نهاية عصر النهايات . (4): نهاية الجدية

 

نهاية عصر النهايات

(4) : نهاية الجدية

أماني أبو رحمة

  حتى عند التعامل مع موضوعات جادة، فإن ما بعد الحداثة تعالجها في بنى معقدة، وترشحها (تفلترها) من خلال خطاب ساخر. لا تعبر ما بعد الحداثة عن المفارقة بوصفها مجرد استهزاء، ولكن بالأحرى دليلا عقلانيا يحمي الكاتب من النوستالجيا(الحنين إلى الماضي). من أجل مكافحة النوستالجيا، تحول ما بعد الحداثة كل شيء إلى لعبة ساخرة، وهذا هو سبب تسمية عصر ما بعد الحداثة أيضًا (بعصر السخرية).

     وفقًا لليندا هتشيون، فإن السرد ما بعد الحداثي، كونه ما وراء قص تاريخي، هو لهو ولعب بالزمن الماضي. هذا الترفيه، كما يمكن للمرء الافتراض، يقتصر على المحتوى، بينما يستمر اللعب بالشكل (المونتاج، الكولاج، البريكولاج، إلخ). وبالتالي، فإن السخرية هي (فلترة) ما بعد الحداثة للقصص الجادة. تسمح تلك الاستراتيجيات لأعمال ما بعد الحداثة أن تحتفظ بنقد فاعل ومتواصل لما بعد الحداثية دون أن تقع فريسة للاعتقاد بأنه لا يمكن للمرء أن ينجو من التواطؤ مع الإيديولوجيات التي تحدد إحساسنا بالواقع في حالة ما بعد الحداثة.

وتبعًا لهتشيون أيضًا فإن أحد أهم السمات التي تميز ما بعد الحداثية عن الحداثية هو حقيقة أنها " تأخذ شكل الوعي الذاتي، والتناقض الذاتي والتقويض الذاتي". وإحدى وسائل خلق هذا الموقف المزدوج أو المتناقض حول أي بيان أو حالة هو توظيف المحاكاة الساخرة، الباروديا: اقتباس المتفق عليه للسخرية منه. وبعبارات هتشيون: يعد التهكم الساخرـ والذي غالبا ما يطلق عليه الاقتباسات المفارقة، المعارضة الأدبية، والاستيلاء، أو التناص ـ مركزيًا في ما بعد الحداثية بالنسبة لمنتقديها والمدافعين عنها على حد سواء.

وخلافًا لجيمسون، الذي يعتبر تهكم ما بعد الحداثة مثل عرض من أعراض تقدم السن، وطريقة للتعبير عن فقدنا الإتصال بالماضي وفقدنا لنقدٍ سياسي فعال، فإن هتشيون تدعي بأنه "من خلال عملية مزدوجة مكونة من التثبيت أولًا ثم المفارقة أو التهكم، فإن الباروديا أو المحاكاة الساخرة تشير إلى كيف أن التمثيلات الحالية تأتي من الماضية، وإلى التبعات الأيديولوجية لكلٍّ من الإستمرارية والاختلاف".

وبذلك فإن هتشيون تضع نفسها في مواجهة وجهة النظر السائدة بين كثير من منظري ما بعد الحداثة: "إن التفسير السائد هو أن ما بعد الحداثية تقدم اقتباسات بلا قيمة، تجميلية، منزوعة التاريخية للأشكال الماضية وأن هذه هي الصيغة الأكثر ملاءمة لثقافتنا الفائقة التشبع بالصور". تصر هتشيون بدلا من ذلك، على أن مثل هذا الموقف المفارق في التمثيل، والنوع الأدبي، والأيديولوجيا يعمل على تسييس التمثيل، ويؤكد كيف أن التفسير هو إيديولوجيا في نهاية المطاف.

تضيف هتشيون إن الباروديا تجتث أو تنزع التأثير السام de-doxifies ـ إذا ما رغبنا بترجمة حرفية للمصطلح. ونزع السُمِّية هو بالمناسبة مصطلح هتشيون المفضل ويعني أنها تخلخل (الدوكساdoxs) أو المعتقدات المقبولة دون استجواب. وبدلًا من أن ترى المواقف المفارقة بوصفها تراجعًا لا نهائيًا إلى التناص، فإنها تثمن مقاومة هذه الأعمال ما بعد الحداثية للحلول الشاملة للتناقضات الاجتماعية. تثمن هتشيون أيضًا إرادة ما بعد الحداثة في استجواب كل المواقف الإيديولوجية، وكل ادعاءات امتلاك الحقيقة المطلقة. تعني هذه الرغبة في اللعب مع تناقضات المجتمع أن "يتم ترميز الباروديا في المصطلحات السياسية على نحو مضاعف: فهي تضفي الشرعية على/ ثم تفسد ما تسخر منه "، ولكن هذا الموقف لا يعني أن نقدها ليس فعالًا: فالباروديا ما بعد الحداثية "قد تكون في الواقع متواطئة مع القيم التي تعززها أولًا ثم تنقلب عليها، ولكن التخريب (النقد في النهاية) لا يزال هناك".

وتشبه هتشيون هذا الموقف المفارق بإصطلاح الفاصلة المقلوبة: [فالأمر يشبه أن تقول شيئا وفي الوقت ذاته تضعه بين فاصلتين مقلوبتين. فيصبح التأثير هو أن تسلط الضوء، أو "أن تسلط الضوء"، وأن تخرِّب، أو" أن تخرِّب " وتصبح الصيغة تبعًا لذلك "معرفية " ومفارقة ـ أو حتى "مفارقة"].

يكمن تمايز ما بعد الحداثية في هذا النوع من الإلتزام الإجمالي بالازدواجية أو النفاق. وفي كثير من الأحيان تبدو تلك الازدواجية متوازنة لأن ما بعد الحداثية نجحت في نهاية المطاف في تأسيس وتعزيز كما تقويض وتخريب الاتفاقيات والافتراضات التي يظهر أنها تتحداها. ومع ذلك، فإنه يبدو من المعقول القول إن اهتمام ما بعد الحداثة الأول هو نزع الطبيعية عن بعض السمات المهيمنة من طريقتنا في الحياة، وتحديد تلك الكيانات التي نخبرها بوصفها (طبيعية) دون تفكير (والتي قد تشمل حتى الرأسمالية، والبطريركية، والنزعة الإنسانية الليبرالية) بينما هي في الواقع "ثقافية"، صنعناها بأنفسنا، ولم تعط لنا. ومن خلال هذا التلاعب أو السخرية المفارقة من تناقضات المجتمع، تجبرنا ما بعد الحداثة على مساءلة عددٍ من الافتراضات التقليدية الأخرى حول المنتج الجمالي من قبيل مفهوم الأصالة الفنية والإعجاب الذي يصل حد التقديس للفنان، وافتراض أن الذاتية مستقرة ومتماسكة، ومساءلة المبادئ الرأسمالية للملكية والممتلكات، وكل الادعاءات التي تقول بأن المعنى أو الهوية طبيعية وليست مصطنعة أو مركبة، والإعتقاد بأنه يمكن معرفة ما كان عليه التاريخ في الحقيقة (والجملة هنا للمؤرخ الألماني الشهير، ليوبولد فون رانكه) والاعتقاد بأن هناك شيئًا من قبيل الموقف المحايد أو غير الإيديولوجي، والادعاء بأن يمكن لأحد مراقبة الاستقلالية وإبقائها فاعلة في الوقت ذاته لإنتاج جماليات، منفصلة عن الجماهير والسوق. وبهذه الصورة فإن الباروديا ما بعد الحداثية تشبه الباروديا الحداثية، والتي باعتراف هتشيون، يمكن العثور عليها "في كتابات إليوت، وتوماس مان، وجيمس جويس ولوحات بيكاسو، ومانيه، وماغريت". ولكن ما تستجوبه ما بعد الحداثة، مع ذلك، هو "الافتراضات الحداثية غير المعترف بها حول الغلق، والمسافة، والاستقلال الفني، وطبيعة السياسية للتمثيل".

ما بعد الحداثة أكثر استعدادًا لتحطيم الفروق بين "الواقع" و "الخيال"، كما أنها أكثر استعدادًا لدمج أشكال السوق الجماهيري في نقدها، حيث يمثل التصوير الفوتوغرافي والأفلام مثالين جديرين بالملاحظة بشكل خاص. على حد تعبير هتشيون، "ما بعد الحداثة أكاديمية وشعبية في نفس الوقت، نخبوية ويمكن الوصول إليها، معا ". بفضل مثل هذه التناقضات، يمكن لما بعد الحداثة أن تصنع نقدًا ناجحًا. وفي حين يدين جيمسون جميع أفلام هوليوود على أنها تساهم في مشاكل الرأسمالية المتأخرة، يقدم هتشيون طريقة أخرى لتقييم مثل هذه الأعمال: "لا ينكر فيلم ما بعد الحداثة أنه متورط في أنماط الإنتاج الرأسمالية، لأنه يعرف أنه لا يمكنه ذلك. وبدلاً من ذلك، فإنه يستغل موقفة "من الداخل" من أجل بدء التخريب من الداخل، والتحدث إلى المستهلكين في المجتمع الرأسمالي بطريقة تشرح لنا كيف وصلنا إلى هنا، إذا جاز التعبير ". يموضع التهكم, بوصفه إستراتيجية أدبية، نفسه عن قصد ليحطم المعايير التي أصبحت موضع اتفاق، بينما يصهر، من ناحية أخرى، الإبداع والنقد في بوتقة واحدة.

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة