نهاية عصر النهايات . (2): نهاية التاريخ

 

(2) : نهاية التاريخ

أماني أبو رحمة

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي راجت فكرة "نهاية التاريخ": ادعى فرانسيس فوكوياما أنه مع انهيار الإمبراطورية السوفيتية وانتصار الغرب، أي النموذج الأمريكي للديمقراطية السياسية واقتصاد السوق الحر، انتهى التاريخ بمعنى أن نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا عقلانيًا سيتحقق، وسيُقبل عالميًا لاحقا، مبشرًا بعصر السلام والوئام الاجتماعي. أثبتت السنوات التي انقضت منذ أن نشر فوكوياما مقالته لأول مرة في عام 1989 وكتابه في عام 1992 أن هذا مجرد وهم في ضوء الصراعات المتجددة على نطاق كوني وإنشاء أو إعادة إنشاء أنظمة استبدادية في كل مكان في العالم تقريبا، صريحة أو مقنعة.

لا يتوافق مفهوم فوكوياما عن نهاية التاريخ مع ما يُفهم عمومًا في فكر ما بعد الحداثة بـ "نهاية التاريخ". يفترض فهم ما بعد الحداثة، على عكس فوكوياما، أنه لا يوجد تماسك في التاريخ، وبالتالي لا يوجد مكان لسردية كبرى ترى العالم نتيجة للتطور التاريخي، وأن السرديات التاريخية في الواقع هي نتاج تخييل شعري؛ إنها أعمال أدبية لا يمكن تمييزها عن القص والتخييل. على وجه التحديد، تشير نهاية التاريخ، من هذا المنظور، إلى ما اعتبره مفكرو ما بعد الحداثة فشلًا للتأريخ العلمي الموجه نحو البحث وتقصي الحقيقة، والذي سيطر على الكتابة التاريخية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان ملتزمًا بصياغة بيانات صادقة عن الماضي. أشار مفكرو ما بعد الحداثة بحق إلى أوجه القصور في البارادايم العلمي الحداثي للمعرفة التاريخة(النموذج الموضوعي)، لكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وشككوا في إمكانية أي تحقيق عقلاني يوصلنا إلى الحقيقة والواقع في الماضي أو الحاضر، على الإطلاق. وتبعاً لذلك يمكننا القول إن الأساس الإبستمولوجي لما بعد الحداثة هو المبدأ الفكري القائل إن "الحقيقة" لا يمكن تحقيقها من خلال البحث التجريبي لعدة أسباب: أولها أن الواقع هائل جدا ومعقد وبالتالي فهو عصي على التمثيل على ما هو عليه. وثانيا، لأن الحقيقة تنطوي على ذاتية، وثالثا، لأن تمثيل الواقع محدد بعلامات( signs )وضعها الإنسان  اتفاقًا لا تتطابق مع الحقائق التي تنقلها. إن ما نعتقد أنه حقيقة مفتوح في الواقع للنقاش، لأن الحقائق ليست إلا تمثيلات الأحداث الماضية وليست الحقائق ذاتها. ما بعد الحداثية ليست ايديولوجية، ولكنها طريقة لفهم كيف يكتسب البشر المعرفة عن العالم، وكيف ينقلون هذه المعرفة وكيف يختبرها الفرد الذي يبني هويته من خلال هذه السيرورة وانعكاس ذلك كله على المجتمع. أما المؤرخون فإن جل اهتمامهم هو كيف تتشكل وتعمم المعرفة والهوية على مر العصور والأماكن.

  يعد فوكو ودريدا المنافحان الرئيسيان عن هذه الأفكار في مشاريعهما النقدية حيث يوضحان كيف أن مفهوم) المعرفة الموضوعية عموما والتاريخية على وجه الخصوص( يستند إلى أرضية واهية. وقد استخدم كلاهما أساليبهما النقدية لنقد مفاهيمنا الراسخة حول الماضي وتوافره من خلال النصوص التاريخية. وتبين أعمالهما عدم صلاحية فكرة الحصول على معرفة موضوعية دون وسائط عن الماضي، لأن الماضي متاح لنا فقط من خلال النصوص، والنصوص هي ممارسات خطابية. لكن من المهم أن نتذكر أن ما بعد الحداثة لا ترفض الماضي، كما أنها لا تقول أن معرفة الماضي غير ممكنة، بل أن كل المعرفة عنه نصية ومتاحة في شكل سرديات تُخْضِعها للإستجواب.

  يوظف فوكو المنهجين اللذين يسميهما "الأركيولوجيا" و"الجينيالوجيا" لإثبات العيوب الكامنة في الفكر التاريخي التقليدي. في تحليل فوكو، لا توجد لحظات أصل ولا تحركات قصدية في التدفق التاريخي. وبدلا من ذلك، يكتشف تحليله التشتت والتفاوت والاختلاف التي غالبا ما يستبعدها الفكر التاريخي التقليدي. يكشف فوكو في مقالته "نيتشه، الجينيالوجيا والتاريخ" عن استخدامه لبعض رؤى نيتشه للكشف عن ميل الفكر التاريخي التقليدي لبناء جوهر الأحداث التاريخية ومن ثم زعم اكتشافها أو احيائها. وخلافا لذلك، فإن الأسلوب الذي يستخدمه فوكو يسعى جاهدا لتحديد الانقطاعات ونقاط الانحلال في ما يبدو أنه استمرارية الماضي، ويحاول الحفاظ على التشتت المتأصل في وقوع الأحداث.

  تؤكد جينيالوجيا فوكو مفهوم المنظورية في المعرفة وخاصة المعرفة التاريخية. وهذا يذكرنا برفض نيتشه لمنظور واحد ونهائي للمعرفة. ويخلص فوكو، متبعا نيتشه، إلى أن ما نسميه الحقيقة هي نتاج عوامل لا تحصى تقع خارج موضوع المعرفة، ومن ثم فإنها بناء أو تركيب. مفهوم فوكو عن الجينيالوجيا هو المنطلق لفهم فكرة أخرى مؤثرة من العلاقة بين المعرفة والسلطة لأنه أثناء التحقيق في العلاقة المعقدة بين الاثنين، درس فوكو إنتاج الأفكار الابستمولوجية داخل شبكة علاقات السلطة المعرفة. وبالنسبة لفوكو، فإن ما يمر عادة بالمعارف الموضوعية هو في الواقع الخطابات التي تتأثر بآليات السلطة ذات الطبيعة المعقدة. والحالة نفسها لإمكانية المعرفة مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بعمليات السلطة الموجودة في كل مكان. ويذكر فوكو أن "السلطة شيدت وتعمل على أساس صلاحيات معينة، قضايا لا حصر لها، وتأثيرات سلطوية لا حصر لها ".

  تمثل تفكيكية دريدا طعنا آخر في الفكر التاريخي التقليدي. أدت إستراتيجيات دريدا النقدية إلى تغيير جذري في وجهات النظر حول الخطابات النصية وإحالتها إلى أحداث واقعية. أفكار دريدا حول النصية هي بالتحديد ما أثار إشكالية المفاهيم التقليدية حول التاريخ وقيمته فيما يتعلق بالحقيقة. بالنسبة إلى دريدا، فإن التاريخ هو نص والنص في حد ذاته هو تكوين(تركيب) الذي ينتج عنه المعنى دائما بوساطة عملية الدلالة التي لا تصل أبدا إلى ما يسميه "االمدلول المتعالي". اعترفت النظرية الأدبية المعاصرة بتحليل دريدا للكتابة وآثار هذا التحليل. والنقد نفسه ينطبق على التأريخ. يجادل دريدا بأنه لا يمكن أن يكون هناك معنى متأصل في النص دون سياق والسياق نفسه غير محدود. حالة كونه "غير محدود" هي بالتحديد ما يولد اختلافا دائما في المعنى. وبتطبيق هذه الفكرة على التاريخ، نرى أن التاريخ لا يمكن أبدا أن يفلت من كونه نصا ينطوي إنتاجه على عملية بناء المعنى باللغة. وبدلا من التقاط شيء "معطى ومعين "، فإن ممارسة الكتابة ذاتها تعني عملية اختيار وتوزيع وسيقنة ومزج وإعادة تركيب وربط وفصل وتمكين "الماضي السلس" في نهاية المطاف بمعان بحد ذاتها ودون غيرها.

  لذلك، لا يمكن للتاريخ أن يدعي المعرفة الموضوعية والحيادية فيما يتعلق بالماضي، لأن كل ما يعتمد عليه المؤرخ في عمله التأريخي، بما في ذلك ذاته هو نص. المؤرخون، مهما حاولوا أن يكونوا موضوعين، لا يمكنهم أبدا الهروب من حالة من التواجد في شبكة من الخطابات. لا توجد نقطة محددة يمكن من خلالها إجراء دراسة موضوعية للماضي. هناك فقط بعض الأحداث التي تجد مكانا في السجلات التاريخية وتصبح "حقائق". التاريخ نفسه مخترق من قبل القوى المؤسسية التي تعمل على تعزيز بعض النسخ المفضلة لاستبعاد أُخرى.

   تلقت هذه الأفكار زخما جديدا على يد بعض الكتاب مثل هايدن وايت وريتشارد إيفانز وفرانك أنكرسميت ودومينيك لاكابرا. وقد وجدت دراساتهم التحليلية، على الرغم من مقاومة علماء التاريخ التقليديين الشديدة، الآن موطئ قدم قوي في الأوساط الأكاديمية، ولم يعد من الممكن تجاهلها بوصفها مجرد "تخريب فكري". وبالتالي، فإن موقف ما بعد الحداثة من التاريخ ينافس جميع نظم التفكير التي تدعي أنها تستمد قوتها من التاريخ، والماركسية هي الهدف. وهذا يستدعي معالجة التهم الرئيسية التي وجهت إلى ما بعد الحداثة من قبل منتقديها، ومعظمهم من الماركسيين والانسانويين الليبراليين الذين يتهمون ما بعد الحداثة بنفي التاريخ ونفي الإحالة حين تهرب إلى النصية على حساب الانخراط بالواقع ، وأنها في نهاية المطاف متواطئة مع/ بل وتؤكد النزعة الاستهلاكية المعاصرة. ويقال  أيضا إن ما بعد الحداثة تستند إلى إيديولوجية الحتمية اللغوية التي تختزل الواقع إلى مدونات لغوية. يقدم تشارلز نيومان مثالا على ذلك: "[ما بعد الحداثة] مكرسة بشراسة لسلامة التعبير اللفظي المستقل، وتقف بكامل قواها ضد الضغوط من خارج الأدب التي أحاطت دائما التخيل بوصفه جانرا. وهي تعترف أن مواردها الأساسية، التي لا يمكنها التنازل عنها، ودون اعتذار، أدبية. قبل كل شيء، هذه الكتابة معنية باللغة، إن لم يكن بوصفها تخلق الواقع، فلأنها المشكل النهائي للوعي. فهي لا تتطرق أبدا إلى واقع خارجي مهيمن، وبالتالي فإنها تميل في نهاية المطاف إلى اختزال جميع الإختلافات إلى لغوية، مستمثلة الذاتية الزمنية والتاريخية على السواء. إنها جمالية جذريا، غير سياسية إلى حد كبير وغير تاريخية، وبلا قيمة في علاقتها حتى مع أكثر الأمور رعبا".

ترد ما بعد الحداثة على منقديها بالقول إن التأريخ ما بعد الحداثي ليس رفضًا للعقلانية العلمية، بل امتدادا لها. يقول دريدا إن "الثورة على العقل لا يمكن أن تتم إلا من داخله"، وطريقة تقويض المنطق ستظل منطقا بحد ذاتها.  يعتقد سيمون كريتشلي أن غرض دريدا ليس اختزال عالم الكائنات الحقيقية والأشياء والأحداث إلى خطابات، إلى مجرد نصوص، مما يعني رفض وجودها تماما. وبشرح مفهوم دريدا للنص، يقول كريتشلي إن هذه الفكرة :" لا ترغب في تحويل العالم إلى مكتبة واسعة، كما أنها لا ترغب في قطع الإحالة إلى بعض "المجالات الاضافية خارج النص". التفكيك ليس ببليوفيليا. النص بحد ذاته Text qua text كما روج له دريدا بوصفه كل "التاريخ ـــ الحقيقي ـــ للعالم، وهذا يقال من أجل التأكيد على حقيقة أن كلمة "النص" لا تعلق إلاحالة "إلى التاريخ، إلى العالم، إلى الواقع، إلى الوجود وبالتحديد إلى الآخر". كل ما في الأمر أنها تظهر في خبرة ليست خبرة الحاضر الفورية - النص أو السياق ليس حضورا، وإنما خبرة شبكة من الآثار المتفاضلة دلاليا والتي تكون المعنى. تتعقب الخبرة أو الفكرة حركة مستمرة من التفسيرات في سياقات لا حدود لها.

   يوضح دريدا نفسه موقفه من هذه المصطلحات: "ما أسميته "النص" يعني جميع الهياكل التي تسمى "الحقيقية"، "الاقتصادية"، "التاريخية"، "الاجتماعية المؤسسية"، باختصار جميع المراجع المحتملة. وهناك طريقة أخرى للتذكير مرة أخرى بأنه "لا يوجد شيء خارج النص". وهذا لا يعني أن جميع الاحالات معلقة أو منكرة أو مقيدة في كتاب، كما ادعى الناس، أو كانوا ساذجين بما فيه الكفاية للاعتقاد واتهموني بالاعتقاد بذلك. ولكن هذا يعني أن كل مرجعية وكل حقيقة لها هيكلية الأثر التفاضلي وأنه لا يمكن للمرء أن يشير إلى هذا "الحقيقي" إلا في خبرة تفسيرية. هذا الأخير لا يعطي معنى ولا يفترضه إلا في حركة الإحالة التفاضلية. هذا كل شيء".

 ينبغي أن ينظر إلى ما بعد الحداثة في التأريخ بوصفها ذروة تطور طوال القرن العشرين وجزءا من تحول أكبر في التأريخ يركز على العمل الإنساني والوعي والجوانب الشخصية للوجود الإنساني. وليس مجرد أفكار النسبية الأكثر تطرفا عند عدد قليل من المنظرين في النصف الثاني من القرن العشرين. التأريخ ما بعد الحداثي هو إحياء فن السرد وتحويل التركيز من الأغنياء والأقوياء إلى حياة الناس العاديين. فمن التأريخ الاجتماعي الألماني Sozialgeschichte والحوليات Annales الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين، إلى المدرسة الماركسية ونظرية النظام العالمي التي انشغلت بالبنى والسيرورات، واختراع الدراسات الثقافية، والدراسات الجندرية والتاريخ الدقيق micro-history الذي يهتم بالثقافات وطرق العيش في النصف الثاني، ثم توسعت المحتويات التاريخية تدريجيا، وتحول التركيز من الحروب والملوك إلى ثقافة وحياة الفئات التي لم تكن مرئية في السابق مثل النساء والأقليات والفقراء بما يتناسب مع زيادة الديموقراطية في المجتمعات الغربية ككل طوال القرن. ويمكن رؤية انهيار التسلسلات الهرمية القائمة بوصفه ما بعد حداثي في جوهره، ولكن أيضا بوصفه النتيجة النهائية للمشروع الحداثي - نهاية الطريق حيث تنتهي الحداثة، تنهار على نفسها، وحيث تبدأ ما بعد الحداثة. لذلك يمكن القول إنه في اللحظة التي تم فيها إعلان "نهاية التاريخ"، تحول المؤرخون في الثلث الأخير من القرن العشرين، الذين يعكسون جزئيًا مواقف ما بعد الحداثة، إلى موضوعات جديدة مع التركيز على الثقافة والعرق والجندر والحياة اليومية لقطاعات من السكان تم تهميشهم واستبعادهم من الاعتبار التاريخي. إن القوى ذاتها التي بدت وكأنها تدعو إلى "نهاية التاريخ"، مثل العولمة والتعددية الثقافية، تبين، فيما بعد،  أنها تاريخية في جوهرها.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة