ما بعد الحداثة: جدلية الترتيب الزمني والتباعد الجغراقي.

ما بعد الحداثة: جدلية الترتيب الزمني والتباعد الجغرافي.
أماني أبورحمة
أثار مفهوم ما بعد الحداثة، بقدر ما يعرف نفسه فيما يتعلق بالحداثة، سواء في شكل تقييم سلبي كما هو الحال مع جان فرانسوا ليوتار في فرنسا، أو إيجابي كما عند يورغن هابرماس في ألمانيا الغربية، أو في شكل توازنات جدلية بين الاثنتين كما هو واضح مع فريدريك جيمسون في الولايات المتحدة، أثار مخيلة العديد من الفلاسفة والنقاد في زمن الرأسمالية المتأخرة. تعكس هذه الاستجابات التفاضلية لتجربة ما بعد الحداثة، وتُحدد، إلى حد كبير، بنوعية إرث الحداثة الراسخ في القوام الثقافي القومي لكل بلد من هذه البلدان بعينه. ففي حين شهدت فرنسا الحداثة بوصفها مهيمنا ثقافيا على وجه التحديد لأن جميع المدارس الفنية والحركات الأدبية، التي تفرعت وتمددت وأينعت من التكعيبية عبر السريالية إلى الدادائية، كانت ترنو إلى باريس، باريس التي كانت تعيش لحظاتها الأخيرة بوصفها عاصمة القرن التاسع عشر. فُهمت الحداثة في ألمانيا الغربية بوصفها تجربة سياسية ضالة مشتقة من العمليات الثقافية وذلك بسبب هزيمة الحداثة وجمهورية فايمار في كارثة عام 1933. لم تشهد الحداثة في أمريكا التطور والتعقيد الفلسفي في النسيج الثقافي الوطني بسبب ما أطلق عليه (الهجرة الأدبية) لإليوت وباوند وهمينغواي. ومن الواضح أن الإحداثيات الثقافية الوطنية المختلفة لموضعة الحداثة وما بعد الحداثة في علاقة جدلية من نوع ما قد تكاملت مع الإحداثيات الاجتماعية في تاريخ تلك الدول. فقد حوربت الصراعات والنضالات الطبقية الفرنسية بشراسة لا تقل عما جرى عام 1789.
في ألمانيا، تأخر تشكيل  الدولة الوطنية كما أنها عانت من إشكاليات عديدة متعلقة بالعنصرية والطبقية التي تفجرت لاحقا بشكل غير متوقع؛ ولم تجعل الأساطير عن الريادة والطلائعية امريكا صاخبة فحسب، ولكنها خلقت يقينا بأنه لا حدود لإمكانياتها. خاضت هذه البلدان الثلاثة معركة حقيقية فيما يتعلق بالتشكيلات السياسية والفلسفية للهيكل النظري لما بعد الحداثة. ومن بين الدول الأوروبية الكبرى، فضلت إيطاليا وبريطانيا، حتى الوقت الحاضر، أخذ موقف المتفرج ومراقبة التطورات عن كثب. فقد تفاعلت كتابات بيري أندرسون وتيري إيغلتون في إنجلترا، وكتابات كارلو غويليو أرغان في إيطاليا، بشكل رئيسي مع المواجهات الجارية في الجانب الآخر. ولذلك فإن هذه الكتابات، وإن كانت في حد ذاتها تأملات رائعة في هذا المفهوم، لم تلعب دورا رئيسا في بلوة المفاهيم والتنظيرات حول الحداثة وما بعدها.
 تتطلب معالم الجغرافيا الثقافية لما بعد الحداثة أن تكون المانيا الغربية وفرنسا وأمريكا في قلب هذا الرسم التخطيطي. في الواقع، فإن شكل الجغرافيا الثقافية لهذا المفهوم، الذي يخوض عملية رسم خرائطه على نطاق عالمي، يؤكد اقتراح فرانكو موريتي أن الحركات الفنية والمدارس الأدبية يجب أن يتم رسمها فيما يتعلق، أو بشكل يتفق مع، الوحدة الجدلية بين ترتيبها الزمني وتباعدها الجغرافي. يرى موريتي أيضا إن الحداثة كانت أول حركة ثقافية في التاريخ تشكل نفسها بوصفها نظاما فكريا على نطاق عالمي. ولسوء الحظ، فإن موريتي يرى أن أوروبا تشكل العالم كله. ومع ذلك، فإن بعض ملاحظات موريتي مميزة جدا. ويمكن القول أن ما بعد الحداثة قد انخرطت في سيرورة جعل نفسها ظاهرة ثقافية ونظاما فكريا في جميع أنحاء العالم سائرة على الدرب الذي عبدته الطريقة الأمريكية للحياة. فالجغرافيا الثقافية لما بعد الحداثة تشير إلى أنماط مثيرة للاهتمام.
