مأزق التفكيك: شمولية الديفرانس ووهم تفكيك الميتافيزيقا

مأزق التفكيك: شمولية الديفرانس ووهم تفكيك الميتافيزيقا
أماني أبو رحمة
تواجه الشواغل الرئيسية لفلسفة ما بعد البنيوية العديد من الصعوبات التي واجهت فلسفة الهوية الديكارتية، وعلى وجه الخصوص العلاقة بين الإدراك الذاتي والواقع الموضوعي. ومن الناحية التاريخية، كان ينظر إلى الوعي الذاتي على أنه ظهور الذات الموحدة (رينيه ديكارت)، بحيث تصبح الذات واحدة مع وجودها الخاص. ومع ذلك، هناك مشاكل عدة مع هذا الرأي. وأبرزها بالنسبة لما بعد البنيويين ما أوجزه يوهان غوتليب فيخته:
"لنفرض أنك تقول أنك واعيا بنفسك، وبالتالي فأنت بالضرورة تمييز (أناـــ)ـــ ك المفكرة عن الـ( أنا) التي هي موضوع تفكيرها أو وعيها. ولكن من أجل القيام بذلك، فإن ما يفكر في هذا التفكير يجب أن يكون كائن تفكير أعلى، من أجل أن يكون كائنا للوعي. وأنت على الفور تمتلك ذاتا جديدة، هي مرة أخرى أكثر وعيا من ما كان سابقا الوعي الذاتي". هذه العملية، كما يفسر فيخته، تستمر في تراجع لانهائي، ذلك أنها "تحتاج وعيا جديدا لكل وعي وهو في الوقت نفسه وعلى الفور واعيا بنفسه، الذي كان موضوعه هو (الوعي) السابق". هذه القضايا هي ما يواجهه دريدا من خلال ما يسميه التفكيك.
إحدى الطرق التي تظهر بها عملية التفكيك، والتي برزت في كتابه(الغراماتولوجي)، هي نقد المعاملة التفضيلية التي يعتقد دريدا أن الفلسفة قد منحتها تقليديا للحضور على الغياب، وما يترتب على ذلك من "التمركز الإثني" الذي "يسيطر على مفهوم الكتابة " في كل مكان ودائما. يطلق دريدا على هذا التحيز الابستمولوجي التمركز حول اللوغوس. ومن خلال تسليط الضوء على هذا التحيز، فإن الشاغل الأساسي لدريدا هو تقويض الاعتقاد المشترك بأنه عندما نتكلم فإن كلماتنا تكون على اتصال مباشر بالمعنى - في الواقع، يقول دريدا: "لا شيء قبل النص... لا سابق لم يكن بالفعل نصا". لأن تصور العالم الذي يمكن أن يكون قائما قبل اللغة، يجب أن يفترض دائما مفهوم اللغة. ويستند الكثير من مفهوم دريدا للغة إلى النظرية اللغوية لفرديناند سوسير. في(بحث في الألسُنيّة العامة) ـــــ الذي كتبه بـاللغة الفرنسية ونُشر عام 1916، بعد وفاته ــ حاول سوسير تحديد الجوانب المختلفة للغة. لا يوافق دريدا سوسير في قضايا عديدة - الأولوية الأنطولوجية للكلام على النص مثلا - إلا أن سوسير وضع مبدأ رئيسيا كان له تأثير كبير ودائم على دريدا: العلاقة بين الدال والمدلول ليست تلقائية فورية أو مباشرة، ولكنها تحصل بالتوافق. إذ على الرغم من أنه قد يتم الاتفاق على أن صوتا معينا قد يمثل الصورة الذهنية لكائن ما، كما لاحظ سوسير، إلا أن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية: فحين نلاحظ أن الكلمات تمتلك علاقة منطقية مع الكائن الذي تشير اليه فذلك نتيجة للتوافق، وليس الحقيقة. ولكن في حين أننا قد نعترف بهذا فكريا، إلا أننا لا نواجه هذه العلاقة غير المستقرة عند التحدث أو الكتابة: "الكلمات (سواء كانت مكتوبة أو منطوقة) يمكن أن تبدو في علاقة طبيعية ومباشرة مع بناء العالم". تظهر الدوال للمتكلم بوصفها حضورا ذاتيا، بوصفها تحمل معناها الخاص.
ضد هذا المفهوم الخاطئ المشترك، يعرض دريدا نقطتين مترابطتين. أولا، يعتمد تعريف كلمة ما على العديد من الكلمات الأخرى من أجل التعبير عنها، وعلى هذا النحو لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها بديهية. عند محاولة تحديد كلمة، فمن الضروري استخدام كلمات أخرى للقيام بذلك، وهذه الكلمات التي نستخدمها لتحديد الكلمة الأولى تحتاج إلى تعريف أيضا - وهلم جرا في تراجع لا نهائي. وكما هو الحال في مفارقة هوية فيخته، يرى دريدا إن ما نجده في اللغة هو تأجيل دائم للمعنى: فمعنى كلمة ما يعتمد على نظام التمايز، وهذا المعنى يفترض مسبقا تعريفا مستقرا للكلمات الأخرى ليس موجودا ببساطة. وبالتالي فإن دريدا يمضي للنقطة الثانية وهي أن اللغة تختلف عن نفسها بغياب الحضور أو ما يشير إليه بالـ "أثر". ولأن الكلمة تعتمد على أخرى في معناها، فلا يمكن أبدا أن تكون متطابقة (متماثلة) مع نفسها، ولا بد أن توصف بالغياب. وهكذا فإن المعنى يشتق علائقياً بين دال وآخر، ولهذا فإنه مشبع بالغياب، فالمعنى في حالة تدفق مستمر إلى الأبد، لا يرتبط مطلقا بمصدر ثابت ذاتي الحضور. وهذا ما يعنيه دريدا بمصطلحه الأشهر الاختلاف المرجأ أو المرجئ (الديفيرانس Différance).
وفيما يتعلق بمفارقة هوية فيخته، فإن التفكيكية تشير إلى أن هناك توترا جدليا بين الهوية واللا هوية. يقول دريدا إن واحدا من مظاهر الفشل الرئيسي في الميتافيزيقيا هو انشاء مصطلح مؤسس من أحد الأضداد التي هي في الحقيقة متشابكة مع بعضها البعض. لذلك يرغب دريدا في التخلي عن التمييز بين هذين النوعين من المفاهيم، لأنه يرى أنها مكونة من بعضها البعض؛ في الواقع، هذا هو بالضبط سبب اصرار دريدا على "أن المثالية لا يمكن هزيمتها بمواجهتها بالمادية، وإنما بتجاوز الثنائية".
وفقا لدريدا فإن التقليد الفلسفي الذي يميز الحضور على الغياب هو فقط من سيقع في خطأ الاعتقاد بأنهما قابلان للفصل. ولكي نذهب إلى "ما بعد" الثنائية، علينا أن نتجاوز العلاقة البسيطة ذات الاتجاهين - أن نرى أن المعنى قد ثبت علائقيا، وأنه كلما حاول المرء أن يثبت معنى ذاتي الهوية يجب أن يحتوي دائما على " أثر "من اللا- هوية، من الشيء الذي ليس هو. الآن، هناك، كما يشير بيتر ديوس في (منطق التشتت،1987)، مشكلة مع هذه النظرية. إن الحركة المستمرة ومراوغة المعنى المستمدة من اللغويات السوسيرية، يجبر دريدا على موقف يجعل فيه الديفرانس مفهوما مجردا بوصفه شكلا من أشكال الأصل الابستمولوجي. المعنى، بعبارة أخرى، علائقي، وبالتالي غير مستقر دائما. يقول ديوس:"... في عمل دريدا، لا يمكن تعريف الديفرانس من خلال علاقته المتعارضة بالهوية، لأنه يعتبر "أصلا غير أصلي" للحضور والهوية، وعلى هذا النحو لا يمكن أن يعتمد عليهما في تحديده. ولكن، إذا لم يكن الديفرانس معارضا للحضور والهوية، فلا يمكن أن يختلف عنهما أيضا. ومع ذلك، إذا كان لا بد من الحفاظ على أن الديفرانس يختلف عن الهوية، ثم من خلال هذا التلميح المميز جدا لا يمكن أن يختلف بصورة مطلقة، لأن جميع الاختلافات المحددة هي في داخل الديفيرانس".
غير أنه من الخطأ الاعتقاد أن دريدا لم يكن على علم بهذه المسألة. في الواقع، يعتقد دريدا أن بنية اللغة هي التي تحاصرنا داخل الميتافيزيقيا، وهكذا وجد الأمل فقط في إطار التناقض وعدم التجانس – لذلك فإن استبدال دريدا ميتافيزيقا الحضور بميتافيزيقا الغياب يعكس فقط الأهمية التي يوليها للتخريب. وهذا هو، في جوهره، مشروع التفكيك: محاولة لتخريب (أو قلب) أولوية جانب واحد من الثنائية، وبالتالي إلى تجاوز الثنائيات. ومع ذلك، لا تزال حقيقة مفادها أنه لكي ينظر دريدا إلى فكرة الحضور باعتباره غيابا دائما، يجب عليه أن يلجأ إلى نفس المفهوم الشمولي الذي ينتقده. الحضور يقف في علاقة جدلية مع الغياب، وبالتالي فإن المعارضة المطلقة لأحدهما تعني هيمنة الآخر: كل الأشياء موحدة تحت مبدأ الديفرانس العالمي. أو كما قال أدورنو "إن التحرر المطلق للخاص من أي عالمية يجعله عالميا من خلال العلاقة الجدلية والأساسية بالعالمية". كذلك فإن منطق دريدا يتعامل بشمولية مع خصمه الشمولي حين وضع نفسه في معارضة مطلقة لطروحاته.

ومن خلال تدمير التمييز بين الهوية واللا الهوية، يصبح الديفرانس "مبدأ الوحدة" القوي. وفي حين أن فكرته عن القوى المتعارضة  التي تشكل بعضها بعضا صحيحة من خلال تأسيس ميتافيزيقا الغياب في جذور هذه العلاقة، إلا حجة دريدا تخدم فقط إعادة تأسيس التراجع اللانهائي لمفارقة الهوية عند فيخته، ولكن بإعادة صياغتها في مفارقة الغياب والحضور.  وهكذا تقع فلسفة دريدا في قبضة الشمولية الحديدية - وإن بوصفها تفكيكيا ذاتيا. يمنحنا ليوتار أحد الأسباب المحتملة لذلك في كتابه (الخطاب، الشكل، 1971). فاعتقاد دريدا بأنه لا يوجد شيء يتجاوز النص، واستحالة الواقع الذي لا يفترض قبل اللغة، يمثل لليوتار تحيزا أساسيا للخطاب. فبدلا من التأكيد على أن العالم غير مدرك بدون لغة، "لماذا لا ينبغي على استحالة الاستيعاب اللغوي للأصل أن تكشف عن القيود الكامنة في اللغة نفسها، وعجزها في نهاية المطاف عندما تواجه غير اللغوي؟" إن شرح هذه الهيمنة الاختزالية للخطاب منح الزخم النهائي لاطروحة ليوتار في (الخطاب، الشكل).

تعليقات

المشاركات الشائعة