نهاية عصر النهايات (12): نهاية الاخلاقيات وقيم الحرية والعدالة والمساواة ؛ نهاية السياسات

 

أماني أبو رحمة

نظرًا لأنه يرفض وجود حقيقة موضوعية، فإن الفكر ما بعد الحداثي يستلزم أيضًا تحولا إلى النسبية الأخلاقية. في كتابه (أخلاقيات ما بعد الحداثة، 1993)، كتب زيغمونت بومان: " الجديد في مقاربة ما بعد الحداثة للأخلاقيات... يكمن في رفض البحث الفلسفي عن المطلق والمسلمات والأسس [أو الموضوعية] في النظرية". إذا لم تكن هناك حقيقة موضوعية، فلن تكون هناك قيما وأخلاقيات موضوعية. النسبية إذن هي النموذج الأخلاقي النابع من مناهضة الواقعية في ما بعد الحداثة. ومن خلال نقل جميع ادعاءات الحقيقة إلى مجال الذات، فإن الفكر ما بعد الحداثي يمنح امتياز الـ "حقيقة" لأخلاقيات الذات، رافضًا احتمال الموضوعية الأخلاقية ومستوجبا النسبية. قد نفهم أحد أسباب وراء ابتعاد ما بعد الحداثة عن العدالة في النسبية: لا توفر المقاربة المناهضة للواقعية إطارًا أخلاقيًا لدعم مفاهيم العدالة والظلم، لأن مفاهيم العدل والظلم تعتمد على وجود قيما اخلاقية موضوعية يمكن من خلالها تحديد ما هو عادل. يؤكد ما بعد الحداثيين أنه من المستحيل التطلع إلى أي تمثيل موحد للعالم، عالم حيث نجد روابط وتمايزات متعددة توحدها نظرة عامة أوسع وأقل خصوصية. ليس فقط ان النظريات الموضوعية مرفوضة بالنسبة لهم بوصقها سرديات كبرى. بل ان"العقل" نفسه يخضع لنقد ورفض مماثل. وفقًا لكتاب ما بعد الحداثة، لا يمكن للعقل تقديم مزاعم عالمية وصحيحة حول أي حقيقة مزعومة. ولكن يمكن للعقل، المفسر بشكل صحيح، أن يوفر مطالبات جزئية ومحددة محليًا ومعزولة، فقط.

يرتبط برفض السرديات الكبرى والشمولية لصالح السرديات الخاصة والنسبية وتفضيل المزيد من التحليل المحلي، التنصل ما بعد الحداثي من وجهة النظر القائلة بأن معرفة العالم الاجتماعي يمكن أن تكون تمثيلية أو منهجية. يتحدى التوجه ما بعد الحداثي مفاهيم المعرفة التراكمية والتقدم العلمي والموضوعية. إن أطروحة ما بعد الحداثة الأكثر تميزًا عن العلاقة التكافلية بين السلطة والمعرفة ترقى إلى الرفض الصريح لإمكانية التحقق من صحة المنهج العلمي أو المعرفة على أسس مستقلة وغير تاريخية وخالية من التعصب الجنسي والعنصرية: ومن هنا جاء نبذ هدف العلوم التاريخي المتمثل في تمثيل واقع ثقافي وطبيعي بلا وسيط.... " لم يعد من الممكن تصور المعرفة على أنها انعكاس لواقع مستقل أو اختزالها إلى ميول أو تلاعب بالظواهر النفسية والثقافية والطبيعية ".

يحاول ريتشارد رورتي إقناعنا بأن عوالمنا الثقافية والاجتماعية تتغير لا محالة بتبني لغات مختلفة، وأنه من خلال إنشاء استعارات يمكن أن تظهر لغات جديدة، وأن مثل هذه الأعمال الخلاقة تحل محل البحث عن النظريات والتفسيرات. ومع ذلك، من الصعب معرفة الأساس الذي قد يقوم عليه الاتفاق على نوع واحد من اللغة، أو اختيار إنشاء أو تبني استعارة جديدة أفضل من سابقاتها، أو على أي أساس غير عاطفي يمكن التعبير عن مثل هذه التفضيلات. نحن نعتبر أن اللغة من صنع الإنسان وأن التغييرات في اللغة قد تؤدي إلى عوالم مادية واجتماعية جديدة. ولكن، إذا كنا نفتقر الوصول إلى رؤى بديلة لما يمكن أن تصبح عليه تلك العوالم، وإذا لم نتمكن من تقييم صحتها وقيمتها خارج نطاق أنظمة اللغة المجازية والشاعرية، فلماذا نتبنى تلك الاستعارات الجديدة والعوالم المتحولة؟

 إذا كان أساس الفعل هو نظام من الإشارات والدلالات التي تعتمد أصالتها فقط على الاتساق الداخلي والمعنى، فيمكن ترميز المشكلات الاجتماعية بطرق تعزز أنماطا اجتماعية محددة من الظلم والقمع والعنصرية. إذا كان سيتم الحكم على جميع الترميزات الممكنة فقط من خلال إقناعها الداخلي / اللغوي، دون اللجوء إلى المبادئ الأخلاقية أو السياسية التي تتجاوز مثل هذا الإقناع، على أي أساس يمكننا رفض الظلم والاستعمار والتحيزات الجنسية والعنصرية،على سبيل المثال؟ إن القول بأننا سنكون "أفضل حالًا" باتباع استعارات أو لغات بديلة يبقى موضع تساؤل ما لم نتمكن من تقديم بعض الأسباب الجوهرية التي تبرر نوعًا مختلفًا من العالم يتجاوز الجاذبية اللغوية / الجمالية. إن إمكانية مثل هذا التبرير منطقية فقط خارج إطار الجمالية التي يتبناها رورتي، لأننا لا نستطيع اللجوء إلى قيمة لغة جديدة دون أساس اجتماعي وأخلاقي لتفوقها. وهذا بدوره يتطلب أكثر من رفض "الاستخدام المعتاد لذخيرة معينة من المصطلحات"، وأكثر من إلغاء "الأدوات القديمة التي لا يوجد لها بدائل حتى الآن" .

لا بد من التأكيد على هذه النقطة الأخيرة. يتلقى المهمشون،  والمشردون، والطبقة الدنيا ، والطبقة الوسطى، وفقراء الريف، والمضطهدون في مجتمعنا موارد اجتماعية وثقافية وتعليمية محدودة وغير ملائمة. ومع ذلك، يشير مهج ما بعد الحداثة إلى أن المعرفة المنهجية لهذا الموقف عصية على التحقيق، وأن النقد الأخلاقي لهذا الموقف الذي يدعو إلى تطوير البدائل والعمل المستمر لتحقيقها لن يكون قريبا. سيخبرنا محلل ما بعد الحداثة أن المعرفة الموثوقة بالديناميكيات المجتمعية الأساسية وآليات الاضطهاد ليست ممكنة حقًا، وقد تكون مضللة على أي حال. عندما تنشأ من العالم الواقعي مثل هذه المخاوف وتكون مدفوعة بفكرة عامة للعدالة الاجتماعية أو المساواة أو التحرير، يبدو أن ما بعد الحداثة تنكر صحة مثل هذه الادعاءات الأخلاقية غير الخاصة" .

     لننظر مثلا الى التعددية الثقافية ما بعد الحداثية والتي لا يمكن أن تقود إلى أي نوع من السياسات والا ستتحول الى ممارسات مؤسسية وقمعية ترفضها ما بعد الحداثة. التعددية الثقافية ما بعد الحداثية نظرية الى حد كبير وبالتالي فهي أقل تأثيرا في التقدم الإجتماعي من ممارسة السياسات في حالة تجاوز ما بعد الحداثة والانتقال من المستوى الفردي الذاتي إلى المستوى المؤسساتي. يشير العلماء المعاصرون إلى فشل نموذج النسبية والتعددية الثقافية لما بعد الحداثة. في ( المشكلة مع التنوع، 2006)، يوضح بن مايكلز الطرق التي يمكن بها لـمفهوم التعددية الثقافية أن يضفي شرعية على عدم المساواة الاقتصادية: "لقد بدأنا أيضًا في التعامل مع الاختلاف الاقتصادي كما لو كان اختلافا ثقافيا... وإذا استطعنا التوقف عن التفكير في الفقراء كأشخاص لديهم القليل جدًا المال والبدء في التفكير فيهم، بدلاً من ذلك، على أنهم أشخاص لا يحترمون كثيرًا، فإن موقفنا تجاه الفقراء، وليس فقرهم، هو الذي يصبح المشكلة التي تتطلب الحل، ويمكننا تركيز جهودنا الإصلاحية ليس على التخلص من الطبقات ولكن على التخلص مما نحب أن نسميه طبقية". يلاحظ بن مايكلز أيضا، أن تبني خطاب التعددية الثقافية حول مشكلةعدم المساواة الاقتصادية هو تصور عدم المساواة الاقتصادية على أنها "اختلاف ثقافي"محترم بدلاً من مشكلة يتعين حلها، وبالتالي تحويل مشكلة المساواة الاقتصادية المنهجية إلى مشكلة موقف. إن تركيز فكر ما بعد الحداثة على النسبية، المظهر الأخلاقي للتعددية الثقافية، يضفي الشرعية حتى على الاختلافات غير العادلة، مثل الاختلافات الطبقية أو الاحتلالات أو تصدير العنف خارج حدود دولة بحجة الحرب على الارهاب مثلا أو نشر الديموقراطية، وتحويل الانتباه عن مصادر المشاكل ومعالجة أعراضها بدلاً من ذلك. يمكن أيضًا استغلال فكر ما بعد الحداثة في إحداث تأثيرات ضارة حين نسحب التركيز بعيدا عن المصداقية ونضعه، بدلاً من ذلك، على القضايا الأكثر تجريدية مثل الحرية والتقصي المفتوح - ويمكن اضافة التعددية والتنوع. لكن... التوظيف التكتيكي لمنطق ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية لا يعني انهم يصدقونها. وبالتالي قد تطالب جماعة ما بتمثيل معين ليس لأن ما تطرحه جيد ومفيد ولكن لأن رفض تمثيلها من شأنه أن يتعارض مع فرضية التعددية الثقافية القائلة بأن جميع وجهات النظر صحيحة على قدم المساواة. والأمثلة هنا كثيرة نذكر منها على سبيل المثال قضايا مثل تفوق العرق الأبيض ومجمل خطابات اليمين المتطرف والأصوليين والارهابيين والمحتلين والاستعمار والتمييز ضد المرأة والتي يمكن أن تشرعن باسم التنوع الايديولوجي.

تتفاقم هذه المشكلات بسبب حقيقة أنها تزرع ثقافة اللامبالاة بالظلم، كما يفشل منطق التعددية الثقافية ما بعد الحداثي في توفير المنصة النظرية اللازمة للتجاوب مع هذه المشكلات. يوضح سايروس باتيل هذه النقطة في (الأدب الأمريكي الناشئ: من التعددية الثقافية إلى الكوزموبوليتانية في أواخر القرن العشرين،2014 ): "يسير منطق التعددية الثقافية المعاصرة على النحو التالي: أنا معجب بثقافتي... لكني أحترم ثقافتك. أنا حقا لا أستطيع التعليق على ثقافتك، لأنني لا أنتمي إليها... إذا وجدت بعض ممارساتك أوقيمك قديمة وكريهة أو حتى بغيضة - حسنًا، سنتفق على أن لا نتفق. حتى لو،على سبيل المثال، كانت واحدة من تلك الممارسات هي العبودية".

ما تخلقه التعددية الثقافية والنسبية هو عقد اجتماعي من العزلة المتبادلة التي تمنع الحوار. وبقدر ما يناقض انتقاد ممارسة العبودية، على سبيل المثال، في ثقافة ما الافتراضات الأساسية لـالتعددية الثقافية، فإن النظرية الاجتماعية لما بعد الحداثة، على الرغم من أنها تقدمية، إلا أنها تعارض بشكل أساسي العدالة والأخلاقيات.

تعليقات

المشاركات الشائعة