بمراجعة تطورات الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية وتداعياتها في البلدان المذكورة التي شهدت تحولا واضحا في الباراديم الفكري، لن نحتاج الى الكثير من الفطنة حتى نستنتج أن ما بعد الحداثة قد اضطرت إلى تعريف نفسها داخل أجواء المادية التاريخية، سواء في الاتفاق معها أو الانشقاق عنها. ويعود ذلك إلى أن المادية التاريخية تعرض بنية متماسكة نظريا وتاريخيا. وفي الواقع، فإن نظرية ما بعد الحداثة في فرنسا والمانيا الغربية وأمريكا مرتبطة بمآلات الماركسية في كل بلد: فهزيمة الماركسية في فرنسا على يد البنيوية وما بعد البنيوية يعني دائما تحديد ليوتار لما بعد الحداثة: إن سردية التأثير التحرري للتقدم العلمي التي لا يمل التنوير ترديده و سردية :أن هذا التقدم سيعزز التشكيل الأخلاقي والروحي للأمة؛ وسردية الماركسية قد انحلت إلى عدد لا حصر له من السرديات الصغرى التي ليست سوى ألعابا لغوية محلية مكتفية ذاتيا. ومن ثم، فإن محاولة تنظيم هذه الشظايا الاجتماعية والثقافية إلى كلية أكبر وأشمل أو ترتيبها في تسلسل هرمي محكوم عليها بالفشل.
في المانيا، يعود عداء هابرماس لما بعد الحداثة، ولا سيما كما صاغها ليوتار، إلى التقاليد القوية الموحدة للفلسفة الماركسية في مدرسة فرانكفورت، والتي، مع ذلك، لا تخلو من مشاكلها وصعوباتها الخاصة. أما في أمريكا، فإن جدلية التقييم السلبي والإيجابي لما بعد الحداثة كما تجسدها ماركسية فريدريك جيمسون، تلخص رغبته في تجنب اشتباك شامل بين (الحداثة وما بعد الحداثة) قد تنتصر فيه ما بعد الحداثة على حساب الماركسية، وجزئيا لأن جيمسون تعلم من جان بول سارتر أن الجدلية بطبيعتها  جدلية التقدم والتراجع.
        هذه هي الإحداثيات التاريخية التي تفسر القراءات التفاضلية لما بعد الحداثة في مواطن انبثاقها وسيروراتها. ومع ذلك فقد كانت باريس بالذات هي مركز المحاورات الفلسفية الجادة حول ما بعد الحداثة بعد اقصاء الماركسية من فرنسا في عام 1977 على يد البنيوية وما بعد البنيوية. ومع ذلك يجب أن يكون واضحا أنه على الرغم من أن نظريات ما بعد الحداثة ظهرت لأول مرة في فرنسا، ألا أن  المنتجات الفنية الفعلية لما بعد الحداثة ظهرت في أمريكا: لوحات أندي وارهول وروبرت روسشنبرغ. وموسيقى جون كيج وفليب غلاس؛ وموسيقى الفيديو من لوري أندرسون وكتابات إشمايل ريد وريموند فيدرمان؛ وشعر جون أشبيري؛ و فيديو نام جون بايك. والرقص الحديث لديفيد جوردون وتويلا ثارب. ويمكن للقائمة أن تطول. أما عن  أسباب ظهور الأعمال الفنية ما بعد الحداثية في أمريكا،  فهو ـــ إلى جانب الحاجة الرأسمالية للمنتجات الجديدة لأغراض التسليع و رفع   الأرباح  إلى أقصى حد ممكن، أن الحداثة  الأمريكية بوصفها حركة فنية لم يكن لها تأثير على النسيج الثقافي للأمة كما كان الحال في فرنسا. وبما أن أمريكا لم يكن لديها أبدا تقليد عميق من فلسفة  الفن، فقد استفرد الفلاسفة الفرنسيين بمحاولات  وضع مثل هذه النظريات. ولكن الفلاسفة الفرنسيين، كونهم قوميين مقارنة  بالأمريكيين، لا يمكنهم  تصور  أن حركة فنية دولية ذات أهمية حقيقية في الربع الأخير من القرن العشرين يمكن أن تحدث خارج حدود فرنسا، حاصرين أنفسهم مع ظروف ما بعد الحداثة في فرنسا، بدلا من تناول  المنتجات الفنية الفعلية المنبثقة عن أمريكا. علينا أن نلاحظ أن هذا بالطبع  لا ينظبق على كل الفلاسفة الفرنسيين الذين يعيشون في عصر ما بعد الحداثة: تشهد بذلك  الكتابات الرائعة لميشيل ليريس وجيل دولوز عن  العمل الفني لفرانسيس بيكون.



تعليقات

المشاركات الشائعة