نهاية عصر النهايات: نهاية الواقعية (ب) كيف هاجمت ما بعد الحداثة الواقع: الواقع الفائق، ما وراء القص، السرد السوريالي

 

نهاية عصر النهايات: نهاية الواقعية (ب)

كيف هاجمت ما بعد الحداثة الواقع: الواقع الفائق، ما وراء القص، السرد السوريالي

أماني أبو رحمة

___

كانت النهاية الثالثة في هذه السلسلة هي( نهاية الواقعية )كفلسفة أو وسيلة للمعرفة، الأمر الذي قاد إلى مثالية خاصة بما بعد الحداثة وقد تحدثنا عنها في المنشور السابق مباشرة، واستكمالا للفكرة نعرض هنا بعض الاستراتيجيات التي هاجمت بها ما بعد الحداثة الواقع : الواقع الفائق، والسرد السوريالي وما وراء القص والتهكم وتخريب الاتفاقيات و والتناص ، التشفير المزدوج وغيرها..

__________________

يرتبط مصطلح السيميولاكروم(المحاكاة الزائفة) بواقع ما بعد الحداثة. وفقًا لـ بودريار المنظر والممثل لفلسفة المحاكاة، لم يعد واقع اليوم حقيقة، حيث تهيمن عليه الافتراضية. أسس بودريار مفهوم المحاكاة على العالم الافتراضي الذي تقدمه الشاشة في عالم ديزني لاند، عالم مغمور يالوسائط التي تحوله إلى واقع فائق. وبالتالي كان من المتوقع أنه سيعلن، بعد انهيار البرجين التوأمين في الحادي عشر من سبتمبر 2001، "لقد فعلوا ذلك، لكننا أردناه"، مما يشير إلى أننا كنا نتوق لشيء كبير وحقيقي يحدث في الواقع فعلا، لأن مثل هذه الأشياء حدثت فقط في العالم الإفتراضي وبطريقة المحاكاة.

وفقًا لبودريار، حلت الواقعية المفرطة كحالة ما بعد الحداثة محل الواقع. لقد خلق الإنترنت ووسائل الإعلام واقعاً إعلامياً أنهى الواقع المبتذل. (للمزيد حول الواقع الفائق وتنظيرات بودريار انظر الرابط في التعليق الأول).

وبالتالي، عندما أصبح الواقع واقعًا مفرطًا، تحول الأدب من التخييل (القص) إلى ما أطلق عليه ريمون فيدرمان ووليام سبانوز مصطلح surfiction (مصطلح يجمع القص مع السوريالية وسأترجمه تجاوزا بالسرد السوريالي او السورقص أو السرد النقدي) وأطلقت عليه ليندا هتشيون ووليام غاس مصطلح ما وراء القص metafiction.

والقص السوريالي(السورقص) هو حركة أدبية ما وراء التخييل تنبثق بالضرورة من بيئة ما بعد الحداثة. تأسست الحركة في الأصل من قبل الناقد والمنظر ريمون فيدرمان في مقالته ( القص السوريالي: أربع مقترحات في شكل مقدمة، 1975)، والتي تقدم أربع مقترحات [أفكارعن التخييل والقص] يعتبرها فيدرمان ضرورية للأدب؛ يلخص فيدرمان أن الوظيفة الأساسية للقص السوريالي أو ما وراء القص هي كشف تخيليلة الواقع وما يُنظر إليه على أنه "حقيقي".

انطلاقا من منظور ما بعد الحداثة، يحاول فيدرمان والقص السوريالي البناء في فضاء العدم الذي يشعر كتّاب مثل صمويل بيكيت أن الأدب قد وصل إليه؛ وبوصفه باحثا متخصصا في بيكيت، استخدم فيدرمان مقدمة كتابه ( القص السوريالي: القص الآن...القص غدا، 1975) التي أشرت إليها أعلاه   لتدشين مصطلحه وعرض مقالات لكتاب - مثل رونالد سوكينيك وجون بارث (الذي ظهر مصطلحه أدب الاستنزاف في حينه ) تتعامل أيضًا مع مفهوم ما بعد الحداثة عن العدم، وكيفية بناء شيء فيه، بدلا من خلق شيء منه.

تتضمن العناصر الأساسية للقص السوريالي مادة النص وكيف يمكن أن تعمل وكيف يمكن التلاعب بها ؛ يشير فيدرمان إلى هذا على أنه شكل الأدب، ويقدم تصورًا للرواية من خلال شرح ما يسميه طبوغرافيا النص - الأهمية البصرية وقيمة الطبوغرافيا في كل من خبرة الكتابة والقراءة. كما أن طبيعة الحبكة والزمن موضع تساؤل أيضًا، حيث يسعى السرد السوريالي إلى توليد الفوضى التي سيشكل منها الكاتب والقارئ معا مظهرًا من مظاهر النظام، بدلاً من محاولة فرض مظهر من مظاهر النظام من مجرد تقليد لـ " الواقع ". يهتم فيدرمان كثيرًا بالاستقلالية في عمله، حتى أنه يبحث في كيف أن القراءة والتفسيرات أيضًا تحمل صفة مستقلة؛ وما يفسره فيدرمان على أنه "استقلالية التخييل" يعني أنه يجب ألا يعكس الواقع أبدًا، بل يسعى إلى العمل كواقع. أما مفهوم "الشخصية" عند فيدرمان فهي تلك التي لا يمكن أن ترتبط بشيء، والتي هي، في الواقع، غير قابلة للارتباط، بل حتى متناقضة، وتسعى إلى إنشاء النموذج المضاد للنمط البدئي archetype ؛ الأهم من ذلك، هو مفهوم فيدرمان لكينونة -الكلمة، الكلمة نفسها كشخصية، مدركة لوجودها / وظهورها الوهمي، معنية فقط بالخيال الذي تعيش فيه. يقول فيدرمان"... بالنسبة لي، التخييل الوحيد الذي لا يزال يعني شيئًا ما اليوم هو ذلك النوع من التخييل الذي يحاول استكشاف إمكانيات التخييل؛ ذلك النوع الذي يتحدى التراث الذي يحكمه؛ ويجدد إيماننا باستمرار في خيال الإنسان وليس في رؤية الإنسان المشوهة للواقع - التخييل الذي يكشف عن لاعقلانية الإنسان بدلاً من عقلانيته. وهذا ما أسميه القص السوريالي".

يسمي فيدرمان أسلوبه المفضل في الكتابة قصا سورياليا ليس لأنه يقلد الواقع. بل على العكس، لأنه يبحث عن نوع الكتابة الذي يفضح تخييلية الواقع. وتمامًا مثلما حرص السرياليون على تسمية موضع خبرة الإنسان اللاواعية بالسوريالية، يركز فيدرمان اهتمامه على نوع الخبرة التي تكشف عن الحياة نفسها كقص وتخييل. فالحياة أيضًا تخييل... والسيرة الذاتية شيء يخترع المرء بعد ذلك".

 لا يجدد السرد السوريالي إيماننا بخيال الإنسان فحسب، ولكنه يدمر تمامًا التقنيات التقليدية المرتبطة بالتأليف السردي المنشور في شكل كتاب. وهو يفعل ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الطرق، ليس أقلها إعادة اختراع الصفحة باعتبارها استعارة مرئية لنوع جديد من الواجهة السردية، باستخدام الرموز الرسومية، وتخطيطات تصميم المساحات المفتوحة، والطباعة التجريبية، وكولاجات القص واللصق، والضوضاء المزعجة التي تظهر على أنها علامات ورسومات غير مقروءة. كان الروائيون المبتكرون، إلى جانب تحويل بنية الصفحة للروايات التقليدية عن طريق التغيير الجذري في الطريقة التي تظهر بها الكلمات والجمل والفقرات والفصول وعلامات الترقيم حرفيًا على الصفحة، يستكشفون بنشاط إمكانات السرد، في الكتب، لتوليد تجربة تفاعلية جديدة تمامًا من شأنها أن تلفت الانتباه إلى صناعة الكتاب نفسها، حيث يسلط الضوء في كثير من الأحيان على حقيقة أن الكتاب كان يستخدم كواجهة لنقل الرواية التي كان المرء يقرأها، ناهيك عن حقيقة أن المؤلف، على الرغم من ميوعة هويته التخييلية، شارك بنشاط في تكوين القصة، مؤكدا مرات عديدة التوصيف التخييلي لـ "المؤلف" في مساحة القصة. في هذه المرحلة كان "المؤلف" وكذلك "الشخصية الخيالية" يتحولان باستمرار إلى بنية لغوية أو ما يسميه فيدرمان "كينونة الكلمات ".

مقترحات فيدرمان الأربعة الرئيسية:

1. قراءة الرواية: نقد فيدرمان للنمط التقليدي للقراءة باعتباره مملًا ومقيّدًا، ويدافع عن القراءة النشطة للعمل والرؤية التي يمكن أن تنبثق من هذا الاعتبار. التساوق الصفحي) التناغم في كل صفحة على حده) مقابل القواعد النحوية ؛ طباعة وطوبولوجيا النص. الكلمة المطبوعة كوسيط.

2. شكل الرواية: الحبكة اللاخطية والخطاب التخييلي الجديد، تضاعف نفسها باستمرار، تصبح "استعارة لتقدمها السردي... تؤسس نفسها بينما هي تكتب نفسها".

3. مادة الرواية: أن فعل الكتابة هو عملية ابتكار تلقائي لمادة الرواية، وبالتالي فهي "تجسد الخيال في كلمات. وعلى هذا النحو، لا توجد حدود لمادة الخيال ".

4. معنى الرواية: خلق فوضى يعمل من خلالها القارئ [المستقبل] والكاتب [المبدع] معًا (وكذلك بمشاركة الشخصيات والساردين ) من أجل تكوين المعنى وفهمه، وليس تقليد مظهر من مظاهر النظام ولكن تقدم نفسها للنظام والتنظيم. بالنظر إلى العمل فقط فيما يتعلق بنفسه، سيخترع القارئ ويستخرج المعنى، وسينوي الكاتب توفير العناصر الضرورية.

كان السرد السوريالي، كممارسة كتابية ناشطة تركز على إحداث ثورة في خبرة السرد، هجومًا على الوعي الزائف الذي ارتبطت به معظم الروايات الحداثية. اهتمت الكتابة الحداثية طوال القرن العشرين بتقديم "تكوين سردي مجزأ" من شأنه أن يمنح القارئ فرصة "لخلق خبرة قراءة كاملة". بالنسبة للكتاب الحداثيين، ارتبط مفهوم التفاعل برغبة القارئ في الكمال. لكن بالنسبة لكتاب القص السوريالي، كانت الأجزاء دائمًا أكبر من الكل، وإلى جانب ذلك،، فإن الكُلّ غير موجود، أو إذا كان موجودا، فهو موجود على شكل ثقوب، وثقوب سوداء، ينجذب القراء إليها، وعند هذه النقطة يحاول كتّاب القصص السوريالي المساعدة في إخراجهم.

يرتبط مصطلح السرد السوريالي بمصلح آخر هو (ما وراء القص)، بل ربما يمكننا القول انهما الشيئ ذاته بمصطلحين مختلفين. فما وراء القص (ما وراء التخييل ) هو أسلوب أدبي واعٍ بذاته يدرك فيه السارد أو الشخصيات أنها جزء من عمل تخييلي. يرتبط ما وراء القص رتبط ارتباطًا وثيقًا بنثر ما بعد الحداثة وينطوي على الإبتعاد عن الأعراف السردية القياسية، حيث يقوم السارد الواعي بذاته بإدخال وجهة نظره في النص لإنشاء عمل تخييلي يعلق على استراتيجيات التخييل. يمكن أن تظهر هذه التقانة في الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات وألعاب الفيديو والأفلام والتلفزيون.

يمكن أن يحدد ما وراء القص بوصفه تخييل عن التخييل ( قصة عن القص)، أو القص الذي يحتوي على قص بداخله، أو القص الذي يعلق على نفسه،أو القص الذي يلفت الإنتباه الى وضعه التخييلي، أو القص الذي يختبر بشكله الخاص طريقة لخلق المعنى.

الغرض الرئيسي من وراء القص هو تسليط الضوء على الانقسام بين العالم الحقيقي والعالم الخيالي للرواية. يمكن استخدامه للسخرية من اصطلاحات النوع الأدبي، أو تخريب التوقعات، أو الكشف عن الحقائق، أو تقديم وجهة نظر عن الحالة البشرية. غالبًا ما يُستخدم في روايات ما بعد الحداثة للتعليق على العالم الذي تسكنه شخصيتنا، ويساعد ما وراء القص كتقانة ما بعد حداثية في منح عمل نصي أهمية أكبر من خلال توفير نظرة خارجية واستكشافية لعالم قائم بذاته.

غالبًا ما يتم تمييز ما وراء القص من خلال بعض الخصائص الرئيسية نذكر أهمها:

1.   كسر الحاجز الرابع: كسر الحدود بين الكاتب والقارئ و الحياة الواقعية والخيال. غالبًا ما تخاطب رواية ما وراء القص القارئ مباشرةً، وتستجوب بصراحة قصة السارد.

2.   الانعكاس الذاتي: يستخدم المؤلفون الانعكاسية الذاتية، أو الوعي الذاتي، للتفكير في عملياتهم الفنية الخاصة، وجذب انتباه الجمهور بعيدًا عن القصة والسماح لهم بالتشكيك في محتوى النص نفسه.

3.   التجريبية: غالبًا ما يكون ما وراء القص تجريبيًا بطبيعته، حيث يدمج عددًا من التقنيات المختلفة معًا لإنشاء سرد غير تقليدي. يمكن لما وراء القص أيضًا تجربة دور السارد وعلاقته بالشخصيات الخيالية في القصة.

ولكن تم تعريف الأدب من قبل العديد من النقاد على أنه تجريب مستمر في الشكل، والأدب في الواقع تطور مستمر، ودائمًا ما يقوم بإعادة صياغة وتحويل الجانرات والأشكال والأعراف الموروثة من تقليد سابق. فهل كل الأدب ما وراء القص، إذن؟

"الانعكاس" هو المصطلح الأفضل في هذه الحالة، لأنه أقل تحديدًا وأكثر شمولاً. على سبيل المثال يمكن أن يكون اللا -قص انعكاسيًا (اللعب بزمن الكتابة وزمن القراءة في الرسالة) أو في الفنون عمومًا - توجد البني العاكسة للتمثيل في الرسم عند الفنانين من يانْ فانْ آيْكْ إلى موريتس كورنيليس إيشر، أو في الواقع، في أي لحظة يتضمن الرسم إطارا أو مرآة أو لوحة داخل لوحة، ومع ذلك، يجب أخذ عامل آخر في الاعتبار عند تحديد حدود ما وراء القص. يمكن تعريف ما وراء القص على أنه طريقة للكتابة، أو بشكل أكثر دقة وسيلة للتلاعب بوعي بالبنى التخييلية، واللعب بالتخييل. لكن هذا لن يغطي كل ما وراء القص، ناهيك عن كل الهياكل الانعكاسية التي نجدها في الأدب. لذلك، يجب أيضًا تعريف ما وراء القص على أنه طريقة للقراءة، وهو أيضا نموذج نقدي يوفر طريقة جديدة لاستكشاف المعنى في الأعمال الأدبية، واكتشاف هياكل المعنى التي قد تكون تلقائية، ولا يخطط لها الكاتب بشكل متعمد، بل يتم الوصول إليها من خلال اللعب العفوي بالمعنى أو التفاعل بين الكتابة والقراءة.

قد يكون ما وراء القص بوصفه كتابة جانرا فرعيًا محددًا يكون فيه العنصر الانعكاسي هو المسيطر. ويركز ما وراء القص بوصفه قراءة على عنصر أو بنية محددة في عمل ما. هناك فرق بين الروايات الواعية بذاتها والروايات التي تحتوي على لحظات من الوعي الذاتي. يجب أن تكون الرواية الواعية بذاتها مستنيرة بجهد متسق: يجب أن يكون الوعي بالذات مركزيًا في بنيتها وهدفها. على الطرف الآخر من الخط، تتوقف النصوص الواعية عن كونها روايات عندما لا تعرض الخصائص المميزة للرواية، والتي هي مصدر قلق للشخصية والخبرة اليومية.

يجد لاري ماكافيري السمة المميزة للقصة التي توصف بما وراء القص في اهتمامها المباشر بصناعة التخييل نفسه. قد نتساءل عما إذا كان هذا كافيا. يتم الإعلان عن التناظر، أو البنية الانعكاسية، منذ اللحظة التي يتم فيها تحديد أن موضوع الرواية هو صناعة التخييل، ولكن يجب على الأعمال ما وراء القصية استكشاف واستغلال هذه الانعكاسية.

يلفت مصطلح "انعكاسي" انتباهنا إلى بنية المرآة (المضاعفات والتماثلات والأطر) والفكر والوعي والتأمل والوعي المصاحب للفعل. في الواقع، ما وراء القص هو تخييل انعكاسي ليس فقط بمعنى أن الصور المرآتية موجودة فيه، ولكن أيضًا أن هذه المرايا والتراكيب الانعكاسية تستخدم للتفكير في طبيعة التخييل. إن عمل ما وراء القص هو قص يتعلق بإمكانيات ومستحيلات التخييل نفسه". إن هدفه هو "استكشاف نظرية التخييل من خلال الرواية نفسها" ؛ فالرواية الواعية بذاتها هي "قصة نثرية ممتدة تلفت الانتباه إلى وضعها كتخييل." وهي رواية تتباهى بشكل منهجي بحالة "اصطناعيتها" الخاصة وتحقق في العلاقة الإشكالية بين الحيلة المصطنعة التي تبدو واقعا، والواقع".

عادة ما نربط الرواية بالواقعية، تمامًا كما نربط الفن بالتمثيل. لكن الواقعية والمحاكاة الساخرة ليستا سوى مكون واحد من عدة مكونات في الفن والرواية، وقد يشكلان أو لا يشكلان الشيفرة السائدة. بعد كل شيء، ترتبط الرواية أيضًا (على أقل تقدير) بالخيال، مما يؤسس في داخلها توترًا بين استراتيجيات الخيال والدافع نحو الواقعية. تُعرِّف الرواية الحداثية نفسها من حيث رفضها لاتفاقيات الواقعية الشكلية. وبإدراكها أن العلاقة بين الواقع وتمثيله في الخطاب الروائي إشكالية، تسعى الرواية الانعكاسية إلى فحص فعل الكتابة نفسه، والابتعاد عن مشروع تمثيل عالم خيالي والانكفاء على نفسها من أجل فحص آلياتها الخاصة. إن التوتر بين الواقع والخيال هو موضوع رئيسي في ما وراء القص. يمكننا تناول هذا الموضوع بشكل أكبر من خلال مفهوم السرد السوريالي لفيدرمان (أنظر أعلاه). يجادل فيدرمان لصالح الجماليات الإبداعية للرواية. بالنسبة لما بعد الحداثية، لا وجود للواقع قبل أن يتم إنشاؤه بواسطة نشاط إنساني ذي معنى، والكتابة أحد هذه الأنشطة بالتأكيد. يقدم بريان ماكهيل معيارًا مشابهًا للتمييز بين الروايات الحداثية وما بعد الحداثية. يهتم التخييل الحداثي قبل كل شيء بمسائل الإدراك والمعرفة. يهتم خيال ما بعد الحداثة بالاختلاف بين الواقع والتخييل، ومع وضعه الأنطولوجي ككائن تخييلي ، فإنه يلفت الانتباه إلى بناء الواقع ككل. يتم ذلك غالبًا من خلال إلغاء الحواجز بين الواقعي والخيالي داخل العمل ؛ يتلاعب العمل بحالة الواقعي والخيالي داخل حدوده الخاصة، ويقتبس أو ينتج روايات في الطبقة الثانية من السرد ويمزجها مع الكائنات"الحقيقية" في الطبقة الأولى، مما يؤدي إلى وضع غير قابل للتقرير (مثل "مربية الأطفال" لكوفر ). وقد يتم حل نفس الحواجز بين العالم التخييلي والعالم الحقيقي للمؤلف  والقارئ( كما في رواية "امراة الضابط الفرنسي" لفاولز).

 يجب أن يُنظر إلى الانعكاسية على أنها نوع من النشاط النقدي الذي يفسد الفصل "الطبيعي" بين الخطاب الإبداعي والنقدي أو بين الاستخدامات الأدبية وغير الأدبية للغة. يجادل بعض النقاد بأن الواقعية بسيطة للغاية، ساذجة، أو أنها،  أسوأ من ذلك، شكل من أشكال سوء النية. لأنها تريدنا أن "نؤمن" بأنه لا علاقة لها بالخيال. وبدلاً من اعتبار الواقع أو الحقيقة أمرًا مفروغًا منه، تستكشف الرواية الانعكاسية الأسس الابستمولوجية لكليهما، وتكشفهما، وتفتح الطريق إما لواقعية أكثر وعيًا بذاتها أو لشيء آخر. غالبًا ما يرقى ما وراء القص، نظرًا لارتباطه بالمحاكاة الساخرة والوعي الذاتي، إلى فعل النقد للتقاليد السابقة.

ففي الرواية الواعية بذاتها، ينطوي فعل التخييل دائمًا على ممارسة من ممارسات النقد الأدبي، ولكن، بشكل عام، قد ينتقل إما إلى الخارج، إلى المجتمع الذي يوفر المواد للتمثيل الأدبي والذي يحاول إملاء العرف الأدبي، أو إلى الداخل، إلى العقل المجرب الذي يعطي الأداة الأدبية حياة من نوع ما.

يتحدى ما وراء القص العديد من افتراضات النقد: إن العمل صامت لا يتحدث عن نفسه وينتظر من الناقد تفسيره، على سبيل المثال. وغالبًا ما يكون العمل ما وراء القصي صريحًا بما يكفي بشأن أهدافه وتقنيته. إنه ينتقد الاتفاقيات الأدبية السابقة (إلى حد ما كل الأدب يفعل ذلك)، ولكنه ينتقد أيضًا اتفاقياته الخاصة. غالبًا ما تُتهم الأعمال الانعكاسية بأنها نرجسية، وتغلق نفسها أمام الواقع وتنغمس في الجمالية النخبوية. تُجسِّد الرواية الواعية سياقها الخاص وتُلخصه؛ وحتى عندما نتعامل معها من خلال النقد الجوهري، فإنها تلزمنا بممارسة النقد المتعلق بالسيرة الذاتية والبلاغية والأدبية والتاريخية والنقد الثيمي أيضًا.

وهكذا، قد نلاحظ أن الرواية الواعية بذاتها تقودنا  إلى ممارسة شكل من أشكال النقد الذي يعيد، للمفارقة، تأكيد الروابط بين العمل الأدبي والواقع، من خلال طمس الحدود بين الواقع والخيال.

يبدو أن المحاكاة الساخرة حاسمة في تطوير الرواية كشكل: "بقدر ما يكشف عن نفسه بوصفه محاكاة ساخرة لشكل سابق، فإن ما وراء القص له بالضرورة جانب ساخر". هذا يؤسس على الأقل جسرًا بين روايات ما وراء القصّ وهذا الجانب من الواقع الذي هو الأدب. ولكن ماذا عن ما وراء القص كوجهة نظر عالمية؟ ماذا يخبرنا عن الواقع ككل؟ هل ينقل تصورًا للواقع؟

يقترح ويليام غاس أن عالم ما وراء القص يخلق كونه الخاص به سليمًا مع السارد والقارئ لأنه يرى العالم الحقيقي ينهار من حوله.... قد يمثل  ما وراء القص بالنسبة لكتاب القرن العشرين وسيلة للهروب، لكنه عمومًا لم يعمل بشكل جيد بالنسبة لهم كما فعل مع لورنس ستيرن، على سبيل المثال.

تؤكد جماليات ما بعد الحداثة على الوعي بالذات ولعب الأدوار، وتفضل الكتابة التخيلية التي يكون موضوعها كتابة أكثر خيالية، وليس العالم بطريقة تلقائية. يصر بارث على أن ما بعد الحداثة ليست رفضًا للحداثة، بل هي توليفة من عناصر الحداثة وما قبل الحداثة. ما بعد الحداثة هي أكثر "ديمقراطية" من الحداثة العالية، وتوفر نصوصًا أكثر قابلية للقراءة من نصوص جيمس جويس أو صموئيل بيكيت. ما بعد الحداثية هي "أدب التجديد" بعد استنفاد الأدب الذي أحدثته الحداثة. إذا قبلنا تعريف بارث، فسنضطر بلا شك إلى الاعتراف بأن الحداثة تتعايش جنبًا إلى جنب مع كل الحداثات قبلها وبعدها.

هناك العديد من الأعمال التي يمكن أن توصف بما وراء القص على مر القرون. تتضمن بعض الأمثلة على ما وراء القص الصريح ما يلي:

1.   حكايات كانتربري (1387): مختارات جيفري تشوسر الكلاسيكية للقصص المترابطة التي تحاكي بسخرية العناصر التقليدية للقص. يمزج تشوسر بين الأساليب اللغوية والأجهزة الخطابية لصياغة مجموعة من القصص ضمن القصة العامة، وكسر الجدار الرابع بانتظام لمخاطبة الجمهور مباشرة والاعتذار عن أي إهانة قد تسببها السرد.

2.   دون كيشوت (1605): دون كيشوت لميغيل دي سرفانتس هو في الأساس كتاب عن الكتب. في المقدمة، يكسر سرفانتس الجدار الرابع بالتعليق على عملية كتابة الكتاب، حيث يحث القارئ على اتخاذ قراره بشأن النص المكتوب. تناقش الرواية التي تلت ذلك مغامرات بطل الرواية، دون كيشوت، الذي أصيب بالجنون من قراءة الكثير من القصص الرومانسية الخيالية.

3.   الصبي الماعز جايلز (1966): رواية جون بارث الرابعة هي مثال رئيسي على ما وراء القص الذي يميز ما بعد الحداثة، حيث تتميز بالعديد التنصلات التخيليية في البداية والنهاية، بحجة أن الكتاب لم يكتبه المؤلف، وبدلاً من ذلك أعطي للمؤلف على شريط أو أنه مكتوب بواسطة الكمبيوتر.

4.   امرأة الضابط الفرنسي (1969): لجون فاولز هي رواية ما وراء القص التاريخي تحكي قصة حب بين رجل نبيل ومربية في العصر الفيكتوري. يعرض الكتاب ساردا يصبح جزءًا من القصة ويقدم عدة طرق مختلفة لإنهاء القصة.

5.   المسلخ الخامس (1969): في المسلخ الخامس، يُضمن كورت فونيغوت صوته كشخصية في هذا السرد غير الخطي. الشخصية الرئيسية كانت "غير عالقة في زمن"، تتأرجح بين الحاضر والماضي دون سيطرة على حركتها، مؤكدة على الطبيعة الحمقاء للحرب.

6.   قوس قزح الجاذبية لتوماس بنشون 1973: هذه القصة هي الطفل المدلل لأدب ما بعد الحداثة، لأنها  تُوظف بنية معقدة ومجزأة لتغطية مواضيع مختلفة مثل الثقافة والعلوم والعلوم الاجتماعية والألفاظ النابية واللياقة الأدبية. في هذا السرد الخاص، يتساءل بينشون عن التاريخ وكيف يتم إنشاؤه، وكذلك كيف يؤثر على كل من المجتمع والفرد.

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة