نهاية عصر النهايات. (3) : نهاية الواقعية أو"مثالية" ما بعد الحداثة(أ)

نهاية عصر النهايات

                                                             أماني أبو رحمة

(3) : نهاية الواقعية أو"مثالية" ما بعد الحداثة(أ)

بالمعنى الفلسفي، تفترض الواقعية أن الواقع موجود مستقلّا عن الإدراك البشري ولا يعتمد على المراقبين لتحديد حدوده الموضوعية. اتخذت الواقعية الحداثية أشكالا مختلفة مثل العلمية، والاجتماعية السياسية، والجمالية، والابستمولوجية (دراسة أو نظرية لطبيعة وأسس المعرفة خاصة فيما يتعلق بحدودها وصلاحيتها) والواقعية الأخلاقية. في العصر الحداثي، كان فرانسيس بيكون وجون لوك من أهم المنظرين للواقعية الأخلاقية. في حين كان المنظرون الألمان مثل أوتو فون بسمارك وكارل فون كلاوزفيتز من مؤيدي الواقعية السياسية.

وبالمقابل، تطرح المثالية حجة أن الواقع، كما ندركه، هو بناء عقلي. وأننا نختبره بفضل القدرات الحسية للعقل البشري وليس لأن الواقع موجود في حد ذاته، ككيان مستقل. هذا يعني، بالمعنى الابستمولوجي، أنه لا يمكن للمرء أن يعرف وجود أشياء خارج نطاق العقل. تدين المثالية الحداثية بتطورها إلى فلاسفة مثل جورج بيركلي، الذي ربما كان من أعظم مؤيديها والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. ومع ذلك، فسر هذين المفكرين المثالية بطرق مختلفة للغاية. وصف كانط نسخته المثالية بأنها متعالية، في حين أطلق عليها بيركلي اسم "اللامادية" التي نشير إليها اليوم بالمادية الذاتية. كان جورج بيركلي يرى أن العالم المادي موجود لأن هناك عقلًا يدركه وأن الأشياء التي ليست ضمن الإطار المفاهيمي للعقل البشري لا يمكن اعتبارها حقيقية. إنه لا ينكر وجود الأشياء ، بل أن وجودها في العالم المادي يعتمد على  العقل لإدراكها. لخص ذلك في عبارة لاتينية شهيرة "Esse est percipi" (أن تكون يعني أن تكون مُدْرَكًا). اقترح كانط أن الواقع موجود بشكل مستقل عن العقول البشرية ولكن معرفته غير معروفة بطبيعتها للإنسان بسبب المرشحات الحسية في وعينا. تعيق هذه المرشحات قدرتنا على رؤية "الشيء في حد ذاته" - Ding an sich - وبالتالي فإن إدراكنا النهائي للأشياء يكون دائمًا من خلال الإطار المرجعي الثابت للعقل.

كان التنظير للواقعية، في معظم القرن العشرين، هامشيا مقارنةً بالفلسفة التحليلية والقارية السائدة، واقتصر على المجالات الفلسفية مثل علم النفس الإدراكي. بدت مقترحات الابستمولوجيا الواقعية، مثل "الواقعية النقدية" للفيلسوف البريطاني روى باسكار (1944 - 2014)، أقل إغراءً بكثير من الفوضوية التي قدمها فيلسوف العلوم الاسترالي بول فييرابند، الذي تعتبر جميع المناهج العلمية صحيحة بالنسبة له، أو الأطروحات التي عبر عنها ريتشارد رورتي، الذي ليس للموضوعية بالنسبة له أي قيمة جوهرية. كما بدت فكرة "الميتافيزيقيا الوصفية" التي تحترم البديهيات والحس السليم والتي قدمها الفيلسوف الإنجليزي بيتر فريدريك ستراوسون (1919- 2006)، أقل بطولة بكثير من فكرة "تفكيك الميتافيزيقيا" التي اقترحها أتباع هايدغر. هل يجب أن نستنتج أنه كان هناك استمرار لمثالية القرن التاسع عشر؟ قد يبدو الأمر متناقضًا،  ولكن يمكننا الإجابة بنعم.

لاحظ الفيلسوف الأمريكي ما بعد الحداثي ريتشارد رورتي (1931-2007) أوجه الشبه بين الفكر المثالي في القرن التاسع عشر و الفكر ما بعد الحداثي في القرن العشرين. وضعت المثالية في القرن التاسع عشر أوراقها على الطاولة: لا يوجد زمن، لا يوجد سوى ما يدور في الفكر، إلخ. على العكس من ذلك، اتبعت ما بعد الحداثة استراتيجية مختلفة تمامًا. اقترح رورتي أن اعتماد الواقع على الفكر هو "تمثيلي"، ما يعني أنه لا يتعلق بالكائنات بل بالمفردات التي نستخدمها لتعيينها. الآن، إذا كنا نعني بعبارة "الاعتماد التمثيلي representational dependence" أن وجود الديناصور، على سبيل المثال، يعتمد على مخططاتنا المفاهيمية، فإنه يترتب على ذلك أنه عندما كان الديناصور موجودًا، لم يكن موجودًا، لأن البشر لم يكونوا موجودين كي يدركوه. ومع ذلك، إذا كنا نعني أن كلمة ديناصور تعتمد على مخططاتنا المفاهيمية، فإن هذا ليس اعتمادا بأي معنى جدي للمصطلح. في هذه المرحلة، هناك سؤال واضح يجب طرحه: كيف يمكن تمرير مثل هذا الاعتماد، الذي يكون في معظم الأحيان ابستمولوجي (معرفتنا بالديناصورات هي ما يجعلها ذات صلة بنا، والإ فلن نعرف شيئًا عنها )، على أنه تبعية انطولوجية (بحيث تشكل معرفتنا بطريقة ما وجود الديناصورات من عدمه)؟ يأتي الجواب من فيلسوف أمريكي آخر ينتقد ما بعد الحداثة بشدة: جراهام هارمان. لاحظ هارمان كيف أن الخدعة الأساسية لمثالية ما بعد الحداثة تتمثل في الادعاء بأنها تقع أبعد من كل من المثالية والواقعية، وكذلك وراء كل من الذات والكائن. رسميًا، لا يفترض ما بعد الحداثي التزامًا أنطولوجيًا مثاليًا أو ذاتيًا، حيث يدعي أنه أبعد من (ما وراء) الاختلافات بين الذات والموضوع وبين المثالية والواقعية. ومع ذلك، من خلال الادعاء بأن الواقع أو الموضوعية يتم تقديمها فقط فيما يتعلق بذات ما، فإنها تقدم خلسة أطروحة مثالية وذاتية. يقدم هارمان بعض الأمثلة المهمة على هذا الموقف: بالنسبة إلى هوسرل، الأشياء دائمًا ما تكون مرتبطة بالأفعال القصدية ؛ بالنسبة إلى هايدغر، ترتبط الكائنات دائمًا بالدازين؛ صاغ ميرلو بونتي شعار "ما يكون يكون في حد ذاته" ؛ وكتب دريدا أن الاختلاف بين المدلول والدال ليس شيئًا (والذي، بالمناسبة، يثبت أنه من المشروع قراءة عبارته الغامضة " (il n'y a pas de hors-texte) " على أنها "لا يوجد شيء خارج النص"). إن عبارات مثل "الوجود الذي يمكن فهمه هو اللغة" أو "اللغة هي بيت الوجود"، والتي كانت عبارة عن عبارات شائعة في الفلسفة القارية في القرن العشرين، هي بالضبط الترجمة الدقيقة للفكرة الانطولوجية القائلة بأنه لا يوجد ذات وكائن، ولكن فقط العلاقة بينهما. وهو ما يشبه الادعاء بعدم وجود يد يسرى ويد يمنى: لا يوجد سوى اليدين المتشابكتين في الصلاة. وقد أطلق الفيلسوف الأسترالي ديفيد ستوف (1927-1994) على هذه "أسوأ حجة في العالم". يبدو إن إحياء أطروحة نيتشه "لا توجد حقائق، ولكن فقط تفسيرات"، التي اقترحتها التأويلات الراديكالية، هي نتيجة متوقعة لهذه العقلية: إذا كانت هناك علاقات فقط، فهناك تفسيرات فقط.  ويمكننا تلخيص الاختلافات بين المثالية في القرن السابع عشر والفلسفة التحليلية والقارية "ما بعد الحداثية" في القرت العشرين كالتالي : كانت مثالية القرن التاسع عشر حركة متماسكة تعالج المشكلة الأساسية للفلسفة: أي كونها فكرًا يمثل الواقع بأكمله. من أجل القيام بذلك، مع ذلك، كان عليها أن تفترض دورًا ما للفكر على الواقع. الأمر الذي حدث من خلال المغالطة المتجاوزة، أي الخلط بين الأنطولوجيا والابستمولوجيا. ولكن مع ما بعد الحداثة سارت الأمور بشكل مختلف، كانت هناك "مغالطة تأويلية"، أي الخلط بين الصلة القيمية Axiology لشيء ما (اللغة مهمة، والتاريخ والذات مهمان، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو أن يكون لديك سقف فوق رأسك وتكون قادرًا على طهو الغداء والعشاء) وأهميته الانطولوجية. تؤثر اللغة والفكر والتاريخ على الواقع (من سينكر ذلك؟)، وبالتالي فهي تشكل الواقع (وهذا ببساطة ربط سخيف). هذه هي الطريقة التي تحولت بها مجموعة من الكلمات التي تحدد الواقع onomaturges إلى مجموعة من القوى الخلاقة demiurges للواقع. إذا كانت "أسوأ حجة في العالم صحيحة"، فلن تكون فيزياء نيوتن غير حقيقية قبل نيوتن فحسب (هناك فقط علاقة بين الذات والكائن، لذلك إذا كان الذات نيوتن مفقودًا، فإن قانون نيوتن مفقود أيضًا)، ولكن الكائنات ذاتها التي تشير إليها قوانين نيوتن ستكون موجودة بطريقة إشكالية للغاية.

في الفلسفة التحليلية، تم إعادة التأكيد بشدة على الحدس الواقعي القائل بأن اقتراحًا ما صحيح أو خاطئ بشكل مستقل عن حقيقة أننا نعرف أو يمكننا أن نعرف كيف تكون الأشياء - أي التمييز بين الأنطولوجيا والابستمولوجيا - على يد كل من شاول كريبك وهيلاري بوتنام.ومع ذلك، كان الوضع هناك مختلفًا تمامًا عن الوضع في الفلسفة القارية، في الواقع، كانت اللاواقعية سياسية. إن الادعاء بن الواقع يعتمد بشكل حاسم على أفعال الذوات يعني (كما اقترح قبل فوكو و فاتيمو) التمسك بمبدأ تفسير العالم وتحويله في نفس الوقت. لم يحدث شيء من هذا القبيل في التقليد التحليلي الذي ولد كرد فعل واقعي ومنطقي ضد المثالية، وبالتالي لم يدعم مطلقًا أطروحات مثل تلك التي تقول بأن "السلطة" أو "الذات" يمكن أن تشكل الواقع.


تعليقات

المشاركات الشائعة