ثلاثية الكرات ومكانية الوجود في الألفية الثالثة

بيتر سلوترديك
ثلاثية الكرات ومكانية الوجود في الألفية الثالثة
أماني أبو رحمة 
ولد الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك عام 1947. ودرس الفلسفة واللغة الألمانية والتاريخ في جامعة ميونيخ وجامعة هامبورغ من عام 1968 وحتى العام 1974. وفي عام 1975 حصل على الدكتوراه من جامعة هامبورغ. نشر سلوترديك عددًا من الأعمال الفلسفية المشهودة في ألمانيا.ويعمل حاليا أستاذا للفلسفة ونظرية الميديا في جامعة كارلسروه للفنون والتصميم فضلا عن مشاركته منذ العام 2002 في تقديم برنامج تليفزيوني شهير بعنوان ("في بيت من زجاج: اللجنة الرباعية الفلسفية")الذي تعرضة قناة ZDF الألمانية المكرسة لمناقشة القضايا الفلسفية المعاصرة بصورة معمقة. 
وعلى الرغم من عمله الأكاديمي الحالي، فإن أسلوبه المبتكر في الكتابة لم يتغير عن بداياته الأولى. يتفق سلوترديك مع نيتشه في ضرورة أن يفكر الفلاسفة المعاصرون في القضايا الخطرة وأن يسمحوا لأنفسهم بالانخراط في (التعقيدات المفرطة hyper-complexities): إذ يجب عليهم مقاربة الإنسانية الحالية والعالم من منظور أوسع بيئي وعالمي في آن(1). 
وازنت فلسفة سلوترديك بين الأكاديمية الصارمة ونوع من التعبيرات المناهضة للمعايير الأكاديمية والتي تجلت في اهتمامه ومتابعته لأفكار أوشو Osho الذي كان أستاذه أواخر السبعينيات. يرفض سلوترديك لقب المفكر المثير للجدل polemic thinker والذي أطلقه عليه منتقدوه،وهم كثر، ويفضل بدلا منه لقب الحاسم أو القطعي hyperbolic. 
لا يؤمن سلوترديك بوجود الثنائيات: الجسم والروح، الذات والموضوع، والثقافة، والطبيعة، وما إلى ذلك، لأن تفاعلاتها أو مساحات التعايش بينها "spaces of coexistence"والتقدم التكنولوجي قد خلقا ما يمكن أن يطلق عليه الواقع الهجين. 
ويشار إلى أفكار سلوترديك بوصفها ما بعد الإنسانية posthumanism، لأنها تسعى إلى دمج العناصر المختلفة التي فصلت قصرا ـ من وجهة نظره ـ عن بعضها البعض. وبناء على ذلك، فإنه يقترح إنشاء "الدستور جودي" الذي من شأنه أن يدمج جميع الكائنات: الإنسان والحيوان والنباتات والآلات معًا. لذلك فإن سلوترديك ليس الفيلسوف الذي يفهم الفلسفة بوصفها (حب الحقيقة) ذلك أنه ليس معنيًّا بالمشكلات الميتافيزيقية والأنطولوجية والأبستمولوجية الكبيرة. يقول:
" الموضوعات العظيمة مراوغة وأنصاف حقيقية. تلك الشواهق الجميلة العقيمة المتعالية – الله، والكون، والنظرية، والممارسة، والموضوع، والكائن، والجسم، والروح، والمعنى، والعدم – كلها لا شيء،إنها مجرد أسماء للشباب والغرباءوعلماء الاجتماع ورجال الدين"(2). ولا عجب بعد ذلك أن مواضيع فلسفته هي تلك الجوانب التي تبدو تافهة من الحياة.
قارب سلوترديك تحديدا قضايا معاصرة، قضايا مختلفة عن تلك التي تناولها المفكرون في وقت سابق مثل تلك الخاصة بمدرسة فرانكفورت. وفي عام 2004 أنجز سلوترديك ثلاثية الكرات Spheres trilogy: المشروع الأكثر طموحا حتى الآن (حوالي 2500 صفحة) بعد سبع سنوات من الكتابة. وقد نشر الجزء الأول عام 1998، والثاني عام 1999, والثالث عام 2004. والمجلد الضخم ليس إلا محاولة لكتابة تاريخ البشر من خلال فهم الناس بوصفهم كائنات تنتج الكرات وتعتمد عليها. 
وحتى نشر مشروع الكرات فإن صورة (الكرة) لم تكن موجودة في الخطاب النظري المعاصر. ولابد لنا أن نتساءل كيف وصل سلوترديك إلى هذا الرمز، الذي احتل مكانة كبيره قي تفكيره قي السنوات الأخيرة، ولمن أشار من الكتاب أو النصوص في مشروعه؟
يرى سلوترديك أن ثقافة ما لا تحمل مفردات كاملة عن نفسها. وتؤكد لعبة الكلمات الحالية على تحديد موضوعات وترك غيرها من الظواهر دون معالجة. وهذا ينطبق كذلك على مفردات النظرية في أواخر القرن العشرين. ويمكن للمرء، في العقود الماضية، أن يتكلم بشكل متقن ومع فارق بسيط عن كل ما يتعلق بالتركيب الزمني في العالم الحديث. فقد نشرت أطنان من الكتب تتحدث عن الدفع نحو الماضي historicizationوالتوجه إلى المستقبل، futurization، وتجهيز كل شيء ـ ومعظمها ليس مقروءًا الآن. وعلى النقيض من ذلك، كان لا يزال من الصعب نسبيا قبل عشر سنوات تقريبا التعليق على نحو معقول على مكانية الوجود spatialization of existence في العالم الحديث؛ ضباب كثيف يغطي فضاء النظرية. وحتى وقت قريب، كان هناك عمى مكاني طوعي ـ وبسبب المستوى الذي كان ينظر فيه إلى المشاكل الزمانية بوصفها تقدمية ورائعة. كان يعتقد بأن قضايا المكان قديمة ومحافظة وتهم الرجال من الطراز القديم والإمبرياليين. كذلك الفصول الساحرة عن الفضاء (المكان) التي كتبها دولوز وغواتاري في ألف هضبة لم تغير الوضع، لأنهما كانا سابقين على عصر مولع بعبادة الزمن. وينطبق الشيء نفسه على مقترحات فوكو المتأخرة، الذي يرى أننا ندخل مرة أخرى عصر الفضاء (المكان) الذي لم يكن لنا أن ندخله في تلك الفترة حتى ولو انتقاليًّا. 
نحن ببساطة ـ يقول سلوترديك ـ غير قادرين على الاستمرار في علم الكونيات القديم: أوربا التي تقوم على المساواة بين المنزل والموطن والعالم. ويرى جاكوب فون أكسكول Jakob von Uexkull: "إنه من الخطأ الاعتقاد بأن العالم البشري يشكل مرحلة stage مشتركة لجميع المخلوقات الحية. كل مخلوق يعيش مرحلة خاصة به والتي هي حقيقية مثلها مثل المرحلة التي يعيشها البشر". وتقدم لنا هذه الرؤية وجهة نظر جديدة تماما عن الكون الذي لا يتكون من فقاعة صابون واحدة طيرناها أبعد من آفاقنا لتتخذ أبعادا لا نهائية، ولكنه بدلا من ذلك يتكون من ملايين فقاعات الصابون المتجاورة بشكل وثيق بحيث إنها تتداخل وتتقاطع في كل مكان". والمكان الحيوي لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا منحنا الأولوية للداخل(3). لقد طرحت الحداثة موضوعة الإقامة أو السكنى بوضوح ـ يتابع سلوترديك ـ فبنيامين في مشروع الأروقة يبدأ من الافتراض الأنثروبولوجي الذي يقول إن الناس في جميع العهود يكرسون أنفسهم لخلق أماكن داخلية. وقد عبر الرجل الرأسمالي في القرن التاسع عشر عن هذه الحاجة من خلال استخدام أكثر التقنيات المتطورة من أجل تحصين الوجود عن طريق بناء الجزر الواقية: إنه يستخدم الزجاج والحديد وقطع الغيار الجاهزة الأخرى بغية بناء أكبر داخل ممكن. وتبشر الأروقة بإلغاء العالم الخارجي. إنها تلغي الأسواق في الهواء الطلق وتجلبها إلى الأماكن المغلقة، إلى الكرات المغلقة. . . لقد كان ذلك شرارة اتجاه اكتمل في تصميم الشقق في القرن العشرين، وكذلك في مراكز التسوق، وتصميم الإستاد الرياضي (4). 
و هناك أربع مراحل تفسر ظاهرة الإقامة كما يراها سلوترديك:
* المنزل بوصفه مكانا للانتظار: الانتظار القسري: البيوت في البداية كانت آلات لقتل الوقت. فالناس البدائيين في المزرعة كانوا ينتظرون حدثا صامتا في الحقول، حدث لا يمكنهم التأثير عليه، ولكنه بفضل الله لا يحدث بانتظام، وهو لحظة الخصب حين تتحول بذور النباتات إلى فاكهة. 
*ـ والمنزل بوصفه مكانا للاستقبال. هذا النوع من التواجد في المنزل تهدد في العصور الوسطى مع انتشار الثقافة الحضرية، ومنذ ذلك الحين زادت نسبة السكان الأوربيين الذين وقعوا في مصيدة الضجر وقلة الصبر، وعدم القدرة على الانتظار. . . في المدينة لا تنضج الأمور ولكنها تنتج. فالمنزل، والعمارة يعنيان أن بشرا يحشرون بشرا في إنشاءات يصنعها البشر. 
*والمنازل بوصفها أنظمة غلاف جوي يوفر نظاما مناعيا مكانيًّا. خصوصا فيما يتعلق بالغلاف الجوي المصمم. الهواء الذي يتنفسه المرء. 
*وأخيرا الشقة في بناية: أو الموضع (studio) المخصص لوجود علاقة ذاتية في النظرية المعمارية والذي يمكن أن يحدد بوصفه مرحلة ناجحة لأسرة من شخص واحد. كل شيء يوجه إلى داخل الشقة: حيث يدمج العالم والأسرة معا. واليوم إذا ما كان لوجود بشري أن ينجح فإن ذلك بفضل الدعم المعماري الذي حول الشقة ذاتها إلى عالم بأسره. ونواجه اليوم الطريقة التي يتم بها عزل مبنى, مع ملاحظة أنه يجب عدم الخلط بين العزلة في مبنى وضخامة المبنى. فالعزلة ـ التي يمكن النظر إليها بوصفها ظاهرة مستقلة ـ هي نموذج لتفسير حالة العيش مع جيران وينبغي أن يكتب أحدهم كتابا في مديح العزلة، واصفا بعدا للتعايش الإنساني الذي يعترف بحاجة الناس اللا محدودة إلى عدم التواصل (5). 
فجميع الكائنات في هذا العالم ـ يؤكد سلوترديك ـ تمتلك صفات للتعايش. وقضية الكينونة التي ناقشها الفلاسفة بحرارة يجب أن تطرح هنا في سياق التعايش بين الناس والأشياء في الأماكن التي تضمهم. هذا يعني وجود علاقة رباعية: الكائن يعني شخص (1) يكون مع شخص آخر (2) ومع شيء آخر (3) في شيء (مكان) (4). هذه الصيغة توضح مدى التعقيد ـ في الحد الأدنى ـ الذي نحتاج إلى بنائه من أجل التوصل إلى مفهوم مناسب للعالم. ولابد أن يشارك المهندسون المعماريون في هذا الطرح لأن الوجود في هذا العالم يعني بالنسبة لهم مسكن في مبنى. والبيت هو استجابة ثلاثية الأبعاد لقضية كيف يمكن لشخص أن يعيش مع شخص آخر وشيء آخر في مكان ما.وبطريقتهم الخاصة، يفسر المهندسون المعماريون حرف الجر (في) الأكثر غموضا من جميع حروف الجر المكانية. فهذا الحرف يسلط الضوء على كونك بالداخل ضمن حاوية ما وعلى كونك خارجًا على حد سواء. والبشر كائنات منتشية ـ إذا ما وظفنا مصطلح هايدغر. إنهم محتجزون في العراء إلى الأبد. وبالمعنى الأنطولوجي، فإنهم في الخارج، أي في العالم، لكنهم لا يمكن أن يكونوا في الخارج إلا إذا استقروا من الداخل، في شيء ما يمنحهم كامل الدعم. ولابد هنا من التأكيد على هذا الجانب اليوم لمواجهة رومانسية الانفتاح الحالية. إنه نظام المناعة المكانية التي تتيح لنا أن نمنح الكائن – في الخارج شكلا مقبولا، وهكذا فإن المباني هي نظم للتعويض عن النشوة. "اللغة هي بيت الكائن " كما افترض هايدجر. وهي الحصن القوي الذي يمكننا من صد المفتوح والمكشوف. ومع ذلك فإنا نسمح أحيانًا للزوار بالدخول. وفي العلاقات الإنسانية، يخلق الحديث والمبنى الأمن الكافي الذي يسمح بالنشوة(6). 
ولهذا السبب، من وجهة نظر سلوترديك أيضًا، فإن المهندس المعماري هو الشخص الذي يتفلسف في /ومن خلال المادة. فالشخص الذي يبني مسكنًا أو ينصب مبنى لمؤسسة، إنما يقدم بيانا بشأن العلاقة بين النشوة والسكون enstatic، أو، إذا شئتم، بين العالم بوصفه شقة والعالم بوصفه ميدانا أو ساحة مكشوفة (أغورا agora). ومشروع الكرات هو عن داخل إنساني محدد. 
يشرح سلوترديك معنى نظريته على المستوى الميتافيزيقي،وهي أن البشر لا يعيشون خارج الطبيعة، وإنما يخلقون دائما نوعا من الفضاء الوجودي حول أنفسهم. المساحات الحضرية هي البيئة المؤنسنة حيث يتم استبدال الطبيعة بواقع من صنع الإنسان. وهذا يمكن أن يثير نوعا من الاغتراب؛ والشعور بالفقد داخل المدن التي قد تتوقع عادة أن تشعر بها وكأنك في الطبيعة(7)
ففي المجلد الثالث من الكرات وفي فصل طويل بعنوان "مدينة الرغوة، يحاول سلوترديك أن يصف هذه المضاعفات من الحياة العصرية بتوظيف مصطلح صناعة الرغوة foammaking -- كل فرد يعيش في فقاعة محددة داخل رغوة التواصل. و"مدينة الرغوة" هي نظرية للعيش في شقة. والشقة هنا هي المكان الذي يحتوي على وسائل الاتصال اللازمة مع العالم الخارجي، إلا أنها أيضا نظام مناعة مكاني. إنه يحصنك ضد تأثيرات العالم الخارجي ولكنه في الوقت نفسه يربطك بالعالم الاجتماعي الذي هو شكل من أشكال "العزلة المترابطة"ــ وهو مصطلح ابتدعه توم ماين، المهندس المعماري الأمريكي في أوائل السبعينيات. ويمكن للعزلة المترابطة أو المتصلة أن تكون مفهومًا هايدغريًّا. إنه على الأرجح واحد من أكثر المفاهيم العميقة التي لم يسبق أن وضعت داخل النظرية المعمارية الحديثة لأنه يتضمن الحكم على الطريقة الحديثة للحياة. لا يعتقد سلوترديك بفرضية هايدجر التي تقول إن العصر الحديث هو عصر التشرد. فما يراه هو التحول في جميع هذه الشكاوى التقليدية بشأن التشرد الحداثي إلى لغة علم المناعة language of immunology. . وبالنسبة له، فإنه لابد من ترجمة الميتافيزيقيا العملية إلى لغة علم المناعة العام لأن الكائنات البشرية،وبسبب انفتاحها على العالم، هشة من المستوى البيولوجي، إلى المستويات القانونية والاجتماعية، إلى المستويات الرمزية والطقوسية. ونحن نحاول دائما خلق وإيجاد بيئة واقية. إن مهمة بناء جهاز مناعة مقنع واسعة جدا ومحيطية حتى لا يكون هناك أي مساحة للأشواق النوستالجية. وهذه مهمة مستمرة لابد من أدائها وتنظيرها بكل تقنية متاحة. لا توجد وسيلة للتراجع حسب سلوترديك (8). 
الهوامش

1) Book Description for "Neither Sun Nor Death", MIT Press 2011. )
(2)Sloterdijk, Peter “Critique of Cynical Reason” [Minneapolis: University of Minnesota Press, 1987b]. p: xxvi. 
(3)Peter Sloterdijk Spheres Theory: Talking to Myself about the Poetics of Space. ” Harvard Design Magazine, Spring–Summer 2009, 1–9. 
(4) Ibid. 
(5) Ibid. 
(6) Ibid. 
(7) Ibid. 
(8) Ibid.

تعليقات

  1. وبالاشارة الى العلاقة بين الانسان والعالم، ما هو الفرق بين نظرة سلوترديك ونظرة مدرسة فرانكفورت ؟

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة