لماذا تقتلنا الحكومات؟ العنصرية وسلطة الموت من منظور فوكووي.

لماذا تقتلنا الحكومات؟ العنصرية وسلطة الموت من منظور فوكووي.
أماني أبو رحمة
كان الفرق بين السلطة السيادية والسلطة الحيويه محور كتاب( تاريخ الجنسانية، المجلد الأول). ولكن فوكو يختار نقطة انطلاق أخرى في محاضرات كوليج دو فرانس عامي 1975-1976. فالسياسات الحيوية هنا لا تعني كثيرا "العتبة البيولوجية للحداثة" بقدر ما أنها تعني "التمييز بين من يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت ". نقطة فوكو هنا هي أن التحول من السلطة السيادية إلى السلطة الحيويه يؤدي إلى تحول الخطاب العسكري السياسي إلى خطاب عنصري بيولوجي. كان الخطاب العسكري السياسي هو خطاب القرنين االسابع عشر والثامن عشر. وكان يسعى إلى أن يكون "تحديا للسلطة الملكية الحاكمة"، منبثقا ضمن التمرد البروتستانتي في انجلترا ما قبل الثورة وفي فرنسا، بعد ذلك بقليل، مع المعارضة الأرستقراطية للملك لويس الرابع عشر.
في وقت مبكر جدا في هذه العملية ظهرت عبارة "العرق race "، الذي لم يكن حتى الآن مرتبطا بأي مغزى بيولوجي. المغزى ـــــ بدلا من ذلك ــــ كان التقسيم على أساس سياسي وتاريخي. فالفكرة المركزية هنا هي أن المجتمع ينقسم إلى معسكرين يعادي كل منهما الآخر، ومجموعتين اجتماعيتين متضادتين تتعايشان على الأرض دون خلط، وتميز كل منهما نفسها عن الأخرى بوضوح من خلال، على سبيل المثال، الأصل الجغرافي أو اللغة أو الدين. هذا "الخطاب المضاد" ينازع أساسا شرعية السلطة السيادية وعالمية القوانين المفترضة، التي كشف النقاب عنها بوصفها معيارا وأشكالا محددة للاستبداد. في القرن التاسع عشر، وفقا لفوكو، اختبر هذا الخطاب التاريخي النقدي "نسختين". الأولى هي خطاب "الحرب العرقية " التي شهدت لأول مرة "النسخة البيولوجية بشكل علني" والتي اعتمدت، حتى قبل داروين، على عناصر التشريح المادي وعلم وظائف الأعضاء. تتصور هذه النظرية التاريخية البيولوجية عن العرق النزاعات المجتمعية بوصفها "نضالا من أجل الوجود" وتحللها في ضوء المخططة التطورية للجنس البشري. في التحول الثاني، يتم تفسير "الحرب العرقية" بوصفها الصراع الطبقي ويتم التحقق منها وفقا لمبدأ الديالكتيك. وفي بداية القرن التاسع عشر، ظهر الخطاب الثوري الذي استبدلت فيه مشكلة العرق المحدد سياسيا بثيمة الطبقة الاجتماعية. قاد التحولان في الإشكالية السياسية "الحرب العرقية " في نهاية القرن التاسع عشر إلى خطاب بيولوجي واجتماعي. تعتمد هذه "العنصرية racism" ( في القرن التاسع عشر فقط اكتسب هذا المصطلح معناه الحالي) على عناصر النسخة البيولوجية من أجل صياغة رد على تحديات الثورة الاجتماعية. وبدلاً من التثييم التاريخي والسياسي للحرب مع مجازرها وانتصاراتها وهزائمها، يدخل النموذج التطوري -البيولوجي مجال الكفاح من أجل الحياة. ووفقا لفوكو، فإن هذه "العنصرية الديناميكية "هي من "الأهمية الحيوية" لأنها تقدم تكنولوجيا تضمن وظيفة القتل بشروط السلطة الحيويه: "كيف يمكن لسلطة مثل هذه أن تقتل، إذا كان صحيحا أن وظيفتها الأساسية هي تحسين الحياة، وإطالة أمدها، وتحسين فرصها، وتجنب وقوع الحوادث، والتعويض عن الفشل؟.... في هذه المرحلة تتدخل العنصرية ".
تلبي العنصرية وظيفتين هامتين ضمن اقتصاد السلطة الحيويه. أولا، إنها تخلق تصدعات في المجال الاجتماعي تسمح بتقسيم ما كان متخيلا أنه متجانس بيولوجيا من حيث المبدأ (على سبيل المثال، السكان أو الجنس البشري بأكمله). بهذه الطريقة، يصبح التمايز إلى العرق الخير والشرير، والأعلى والأدنى، والصاعد والهابط، ممكننا ويؤسس الخط الفاصل "بين من يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت". وفي الواقع، "فإن التشظية وخلق الإنقطاعات ضمن الإستمرارية البيولوجية يسبق تكوينها". وعلى النقيض من الثيمة التقليدية للحرب العرقية السابقة، والتي تميزت بفكرة التقسيم الثنائي للمجتمع إلى عرقين متعارضين، ظهرت في القرن التاسع عشر فكرة المجتمع "الواحدي بيولوجيا". تحولت فكرة تعدد الأعراق إلى عرق واحد لم يعد مهددا من الخارج فحسب بل ومن الداخل أيضاً. والنتيجة هي "العنصرية التي سيوجهها المجتمع ضد نفسه، وضد العناصر الخاصة به، والمنتجات الخاصة به. هذا العنصرية الداخلية التي تهدف إلى التطهير الدائم، سوف تصبح بعدا أساسيا من أبعاد التطبيع الاجتماعي ". من هذا المنظور، فإن التجانس والترتيب الهرمي لا يعارض بعضه البعض، بل يمثل استراتيجيات متكاملة.
تذهب الوظيفة الثانية للعنصرية أبعد من ذلك. إنها لا تحد نفسها بانشاء الخط الفاصل بين "السليم " و"المريض" و"من يستحق العيش" و" من لا يستحق العيش." ولكنها تبحث عن "إقامة علاقة إيجابية من هذا النوع:" كلما قتلت أكثر، فإن المزيد من الوفيات سوف يحدث" أو "حقيقة أنك تسمح بموت أكثر تعني أن تعيش أنت أكثر ".
 تسهل العنصرية، بالتالي، وجود علاقة ديناميكية بين حياة شخص ووفاة آخر. إنها تسمح ليس فقط بالترتيب الهرمي لـ"أولئك الذين يستحقون الحياة "ولكنها أيضا تموضع صحة الشخص في علاقة مباشرة مع إختفاء آخر. إنها توفر الأساس الأيديولوجي لتحديد واستبعاد ومكافحة، بل وحتى قتل الآخرين، وكل ذلك باسم تحسين الحياة: "حقيقة أن وفاة آخر تعني ببساطة أن أعيش بمعنى أن وفاته تضمن سلامتي. وفاة آخر، وفاة العرق السيئ، العرق السفلي (أو المنحط، أو غير الطبيعي) هو شيء من شأنه أن يجعل الحياة عموما أكثر صحة ".
تفترض فكرة المجتمع بوصفه كلاً بيولوجيا توفير السلطة المركزية التي تحكمه وتسيطر عليه، وتسهر على نقائه، ويفترض أنها قوية بما فيه الكفاية لمواجهة "الأعداء" داخل حدودها وخارجها: تلك هي الدولة الحديثة. وجهت العنصرية، يقول فوكو، من نهاية القرن التاسع عشر على أبعد تقدير، أفعال الدولة. لقد وجدت نموذجا في أدواتها السياسية وسياساتها الملموسة بوصفها "الدولةالعنصرية ".
في حين أن الخطاب السياسي التاريخي عن العرق لا يزال موجها ضد الدولة وأجهزتها (الذي يدينها بوصفها أدوات لهيمنة جماعة على أخرى) وضد قوانينها (الذي يفضح تواطؤها)، فإن خطاب العرق يصبح في نهاية المطاف سلاحا في يد الدولة: الدولة لم تعد أداة يستخدمها عرق ضد آخر: الدولة هي، ويجب أن تكون، حامية للسلامة والتفوق والنقاء العرقي. فكرة النقاء العرقي، بكل تضميناتها الواحدية والدولتية والبيولوجية هي ما سيحل محل فكرة النضال العرقي. أعتقد ــ يقول فوكو ـــــ أن العنصرية ولدت في نقطة ما عندما أُستبدل موضوع النضال العرقي بالنقاء العرقي.
 يشير فوكو إلى تحولين في الخطاب العنصري في القرن العشرين: ألمانيا النازية والدولة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. عادت الاشتراكية الوطنية إلى موتيفات الحرب العرقية القديمة من أجل إطلاق التوسع الإمبريالي إلى الخارج ولمهاجمة أعدائها في الداخل. ويتميز هذا "بتمجيد خيالي للدم المتفوق [الذي ] يتضمن كلاً من الإبادة الجماعية الممنهجة للآخرين وخطر تعريض النفس للتضحية الكاملة ". تفتقد العنصرية السوفيتية، مع ذلك، اللحظة المسرحية التي توفرت للنازية. ولكنها بدلا من ذلك نشرت وسائل منفصلة من قوات الشرطة الطبية. تحققت يوتوبيا المجتمع الطبقي في الدولة الاشتراكية من خلال مشروع تطهير المجتمع حيث تم التعامل مع جميع أولئك الذين ينحرفون عن الأيديولوجية السائدة بوصفهم إما "مريض" أو "مجنون". في هذه النسخة من الدولة العنصرية، أصبح الأعداء الطبقيين خطرين بيولوجيا وكان لا بد من إزالتهم من الجسم الإجتماعي.
يشرح فوكو أهداف السياسات النازية التي بلغت ذروتها بتعريض البشرية كلها للموت، لأن ذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يحقق حلم التفوق العرقي المطلق من خلال إفناء الأعراق الأخرى أو إستعبادها الى الأبد. أما الأفكار التي كانت وراء (الحل النهائي) فهي ــــ من وجهة نظر فوكو: أن الأعراق الأخرى، في نظر النازيين، كانت فاسدة وفي درجة أدنى من العرق الآري المتفوق، وبالتالي فلا بد من إبادتهم. يقول فوكو: كان على الدولة أن تثبت ثلاثة جوانب مختلفة من أجل السيطرة على السكان: أن تكون دولة عنصرية، وقد تمثل ذلك بالتميز العنصري ضد الأعراق. وأن تكون دولة إجرامية، وقد تمثل ذلك في تشكيل مؤسسات منحت الحق في قتل المدنيين المعاقين جسديا أو عقليا للحفاظ على التفوق العرقي. وأن تكون انتحارية، وقد تمثل ذلك عندما أعطى هتلر أوامره قبيل نهاية الحرب بتدمير الظروف المعيشية للشعب الألماني. بلغت هذه الجوانب ذروتها في ( الحل النهائي) وهو الإبادة الجماعية للأعراق سوى الآري. ويقول فوكو إن النازية قد اضطرت إلى توضيح أن الدولة لن تتردد في القتل من أجل الحفاظ على استقلال سلطتها و على النقاء العرقي لسكانها.
تعرض تحليل فوكو للعنصرية لإنتقادات محقة بأنه محدود وانتقائي. وعلى الرغم من أنه قد ذكر مشكلة الاستعمار بشكل خاطف في مناقشاته، إلا أنه لم يتعامل معها بطريقة منهجية. فضلا عن ذلك، فإن فوكو لا يعترف بالترابط الداخلي للدولة، والمواطنة، ولا هو مهتم بالمكون الجنسي في الخطاب العرقي. وعلى الرغم من هذه الثغرات والقصور، فمن الواضح أن جينيولوجيا فوكو للعنصرية الحديثة تحتوي على مجموعة من الأصول التحليلية. فهو أولا،لا يدرك العنصرية باعتبارها بناء أيديولوجيا ولا حالة استثنائية ولا ردة فعل اجتماعية على الأزمات. فالعنصرية، وفقا لفوكو، هي تعبير عن انقسام داخل المجتمع أثارته فكرة السياسات الحيوية عن التطهير المتواصل( وغير المكتمل دائما) للجسم الاجتماعي. لم يتم تعريف العنصرية من خلال العمل الفردي. بدلاً من ذلك، فإنها تهيكل المجالات الإجتماعية للعمل، وتوجه الممارسات السياسية، وتتحقق من خلال جاهزيات الدولة. وعلاوة على ذلك، فإن فوكو يتحدى الترسيم السياسي التقليدي بين المواقف المحافظة والنقدية.
لقد كانت النسخة القديمة من الحرب العرقية هي الخطاب الذي يوجه نفسه ضد السلطة السيادية المؤسسة والتمثيل الذاتي ومبادئ الشرعية. ولكن فوكو في "يجب الدفاع عن المجتمع" يقرر أن المشروع السياسي للتحرير يتحول نحو الإهتمام العنصري بالنقاء البيولوجي؛ بحيث يصبح الوعد الاستشرافي الثوري توافقا طبيا صحيا مع المعيار البيولوجي. ومن النضال ضد المجتمع وقيوده، إلى حتمية "الدفاع عن المجتمع" ضد الأخطار البيولوجية، يتم تحويل الخطاب ضد السلطة إلى خطاب السلطة:"العنصرية هي، بكل معنى الكلمة، الخطاب الثوري بشكل مقلوب".
يوجه تحليل فوكو الانتباه إلى "تعدد الأغراض التكتيكي" والقدرة الداخلية للتحول التي يحملها هذا الخطاب العرقي. وبهذه الطريقة يصبح من الممكن تناول بعض الاستراتيجيات المعاصرة للنيوعرقية التي لا تشدد كثيرا على الفرق البيولوجي، بل تؤكد على الإختلافات الثقافية وسواها التي تزعم أنها جوهرية بين المجموعات العرقية أوالشعوب أو الفئات الإجتماعية.
يمكن توظيف هذا التحليل الفوكووي لتفسير كيف تقوم الدول المعاصرة بالقتل حد الإبادة الجماعية لطائفة من سكانها على أسس حددها فوكو أو لم يحددها، بل فرضتها المستجدات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والتقانات الحيوية الأكثر تطوراً ، أيضاً. نحن، باختصار، نعيش عقود قتل الدول لشعوبها بلا منازع.



تعليقات

المشاركات الشائعة