ما بعد الحداثة بمراجعة شاملة لطبيعة النص. بادئ ذي بدء، في فهم ما بعد الحداثة، يعتبر كل شيء "نصًا" وترتبط جميع النصوص بجميع النصوص الأخرى (مفهوم "التناص"، أو "التداخل النصي" ، كما أوضحته سابقا). على الرغم من هذا التعميم لمعنى المصطلح، فإن النصوص، بحكم طبيعتها اللغوية، تميل إلى تفكيك نفسها، ولا تقدم أي معنى ملموس، بل مجرد غموض.

تستجوب فكرة دريدا عن التفكيك وجود أي بنية موضوعية أو محتوى في النص. وفي حين أن البنيوية تجد النظام والمعنى في النص، فإن التفكيك على العكس يشكك في وجود أي بنية موضوعية أو محتوى في النص. بالنسبة للتفكيكيين، يكون النص دائمًا متدفقا، متغيرا ومفتوحا. يستبعد ممارسو التفكيك أي معنى في النص لصالح الكشف عن الهياكل المتناقضة المخبأة في الداخل. وبمجرد تأليف النص، يختفي المؤلف ويأخذ النص، مثل الإبن الضال أو( بينوكيو)، حياة خاصة به. لا تحظى النصوص بامتياز في ما بعد الحداثة إلا بقدر ما تتمتع بوجود مستقل عن مؤلفها. لا تحتوي النصوص على تأكيدات موثوقة ولا حقائق موضوعية ؛ فهي تخضع للمراجعة ويمكن أن تحافظ على تعدد المعاني (القراءات). نص ما بعد الحداثة هو نص مفتوج على مصراعيه، فاعل لغوي حر، خلق مفتوح، "آلة لتوليد التفسيرات". توصف نصوص ما بعد الحداثية بأنها قابلة "لإعادة كتابتها" من خلال قراءة كل قارئ وإعادة قراءتها مرات ومرات.

دور القراء، كما هو متوقع، قد تم تنقيحه بشكل كبير في نظرية  ما بعد الحداثية. أخضع العرض الحداثي القراء للمؤلف والنص، واعتبرهم العربة الأخيرة المهملة في قطار "المؤلف - النص - القارئ". كان  القارئ الحداثي يسعى للنص من أجل الحصول على معناه الحقيقي، كي يخضع لرسالته، وأصبح، وفقًا لما بعد الحداثية، ضحية محتملة للنص، عرضة للاستغلال والتضليل.

تزيل ما بعد الحداثية مركز مؤلف النص، وتعيد مركزة القارئ المهمش الذي يصبح، ليس العربة الاخيرة ،  بل "المحرك" في قطار "القارئ - النص - الكاتب" المعاد تصميمه. في البناء الحداثي، يتحكم المؤلف والنص في القارئ، ولكن في حالة ما بعد الحداثة، يتحكم القارئ في المؤلف والنص (أو على الأقل يحافظ النص والقارئ على حوار تفاعلي). لم يعد القارئ سلبيًا، بل يعيد كتابة النص وبنائه بنشاط، ويمنحه الحياة، ويسند معناه، ويحكم على محتواه، ويراجع رسالته. هناك العديد من التفاهمات (أو القراءات) للنص بقدر عدد القراء. معنى النص هو ما يقوله القارئ (مقيد بالحدود المعقولة للمجتمع التفسيري أو اللغوي ).

على الرغم من هذا الدور الجديد المنسوب إلى القارئ ما بعد الحداثي، فإنه لا يفترض أي منصب في السلطة، لا يمكنه إنشاء أي نوع من البارادايم الفوقي أو القاعدة المعرفية المميزة، ويقبل حقيقة أن قراءات جميع النصوص يتم تسويتها في النهاية على أساس من المساواة.

تشير النظرية الأدبية ما بعد الحداثية إلى أن قدرة النص على أن يكون منطقيًا بطريقة متماسكة تعتمد على النوايا القصدية للمؤلف الأصلي أقل مما تعتمد على النشاط الإبداعي للقارئ. بكلمات بارت، إذا كان النص "نسيجًا من الاقتباسات المأخوذة من مراكز ثقافية لا حصر لها"، فإن "وحدة النص لا تكمن في أصله بل في وجهته".

تُمنَح الكتابة، وهي نشاط جامح ومتعدد الموضوعات، تماسكًا في أعمال قراءة معينة. لكن هناك دائمًا مجموعة متنوعة من القراءات المحتملة (تتجاوز مجرد الاستحواذات الفردية)، قراءات خارجة عن سيطرة أي سلطة.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة