النيوليبرالية بين ميشيل فوكو وديفيد هارفي

النيوليبرالية بين ميشيل فوكو وديفيد هارفي
أماني أبو رحمة
قد يبدو خارج المألوف الحديث عن أهمية فكر فوكو في تحليل واقعنا الإقتصادي المعاصر، نظرا لأنه يُقرأ في كثير من الأحيان بوصفه مفكرا أتخذ قرارا بتجاهل مسائل الإقتصاد السياسي. يقول جيفري نيلون، على سبيل المثال، في كتابه (فوكو وأبعد،2008) إنه لا يملك إلا القليل جدا ليقدمه للقراء عن الحاضر الإقتصادي. الحاضر الذي ليس موجها بالدرجة الأولى نحو مجتمع ذي كتلة معيارية موحدة ومطبعة، ولكنه مشبع بالممارسات النيوليبرالية التي تعتمد الإبداع الفردي. وفقا لنيلون، فقد قضى فوكو معظم طاقته النظرية والسياسية ليكشف خبايا شكل من أشكال السلطة الحكومية التي فقدت بشكل حاسم الهيمنة في العقود التي تلت وفاته، وهي دولة الرفاه. ولذلك فإن جعل أفكاره ذات صلة اليوم يتطلب بناء حوار مثمر مع الماركسية المعاصرة. وهذا، بدوره، يعني الإعتراف بولائه لبعض المبادئ الأساسية مثل استمرار الصراع الطبقي، بدلاً من النظر لعلاقته مع الماركسية بوصفها علاقة رفض جملة وتفصيلا. ومع ذلك، ففي حين لا تزال النظرية الماركسية وثيقة الصلة بتحليل العديد من الآليات الأساسية للرأسمالية، إلا أنها تفشل في تعريف ما هو على وجه التحديد على المحك عند الحديث عن صعود النيوليبرالية. مقاربة فوكو للنيوليبرالية، كما سنرى، لا تتعارض فحسب مع التحليل الماركسي، ولكنها علاوة على ذلك توفر وجهة نظر أصيلة ترفض التنظير لصعود النيوليبرالية بمصطلحات الأيديولوجية والصراع الطبقي. الاستجابة الماركسية التقليدية لشرح الهيمنة النيوليبرالية ستكون حتما حيث الصراع الطبقي. يقول ديفيد هارفي، على سبيل المثال، في تحليله المؤثر في كتابه( لمحة تاريخية عن النيوليبرالية،2005): "إن الانعطافة النيوليبرالية كانت محاولة متعمدة وناجحة جدا من جانب الطبقة العليا لإستعادة السلطة والثروة. وضع ريغان وتاتشر نفسيهما على رأس حركة الطبقة العليا وكان الهدف المحدد استعادة قوتها. وعن طريق الإستفادة من المثل العليا للحرية الفردية وتحويلها ضد الممارسات التنظيمية للدولة وتدخلاتها، تمكنت الطبقة الرأسمالية من حماية مصالحها واستعادة موضعها. وكانت عبقرية النظرية النيوليبرالية هي توفير قناع خيري كامل من الكلمات الرائعة مثل الحرية والتحرر والإختيار والحقوق لإخفاء الحقائق القاتمة وراء هذه التحركات لإستعادة السلطة الطبقية محليا وكذلك عبر الحدود الوطنية. عمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كمراكز تآمرية لنشر و تطبيق "أصولية السوق الحرة" و "العقيدة النيوليبرالية" –التي هي أشكال أيديولوجية تفتقر الى الدقة والصرامة العلمية. بالنسبة لهارفي، فإن مقاومة النيوليبرالية تتطلب كشف القناع عن الحقيقة: يجب علينا فضح ما هي عليه حقا، النيوليبرالية ليست إلا محاولة سرية لاستعادة امتيازات الطبقة. علينا أيضا تجديد السياسات الطبقية:الطبقة ليست بلا معنى أو فئة بائدة، ولكن يجب أن تبقى السلاح المفاهيمي المركزي في النضال ضد الهيمنة النيوليبرالية".
ولكن بامكاننا، بالعودة الى التراث الفوكووي، أن نقول أنه بدلا من مقاربة النيوليبرالية بوصفها قناعا أيديولوجيا للحقيقة المخفية، يجب علينا الاستجابة لها على مستوى إنتاج الحقيقة.
كان لدى فوكو شكوك عميقة بمفهوم الأيديولوجيا. بالنسبة له، فإن السؤال الفلسفي الرئيسي لا يكون من خلال رسم خط فاصل بين ما يندرج ضمن فئة العلمية أو الحقيقة وما يأتي تحت عنوان الأيديولوجيا المشبوهة. بدلاً من ذلك، تكمن اهتماماته في إنتاج الحقيقة بطريقتين مختلفتين. إنه يريد تحديدالآثار السياسية للحقيقة، وكيف أنتجت تاريخيا. ومن ناحية أخرى، يريد أيضا تحليل أنظمة الحقيقة: الظروف التي جعلت من الممكن إصدار بيانات حقيقية عن الحكم أو الاقتصاد، على سبيل المثال. يجب أن تفهم النيوليبرالية باعتبارها نظاما متميزا من الحقيقة بهذا المعنى: الأنطولوجيا السياسية الخاصة بها تشكل شروط إصدار أحكام سياسية عقلانية في عالم اليوم.
توضح محاضرات فوكو في الكولج دو فرانس( 1975-1976) هذا التطور التاريخي، أي الجينيالوجيا التي أسست نظام الحقيقة الحكومي النيوليبرالي الذي يعد شرطا للممارسات السياسية الحالية. وقبل أن يتحول صراحة إلى الحاكمية النيوليبرالية، يبدأ فوكو محاضراته بتتبع خط يعود إلى القرن الثامن عشر. إنه يبين كيف بدأت صياغة الشكل الليبرالي للمنطق الحكومي، الذي اتضحت ملامحه عند منتصف القرن تقريبا، وكيف وجد تعبيره النظري وصياغته في الإقتصاد السياسي.كان أنصار المذهب الطبيعى مثل فرنسوا كيناي في فرنسا قد منحوا فعلا المجال الإقتصادي درجة عالية من الإتساق الداخلي، ولكن آدم سميث هو الذي أسس الإقتصاد باعتباره علما إقتصاديا ومحايدا. ومن خلاله ظهر المفهوم الحديث للإقتصاد باعتباره مجالا منفصلا من المجتمع وكذلك بوصفه كائنا مستقلا من المعرفة العلمية في التاريخ السياسي. وكان هذا تطورا مهما للغاية من حيث مفهومنا عن الحكم الرشيد، وبشكل أعم، فهمنا عن السياسة. يقول فوكو إنه مع تطور الاقتصاد السياسي الجديد تأسس مبدأ الحد من العقلانية الحكومية (الطريقة التي ندرك بها الممارسات الحكومية). في حين أنه حتى تلك النقطة كان القانون يعمل بمثابة قيود خارجية على الحكم المفرط، كان المبدأ الجديد ــ الاقتصاد السياسي ــ داخليا بالنسبة للعقلانية الحكومية. وهذا يعني أن الحكومة مضطرة للحد من ذاتها ليس لأنها تنتهك الحرية أو الحقوق الأساسية للناس، ولكن من أجل أن تضمن نجاحها.
حتى منتصف القرن الثامن عشر كان هناك العديد من الممارسات الإقتصادية المفروضة مثل الضرائب والرسوم الجمركية واللوائح التصنيعة. كل هذه كانت تُدرك باعتبارها ممارسة الحقوق السيادية أو الإقطاعية، والحفاظ على الجمارك، أو تقنيات منع الثورة الحضرية. ومع ولادة العقلانية الحكومية الجديدة القائمة على الإقتصاد السياسي تغير معنى كل هذه الممارسات الاقتصادية تغييراً عميقا، ومن منتصف القرن الثامن عشر أصبح من الممكن إنشاء ترابط منطقي بينها من خلال آليات واضحة. وهذا، بدوره، جعل من الممكن أن نحكم عليها بأنها جيدة أو سيئة، ليس بالمصطلحات القانونية أو الأخلاقية، ولكن بمصطلحات الحقيقة: تخضع المقترحات لتقسيم الحق والباطل والصواب والخطأ. وتبعا لفوكو في (ولادة السياسات الحيوية) دخلت النشاطات الحكومية في نظام الحقيقة الجديد.
 في( ولادة السياسات الحيوية) أيضا يخبرنا فوكو إن السوق كان موقع الإختصاص القضائي، سواء في العصور الوسطى وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، بمعنى أنه قد تم تنظيمه من خلال اللوائح الصارمة لضمان عدالة الأسعار، وأنه لا يوجد احتيال أوسرقة أو جريمة. كان موقعا للعدالة التوزيعية كذلك: ضمنت قواعد السوق أن الأفقر أيضا يمكنه شراء الأشياء. يعني الدخول إلى نظام الحقيقة الجديد في منتصف القرن الثامن عشر أن السوق لم يعد موقع الإختصاص القضائي. بل أنه يبدو الآن بوصفه شيئا ما يطيع ويتعين عليه طاعة الآليات "الطبيعية" التلقائية. التلقائية من نوع أن محاولات تعديل الآليات من شأنه أن يخل بها أو يشوهها. وهكذا أصبح السوق موقع الحقيقة لأنه سمح لآليات الطبيعية أن تظهر، مما يسمح بتتشكيل الظروف المناسبة لحسن سير العمل فيه. شكّل السوق أيضا موقعا للحكم على الممارسة الحكومية: الحكومة الجيدة تعمل الآن وفقا للحقيقة بدلاً من العدالة. وهذا يعني أن الحد من انتشارها أصبح أيضا وعلى نحو متزايد ليس قضية حقوق، ولكن قضية فائدة.
لم يعد الحد من ممارسة السلطة من جانب السلطات العامة يُصاغ بمصطلحات المشاكل التقليدية للقانون أو المسائل الثورية المتعلقة بالحقوق الأصلية وكيف يمكن للفرد أن يتأكد منها في مواجهة السلطة السيادية. ومنذ بداية القرن التاسع عشر كانت الأسئلة الرئيسية الموجهة إلى الحكومة هي : هل هي مفيدة؟ لأي غرض هي مفيدة؟ يدعي فوكو أن ما يميز الحاكمية الليبرالية في الأساس هو فكرة أن "السلطة الحكومية محدودة بالأدلة، وليس بسبب حرية الفرد". إمكانية الحد منها، ومسألة الحقيقة تم ادخالهما بالأهمية ذاتها على المنطق الحكومي بفضل الإقتصاد السياسي. وهذه لحظة مهمة للغاية في تاريخ الحاكمية. في (ولادة السياسات الحيوية) يقول فوكو "منذ تأسيسها، ومن أهم معالمها... نظام الحقيقة المميز... في الواقع لا يزال نفسه إلى اليوم ". لا يزعم فوكو أنه في تلك اللحظة من التاريخ أصبحت السياسات وفن الحكم أخيرا عقلانية، ولا أن عتبة ابستمولوجية تم التوصل إليها وعلى أساسها أصبح فن الحكم علميا. بل أنه يقول إن النشاط الحكومي دخل في النظام الجديد من الحقيقة الذي يحدد أي نوع من المزاعم حول الحكومة يمكن أن يكون عقلانيا. كان هذا التحول حاسما في فهمنا الحالي للسياسة. مما يعني أن جميع الأسئلة المطروحة سابقا حول فن الحكم بحاجة إلى إعادة تكوين من أجل أن نكون قادرين على الإجابة عليها بمصطلحات الحقيقة أو الباطل (الصواب والخطأ). ففي وقت ما كانت هذه الأسئلة من قبيل : هل أحكم طبقا للقوانين الأخلاقية، أو الطبيعية، أو الإلهية؟ ثم في القرنين السادس عشر والسابع عشر وفي ظل سيطرة المصلحة القومية raison d’Etat كان السؤال هل أحكم بقدر كاف من الحدة والعمق والاهتمام بالتفاصيل وذلك لتحقيق أقصى قوة للدولة ؟ أما الآن فإن السؤال سيكون: هل أحكم في الحد بين... الأقصى الأدنى المثبت لي بحكم طبيعة الأشياء...؟ الفكرة الرئيسية عند فوكو هي بالتالي أن فهمنا الحديث في السياسة قد تشكل وصيغت حدوده من قبل نظام ليبرالي معين من الحقيقة، والذي أسس بدوره علاقة جديدة بين السلطة السياسية والمعرفة الإقتصادية.

ولتلخيص معالمه الأساسية، أصبح من الممكن، لأول مرة في التاريخ، تقديم ما يُزعم أنه الحقيقة العلمية حول الاقتصاد والحكم الرشيد. واحدة من المعتقدات الأنطولوجية المهمة حول الليبرالية الإقتصادية والنيوليبرالية هي عقيدة الحياد الاقتصادي: الحقائق الإقتصادية موضوعية وعالمية ومحايدة سياسيا. والقرارات السياسية لا بد أن تستند إلى الحقائق الإقتصادية التي تُفهم بوصفها محايدة سياسيا. ينطوي هذا النظام أيضا على أن الحكومة الرشيدة لا يمكن أن تتداخل مع الآليات الاقتصادية. لأن الحقائق الإقتصادية قررت أن آليات السوق أفضل من يضمن أن السعي نحو المصالح الخاصة يؤدي تلقائيا إلى الصالح العام. ولذلك كان من غير المنطقي وضع مثل هذه المساعي تحت السيطرة السياسية. يجب تجنب كل تشوهات السوق المحتملة لضمان التشكيل الصحيح للأسعار، لأن التسعير الصحيح فقط هو ما سيوجه على نحو فعال تخصيص الموارد من أجل الكفاءة والإنصاف والإستقرار. وهذا يعني أنه حين نحدد شيئا باعتباره مشكلة اقتصادية مثل حجم الفجوة في الدخل بين الأغنياء والفقراء، فاننا نخرجها من المجال السياسي، الذي يُفهم على أنه المجال الذي يمكن أن يتسبب في حدوث تداخل لا داعي له وفقا لمجموعة من الالتزامات السياسية والمبادئ الأخلاقية. من ناحية أخرى، لا يمكن مناقشة الحقائق الإقتصادية سياسيا دون الوقوع في اللاعقلانية. أعادت هذه الفكرة تنظيم الأنطولوجيا السياسية من أجل نحت فضاء اقتصادي مستقل ومتحرر من التدخل السياسي. من منظور فوكو يجب أن يفهم صعود النيوليبرالية بوصفه تتويجا لتطور تاريخي أعاد رسم الحدود والانطولوجيا بين الإقتصاد والسياسة. وضعت استقلالية المجال الإقتصادي تحت الحاكمية النيوليبرالية قيودا صارمة على عالم السياسة، من قبيل أن المعرفة الإقتصادية يجب أن توجه بشكل أساسي السلطة السياسية. وهذا يعني فيما يتعلق بالمقاومة السياسية أن المهمة الفلسفية الأساسية ليست كشف الحقيقة الخفية حول النظرية الإقتصادية النيوليبرالية والسياسة. الأهم من ذلك هو أن نسأل، كيف أصبحت السياسة مجالاً يحتمل وضع مزاعم حقيقية علميا حول قضايا تتزايد باستمرار؟ لا يمكن اختزال النيوليبرالية إلى مجرد اعتقاد سياسي آخر يكون لنا حرية تبنيه أو تجاهله. وعندما تفهم بوصفها الصيغة المتطرفة من الحاكمية الليبرالية، فإنها تشكل الشروط الحالية لصياغة المعتقدات السياسية على النحو الذي نعيشه. وهذا يعني أن اليسار لم يخدع من قبل الدعاية الأيديولوجية المشكوك فيها لقبول السياسات الاقتصادية النيوليبرالية : لقد هزم من قبل الحقيقة. الحقيقة تشكل معضلة سياسية أكثر صعوبة بكثير من الأيديولوجيا أو إستعادة الامتيازات الطبقية بسبب أن معارضتها سياسيا يبدو غير منطقي. لخصت مارغريت تاتشر، واحدة من أكثر المؤيدين شهرة للنيوليبرالية، ما يبدو أنه حتمية الإصلاحات النيوليبرالية الإقتصادية في شعارها، "ليس هناك بديل". والسؤال الذي يتعين على اليسار مواجهته هو: كيف يمكن للمرء أن يقاوم الحقائق الإقتصادية سياسيا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة