الديفرانس والأثر

  
الديفرانس والأثر
                                                     أماني أبو رحمة

قبل سوسير كانت العلامة هي تمثيل الشيء في غيابه، هي حضور غائب (بالكلمات أو الكتابة). ولكن فكرة سوسير أن العلامة ليست اسم الشي، وأن ليس للعلامة هوية ايجابية أو حضور مَشْكل هذا الإدراك التعيني البسيط للغة. وضح سوسير أن ليس للعلامة هوية ولا حضور ايجابي ولا محتوى ذاتي التمثيل. وأن هويتها محكومة فقط بالعلاقات التفاضلية مع العلامات الأخرى.
الحركة التفاضلية التي هي أساس أي هوية على مستوى العلامة، هي أيضا مبدأ الهوية على مستوى مكوني العلامة - الدال والمدلول. لا يمكن النظر في العلامة، كما فعل سوسير،  بوصفها حضور المدلول (المفهوم الذهني أو المعنى)  في الدال (مادة  أو" وسيط  "التعبير). يستدعي سوسير الحضور اللوغوسي حتى  حين يعلن فكرته التفاضلية عن العلامة، لذلك فإنه يقع  فريسة المنطق  الميتافيزيقي الذي لا هوادة فيه.
تتجلى مركزية اللوغوس عند سوسير في تمركزه حول الصوت phonocentrism وتثمينه  الكلام على حساب الكتابة. فاللغة عند سوسير، تُعرض على غرار المونولوج الداخلي: ما يعني أنه لا يزال عالقا مع التمركز اللوغوسي  إلى حد أنه ملتزم بحضور  المدلول. وهذا يتيح له تصور المنطوق أو العلامة  اللفظية  بوصفها وسيط  المعنى؛ العلامة بوصفها  حضور المدلول المفاهيمي . لذلك يمكن " للمدلول المتعالي" ، في نموذج سوسير النفسي، أن يرى في  الصوت اتصالا أوثق من الكتابة بالوظيفة النفسية للغة، الكتابة التي تعد  مجرد تحويل للكلام إلى شكل أطول بقاء.
العلامة ليست حضور الغياب، لأنها دائما أثر trace، إشارة ، نقش مادي ــ شكل من أشكال الكتابة. الأثر مثل الديفرانس مصطلح  متناقض: فهو غياب وحضورغير مقرر، أصل وتقليد، خرق ونقش للا ـ هوية. العلامة أثر، وليست حضور الموضوع/ المدلول في غيابه، هي أثر، ومن خلال الديفرانس،  أثر لأثر آخر، اختلاف بين اختلافين. يمكن رؤية  العلامة بوصفها حضورا  فقط في حالة أن ينكر المرء الدور الحيوي، بل التأسيسي، الذي تلعبه المسافات الفارغة، بياض الصفحة – التي تعتبر لا شيئ،  نقصا، أو غيابا  - في تكوين  المعنى.
اكتسبت العلامة هويتها المكانية  من علاقاتها السلبية والتفاضلية بمصطلحات أخرى، مثل التباعد، المسافة. ولا تكتسب هويتها الزمنية إلا بالإرجاء، والتعليق، والتأخير. العلامة ليست الحضور الكامل للمعنى، لأن المعنى مرجأ إلى ما لا نهاية. ولكن المعنى ليس غائبا عن العلامة . المعنى مفتوح إلى ما لا نهاية على القراءة القادمة، مؤجل، وتكميلي أو الحاقي، واستعادي.
العلامة هو بالتالي التأخير والإرجاء المستمر للمدلول. فكرة الديفرانس إذا تنطبق على العلامة ذاتها وبالتالي تحضر فكرة الأثر. الأثر هو ديفرانس العلامة . اختلاف وارجاء العلامة . هو الجزء الغائب من حضور العلامة. وبعبارة أخرى، يمكن أن نحدد الأثر بوصفه العلامة المتروكة من  الشيء الغائب، بعد أن مر على مسرح حضوره السابق. كل  حضور، من أجل أن يعرف  نفسه بوصفه حضورا، يحمل أثر الغائب الذي يحدده. ويترتب على ذلك أن الحضور البدئي  يجب أن يحمل أثرا بدئيا،  الأثر الحاضر  لماضي لم يحدث أبدا؛ الماضي المطلق. وبهذه الطريقة، يعتقد دريدا أنه يحقق موقفا يتجاوز المعرفة المطلقة. وفقا لديريدا، فإن الأثر  نفسه لا وجود له لأنه محو ذاتي. وهذا يعني، في تقديم نفسه، يصبح ممحيا مطموسا. ولأن جميع الدوال ينظر إليها بوصفها حضورا في الفكر  الغربي ستحتوي بالضرورة على آثار من دوال أخرى (غائبة)، لذلك فإن الدال لا يمكن أن يكون حاضرا كليا ولا غائبا كليا.
في (هوامش الفلسفة) يقول دريدا " بأقصى قدر ممكن من الدقة يجب أن نسمح بظهور/اختفاء أثر ما يتجاوز حقيقة الوجود. أثر (ذلك) الذي لا يمكن أبدا تقديمه، الأثر  نفسه  الذي لا يمكن ان يُقدم: أن يظهر ويكشف عن نفسه، على ما هو عليه ، في ظاهرته..إرجاء واختلاف على الدوام ، الأثر ليس هو على الإطلاق كما في تمثيل نفسه  أنه يمحو نفسه في تقديم نفسه،  يُفشل نفسه في االترديد، مثل الكتابة نفسها، التي تنقش هرمها في الديفرانس. ولأن الأثر ليس حضورا ولكنه  زيف حضور  يخلخل نفسه ويزيح نفسه ويشير إلى أبعد من نفسه، لذلك فمن المحتمل أن الأثر بلا مكان ، بلا موضع. ولذلك فإن المحو هو ما يليق ببنيته. المحو الذي عليه  دائما  أن يكون قادرا  على تجاوز الأثر  وتخطيه ( لأنه بدونه لن يكون أثرا  بل جوهرا  أبديا)، ولكنه أيضا المحو الذي يكونه ويشكله منذ البداية بوصفه أثرا، الذي يموضعه بوصفه تغييرا في الموضع ، والذي يجعله مخفيا في ظهوره، ويجعله منبثقا من نفسه  في انتاجه. محو الأثر المبكر ( المسار المبكرdie fruhe Spur) للإختلاف هو بالتالي "مثل"  تقفي أثره في نص الميتافيزيقا. هذا الأخير لا بد أنه  قد احتفظ  بعلامة مما قد فُقد، محفوظة ، وضعت جانبا.  مفارقة مثل هذه البنية ، في لغة الميتافيزيقا هي قلب المفاهيم الميتافيزيقية، الأمر الذي ينتج عنه  التأثير التالي:  يصبح الحاضر علامة العلامة ، أثر الأثر ....إنه أثر ،  وهو أيضا أثر محو الأثر".
يفسر هذا الأقتباس  بنية الأثر واطراد المحو وحركة الديفيرانس. يجعل  الأثر  ما لم يمكن أن يُقدم، أن يُعرض، أن  يُظهر، أبدا، ممكنا. ولكن  في إمكانية هذا الحضور المستحيل،  يلغي الأثر نفسه في عملية حضوره ذاتها.  هذه الحركة لن تكون ممكنة أبدا إلا ضمن التفاضل واللعب التفاضلي للديفرانس.

تعليقات

المشاركات الشائعة