ما بعد البنيوية في سياقات ما بعد الحداثة.

ما بعد البنيوية في سياقات ما بعد الحداثة.
أماني أبو رحمة
        ما بعد الحداثة "مصطلح مستفز"[1]. استشهد العديد من المنظرين والنقاد ما بعد الحداثيين بعبارة هانز بيرتنز. والسبب وراء صعوبة تحديد هذا المصطلح هو تعقيده الهائل والتعدد المرهق لوجهات النظر حول معناه ونطاقه وآثاره. يقول إيهاب حسن " تعاني ما بعد الحداثة من عدم استقرار دلالي معين، بمعنى أنه لا يوجد توافق واضح حول معناها بين المنظرين"[2]. يوضح بيرتنز هذه النقطة حين يقول:
"ما بعد الحداثة، إذن، تعني وعنت أشياء مختلفة لأناس مختلفين في مستويات مفاهيمية مختلفة، ابتداء من الأصول الأدبية النقدية المتواضعة في الخمسينيات إلى مستوى المفاهيم العالمية في الثمانينيات"[3].
        وعلى الرغم من عدم الإجماع والتنوع المعقد، فقد حققت ما بعد الحداثة أهمية هائلة في المناقشات الفلسفية والجمالية والثقافية على مدى العقود القليلة الماضية. يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مجموعة واسعة من الظواهر مثل الموقف الابستمولوجي، والأسلوب الثقافي والجمالي، والممارسة النقدية والوضع الاقتصادي. وقد حاول بعض النقاد التأكيد على التوظيف الرئيسي لهذا المصطلح. فتشير باتريشيا واو، على سبيل المثال، إلى ثلاثة توظيفات أساسية لما بعد الحداثة؛ الإشارة إلى الزمن الثقافي المعاصر، والممارسة الجمالية، والتطورات في الفكر الفلسفي[4].
        إن أول ما يلفت النظر في مصطلح ما بعد الحداثية هو الاشتقاق اللغوي الذي يحيل إلى الحداثة بفضل البادئة (post) التي تفيد أن شيئا قد جاء بعد الحداثية، ويحيلنا بالتالي إلى التحقيب. ومع ذلك، فإن علاقة ما بعد الحداثة بالحداثة كانت موضوع مناقشات مكثفة تركزت حول السؤال الحاسم: هل / ثم كيف أن ما بعد الحداثة هي انقطاع تاريخي مع الحداثة. يرى البعض أن ما بعد الحداثة تشكل انقطاعا عن الحداثة، ولكنها بالنسبة لآخرين استمرارا للحداثة بشكل أساسي. أصبح من الواضح أن ما بعد الحداثة تشكل مفهوما بحد ذاته على الرغم من بعض التداخلات مع الإشتغالات الأساسية للحداثة، وبهذا فلا يمكن أن تكون مساوية لها. ويؤكد معظم النقاد الآن أن ما بعد الحداثة تشير إلى مجموعة مختلفة من الاستجابات لقضايا الفلسفة والفن والثقافة مقارنة بالحداثة. على سبيل المثال، يعرض ليوتار الذي يمكن القول إنه أكثر من نقل عنه فيما يتعلق بالتنظير لما بعد الحداثة، في (حالة ما بعد الحداثة: تقرير عن المعرفة،1984) حالة ما بعد الحداثة باعتبارها حقبة تتميز بانهيار جميع النظم والحقائق التأسيسية. يرى أن ما بعد الحداثة يقدم نقدا للحداثة التي يعتبرها استمرارا، في بعض الجوانب الهامة، لمشروع التنوير: "وسوف أوظف مصطلح الحداثة modern لتعيين أي علم يشرع نفسه بالإشارة إلى خطابات ما ورائية (خطابات كبرى) من ذلك النوع الذي يناشد صراحة بعض السرديات الكبرى، مثل جدلية الروح، هيرمينوطيقا المعنى، وتحرير الذات العقلانية أو الفاعلة ، أو خلق الثروة[5]. وفي مواجهة الحداثية modernism التي تتميز بنوع من الإيمان بالسرديات الشمولية، يعرف ليوتار ما بعد الحداثية بأنها "التشكيك بكل السرديات الكبرى".
        يصف سيلفيو غاغي الموقف النقدي لما بعد الحداثة تجاه الحداثة بهذه المصطلحات:"في كثير من الأحيان يتم استخدام الفترة الحداثية للإشارة إلى عصر الحضارة الغربية بأكملها منذ عصر النهضة. وما بعد الحداثة، في هذا السياق، لا تقتصر على مجرد الثقافة التي تبعت ذلك في وقت مبكر من القرن العشرين، ولكن كل ذلك الذي جاء بعد الفكر الإنساني بأكمله، وهو مكون أساسي لثقافة العصر الحداثي. ويشير إنشاء التسمية الجديدة إلى أن عالم ما بعد الحداثة يختلف بطريقة ما عن العصر الحداثي. وليس من المستغرب إذن أن مصطلح "ما بعد الإنسان" هو مصطلح آخر من العديد من المصطلحات التي تحمل البادئة "بعد" والتي راجت في فترة ما بعد الحداثة. عندما يتم استخدام ما بعد الحداثة بهذه الطريقة، فإن الكيان الوجودي الأساسي قد تم تجاوزه أو رفضه لأنه لم يعد ممكنا"[6].
        يكمن التصور بأن ما بعد الحداثة تغادر بشكل كبير الحداثة في حجج حتى بعض من منتقديها الأكثر صخبا. على سبيل المثال، يرى يورغن هابرماس أن ما بعد الحداثة خيانة للحداثة التي يرى أنها استمرار مشروع التنوير. أطروحته هي أن الحداثة هي مشروع غير مكتمل له القدرة على تحقيق الأهداف التحررية في المجالات الاجتماعية والسياسية. ما بعد الحداثة، يجادل هابرماس، من خلال قبولها الصريح بالتشكيك بالعقل البشري، تميل إلى تخريب أهداف الحداثة. يصف هانز بيرتنز موقف هابرماس قائلا:
"... يرى الحداثة الجمالية (الحداثة الطليعية) متورطة في محاولة تمكين العودة إلى مشروع الحداثة كما كانت تدرك أصلا. هذا المشروع كما صاغه فلاسفة التنوير، يتألف من جهودهم لتطوير العلم الموضوعي والأخلاق العالمية والقانون والفن المستقل، وفقا لمنطقهم الداخلي. وفي الوقت نفسه، يهدف هذا المشروع إلى اطلاق الإمكانات المعرفية لكل من هذه المجالات لتحريرها أشكالها المقصورة على فئة معينة. أراد فلاسفة التنوير الاستفادة من هذا التراكم من الثقافة المتخصصة لإثراء الحياة اليومية، بمعنى، تنظيم عقلاني للحياة الاجتماعية اليومية".[7] بالنسبة لأبطالها، تتبنى ما بعد الحداثة موقفا حاسما تجاه الحداثة عن طريق النقد الصارم لبعض الافتراضات الهامة للإنسانية التي ظلت سليمة في الحداثة، والإيمان بالعقل البشري كونه مركزيا.                    
        وثمة نقطة هامة هنا هي اعتماد الأفكار الرئيسية لما بعد البنيوية الفرنسية من قبل الفكر ما بعد الحداثي. إن التأثير الهائل لما بعد البنيوية على الفكر المعاصر يمكن أن يلاحظ من الطريقة التي شككت فيها ما بعد البنيوية بالافتراضات الأساسية للتقاليد الإنسانية مثل الاعتقاد بالعقل البشري، والذات الإنسانية المستقرة، والاعتقاد بالتحرر من خلال التقدم، وحياد الخطاب اللغوي. وعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة بدأت تناقش بشكل مستقل في أمريكا عندما حاول نقاد مثل إيهاب حسن أن ينظروا لها دون ربطها بما بعد البنيوية، ولكن بعد وقت قصير جدا حدث خلط افتراضي بين الاثنين. كما يقول هال فوستر:
" من الصعب تصور ما بعد الحداثة دون النظرية القارية، البنيوية وما بعد البنيوية على وجه الخصوص "[8]. فالتأثير الهائل لكتاب القرن التاسع عشر وأوائل العشرين مثل فرويد وماركس ونيتشه قد خلخل بالفعل أفكارا راسخة في التقاليد الإنسانية. وما فعله كتاب ما بعد البنيوية هو مشكلة أكثر جذرية لهذه المفاهيم مع رؤى جديدة وأدوات ادراكية. ومن الجدير بالذكر هنا أن نقول إنه ينظر لما بعد البنيوية، في جوهرها، بوصفها مواصلة المشاريع الفلسفية لمفكرين مثل نيتشه وهايدغر. استند دريدا وفوكو، على وجه الخصوص، إلى حد كبير على رؤى هؤلاء المفكرين. كما أن نقاد ما بعد الحداثة يعودون بأصولها إلى نيتشه وهايدغر.
        يلاحظ إيهاب حسن، على سبيل المثال، في ( جذور الفكر ما بعد الحداثي) : "تحدت منظورات نيتشه الراديكالية، وليس مجرد شكوكه، الأسس التي سعت الفلسفة، من أفلاطون إلى هيغل، إلى بناءها. لم تعد الطبيعة واللغة والعقل تنسجم مع /أو تحدد تخطيطات الرمز السيادي[9]. وبالمثل، لاحظ بيست وكيلنر أن هجوم نيتشه على الأسس القاطعة للفلسفة الغربية قد وفر المبادئ النظرية لانتقادات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة:
"هاجم [نيتشه] المفاهيم الفلسفية للذات، والتمثيل، والسببية، والحقيقة، والقيمة، والنظام، لتحل التوجهات المنطورية محل محل الفلسفة الغربية حيث لا توجد حقائق، فقط التفسيرات، ولا حقائق موضوعية، فقط تراكيب الأفراد أو الجماعات المختلفة".[10]
        ترى باتريشيا واو أن نقد هايدغر للافتراض الديكارتي الذي يقول بالانقسام الراديكالي بين الذات المعرفي والكائن الخامل للمعرفة أثر كثيرا على ما بعد الحداثة:
"منذ عمله الرئيسي الأول، (الوجود والزمن،1927) وبإصرارا أكبر في مقالاته اللاحقة التي جمعت في(السؤال المتعلق بالتكنولوجيا أو الشعر، اللغة، والفكر) طور هيدغر نقدا للديكارتية بوصفها المنهجية الحداثية التأسيسية: ورأى أنه ثمرة العنف الغربي وغير كاف كأساس للمعرفة. بالنسبة إلى هايدجر، فإن الافتراض الديكارتي للانقسام الجذري بين الذات العارفة والكائن الخامل أدى إلى عالم يصبح فيه التفوق المستقل للعالم نموذجا وأرضا لكل الوجود. فبدلا من أن نتعامل مع العالم كنسيج نأتي إليه، نلاحظ العالم كجسد مادة خامل يتم التلاعب به من خلال سلسلة من الثنائيات الذي ولدها الانقسام بين الذات والكائن (العقل / الجسم، الروح / المادة، العقل / العاطفة، الذكورة / الأنوثة)[11].
        بلغت هذه الأفكار المقلقة ذروتها في أعمال ليوتار ودريدا وفوكو وبارث ولاكان وكريستيفا وغيرها. يحاول ليوتار في كتابه (حالة ما بعد الحداثة تقرير عن المعرفة) تحديد روح العصر من حيث أنها تتميز بفقدان الاعتقاد بجميع السرديات الكبرى والفلسفات الشمولية التي تشكل الوصفات السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية. تدعي الروايات الكبرى معرفة الحقيقة، وبالتالي تنسب لنفسها أسباب الشرعية. وهي تشمل الماركسية والمسيحية ومشروع التنوير، وكلها فقدت مصداقيتها كحقائق عالمية. بالنسبة ليوتار، يقدم مصطلح فيتجنشتاين "ألعاب اللغة" بديلا أفضل، وهو السرديات الصغرى التي تعمل على أسس أدائية وعلى نطاق أصغر. تشظت التجربة البشرية إلى أدوار محلية عديدة، إلى "ألعاب لغوية" مختلفة، ولكل منها سياقات خاصة وقواعد للتحكم في الإجراءات. وقد أثبت كتاب ليوتار أن شرط ما بعد الحداثة سيكون التعددية وعدم التجانس والأداء مبادئ لشرعية للمعرفة. وبالتالي، فإن حالة ما بعد الحداثة تتميز بمشكلة جميع المعارف. يمكن القول بتوظيف المصطلحات الفلسفية التقليدية، إن ما بعد الحداثة هي نقد شامل لكل من الذاتية والموضوعية. والنقطة المهمة، مع ذلك، هي أن هذا النقد يستمد قوته إلى حد كبير من رؤى نقدية مقدمة من ما بعد البنيوية، وبالتالي يطرح أولوية اللغة في ممارساته النقدية. كان الفكر الغربي التقليدي يقوم على مفهوم الذات البشرية التي هي شرط لإمكانية كل المعرفة.
        وفر كوجيتو ديكارت الأساس لفكرة الذات الانسانية العقلانية، المكتفية ذاتيا وذات الكفاءة العالية القادرة على التوصل إلى حقائق إبستمولوجية قاطعة عن طريق التحقيق العقلاني. وخلافا لذلك، يخلص فكر ما بعد الحداثة إلى أن الذات البشرية مكونة في حد ذاتها من شبكة معقدة من العوامل الثقافية واللغوية التي تسبقها. ويمكن النظر إلى هذه الفكرة المتعلقة بالذات البشرية بوصفها نقطة الانطلاق في أعمال ماركس وفرويد ونيتشه، وكلهم تحدى مفاهيم الذات الوحدوية والمستقرة والمستقلة. وكان لويس ألتوسير من أوائل المنظرين الذين استقوا من هذه النظريات حين قال إن "الأيديولوجية تستجوب/ تستدمج الأفراد كذوات"، و"لها وظيفة تشكيل أفراد ملموسين كذوات". في الواقع، فإن تفسير ألتوسير لأفكار ماركس حول الذوات البشرية ملهم واستفزازي:
"سحب [ماركس] الفئات الفلسفية للذات ... الخ من جميع المجالات التي كانت تتولى السيطرة فيها. ليس فقط من الاقتصاد السياسي (رفض أسطورة الانسان الاقتصادي homo economicus، الفرد مع كليات واحتياجات محددة كذات للاقتصاد الكلاسيكي). ليس فقط من التاريخ (رفض الذرية الاجتماعية والمثالية الأخلاقية السياسية). ليس فقط من الأخلاق (رفض فكرة الأخلاقيات كانطية). ولكن أيضا من الفلسفة نفسها: لان مادية ماركس تقصي تجريبية الذات (وعكسها: الذات المتعالية)[12]. تشير تصريحات ألثوسر إلى أن إحدى مساهمات ماركس الهامة في الفلسفة تكمن في تحديه للمفهوم التقليدي للذات البشرية.
        ومع ذلك، فإن ما بعد البنيوي الأكثر تأثيرا في تحدي مفهوم الذات الموحدة هو ميشيل فوكو، الذي يتم الاحتجاج به باستمرار في المناقشات حول ما بعد الحداثة. يقول لويس ماكناي: "يهدف عمل فوكو كله إلى كسر هيمنة الذات ذاتية الانعكاس والموحدة والعقلانية على مركز الفكر من أجل إفساح المجال لطرق التفكير والوجود الأخرى "[13]. إن مفهوم "الأركيولوجيا " الذي يستخدمه فوكو لنقد التحليل التاريخي التقليدي مستمد من فكرته بأن الذات البشرية ليست في صلب العملية التاريخية. ويوضح ماك ناي : "يؤكد فوكو أنه لا يوجد أي ذات قبل الخطاب يمكن تحديدها كمصدر للمعنى، بل أن فكرة الذات الموحدة وهم نشأ عن طريق قواعد هيكلية تحكم التشكيلات الخطابية. إن تقنية الأركيولوجيا - الكشف عن هذه الهياكل الكامنة والعميقة المستوى التي تشكل شرط إمكانية كل الفكر والكلام - تمثل هجوما قويا على ذاتانية subjectivism المنهجيات الفينومينولوجية والبايوغرافية لتاريخ الفكر"[14].
يصف فوكو منهجه الاركيولوجي:" يفرد التحليل الأركيولوجي ويصف التشكيلات الخطابية... بعيدا عن الرغبة في الكشف عن الأشكال العامة، لا تحاول الأركيولوجيا تحديد تشكيلات معينة"[15]. وهذا النهج في الواقع هو محاولة للكشف عن العيوب المتأصلة في النهج التاريخي التقليدي الذي يفترض نوعا من الاستمرارية التاريخية العامة مع الماضي. وفي مقابل ذلك، تصف الاركيولوجيا كيف تُشكل مفاهيم المعرفة في تشكيلات خطابية محددة، وكيف يمكن أن تخلق هذه الخطابات الذاتية البشرية نفسها. وبالتالي، فلا وجود لذات سيادية تعمل قبل الخطاب ومستقلة عنه.
        يوظف فوكو مفهوما آخرا يسميه الجينيالوجيا لنقد المفهوم الإنساني الليبرالي للذات السيادية. وهو يصف مشروعه على النحو التالي: "يجب على المرء أن يستغني عن الذات التأسيسية، أن يتخلص من الذات نفسها، من أجل التوصل إلى تحليل يمكن أن يفسر تكوين الذات في إطار تاريخي. وهذا ما أود أن أسميه الجينيالوجيا، أي شكل من أشكال التاريخ الذي يمكن أن يفسر تكوين خطابات المعرفة، ومجالات الأشياء، وما إلى ذلك دون الحاجة إلى الإشارة إلى الذات التي إما أن تكون متعالية فيما يتعلق بمجال الأحداث أو أنها تعمل في رتابتها الفارغة على مدار التاريخ"[16]. وتستند أطروحة فوكو نفسها على تحقيق أكثر صرامة للعملية الاجتماعية لتشكيل الذات التي هي موقع علاقات السلطة المعقدة. ويذكر فوكو موقفه بعبارات مؤكدة: إذا كان ثمة نهج أرفضه... هو ذلك... الذي يعطي أولوية مطلقة للذات الراصدة، الذي يعزو دورا تأسيسيا إلى الفعل، الذي يضع وجهة نظره الخاصة في أصل كل تاريخية - والذي، باختصار، يؤدي إلى وعي متعال. ويبدو لي أن التحليل التاريخي للخطاب العلمي ينبغي أن يكون، في آخر المطاف، خاضعا لا لنظرية الذات العارفة، بل لنظرية الممارسة الخطابية"[17].
        جاء  التأثير الآخر على فكرة ما بعد الحداثة من الذاتية من جاك لاكان، المنظر الفرنسي ما بعد البنيوي. اكشف لاكان بناءالذاتية عن طريق تحليل الهياكل اللغوية والإيديولوجية التي تنظم كلا اللا وعي والوعي عند البشر .
يقدم نموذج لاكان نقدا للمفهوم الإنساني للذات القائمة قبل/ والمستقلة عن الخطاب اللغوي. بالنسبة لاكان، يتم جلب الذات إلى الوجود من خلال عملية الدلالة. إن مدخل الإنسان إلى النظام الاجتماعي من خلال اللغة هو الذي يحدد تصوره لنفسه وواقعه. وبعبارة أخرى، يعود وجود الذات الانسانية ككيان اجتماعي، إلى النظام التفاضلي للغة الذي يسبقها ويحدد تصورها. يؤكد لاكان، مثل فوكو، على دور "الآخر" في عملية بناء الذاتية. يكتسب البشر دائمامفاهيم عن أنفسهم من حيث العلاقة بالآخرين والأفراد والأحداث على حد سواء، وبالتالي فإن الذات يحمل في ذاته حالة الفقد. ومن خلال اكتساب اللغة، يجادل لاكان، تدخل الذات البشرية في الترتيب الرمزي حيث يتم اختزالها إلى الدال الفارغ في مجال "الآخر".
        يوضح ليوتار، موقف ما بعد الحداثة حول الذات، يقول الذات لا تعني الكثير، ولكن كل نفس تمثل جزيرة. كل نفس موجود في نسيج من العلاقات التي أصبحت الآن معقدة ومتحركة أكثر من أي وقت مضى. الشخص، شابا أو رجلا أو امرأة، غنيا أو فقيرا، يتموضع دائما في نقاط "عقدية لدوائر اتصال محددة، مهما كانت صغيرة"[18].
        تقتبس ليندا هوتشون في (شعرية ما بعد الحداثة: التاريخ، النظرية، الخيال) من عبارات بعض المنظرين المهمين الذين كانت أفكارهم حول الذاتية الانسانية ذات أهمية حيوية لفكر ما بعد الحداثة. تنقل هتشيون عن إميل بنفينيست:
"اللغة هي إمكانية الذاتية لأنها تحتوي دائما على أشكال لغوية مناسبة للتعبير عن الذاتية، ويحرض الخطاب ظهور الذاتية لأنه يتكون من حالات منفصلة "[19].
       وتنقل أيضا ملاحظة أخرى من بنفينيست: "في ومن خلال اللغة يشكل الإنسان نفسه كذات، لأن اللغة وحدها تضع مفهوم "الايجو " في الواقع، في واقعها[20]. وتصف هوتشون الآثار المترتبة على هذه الأفكار :
"إذا كان الذات الناطقة تتكون في اللغة وباللغة، فلا يمكن أن تكون مستقلة بالكامل، وتتحكم في ذاتها، لان خطاب مقيد من خلال قواعد اللغة ومفتوح على دلالات عديدة لشفرات ثقافية مجهولة"[21].
        يرتبط نقد المعرفة الموضوعية ارتباطا وثيقا بالنقد الذي نوقش أعلاه عن الموقف الإنساني من الذاتية، وهو شاغل رئيسي آخر فيما بعد الحداثة. ظل افتراض المدارس الفلسفية التقليدية لإمكانية المعرفة الموضوعية أساس الواقعية في الفن. قدم مفكرو ما بعد الحداثة نقدا جذريا لهذه الأفكار في آرائهم حول الكيفية التي ترتبط بها المعرفة دائما بتواطؤ أساسي مع عوامل مثل السلطة والوضعية والنصية.
        يعد دريدا وفوكو المنافحان الرئيسيان عن هذه الأفكار في مشاريعهما النقدية حيث يوضحان كيف أن مفهوم المعرفة الموضوعية يستند إلى أرضية واهية. وقد استخدم كلاهما أساليبهما النقدية لنقد مفاهيمنا الراسخة حول الماضي وتوافره من خلال النصوص التاريخية. وتبين أعمالهم عدم صلاحية فكرة الحصول على معرفة موضوعية دون وسائط عن الماضي، لأن الماضي متاح لنا فقط من خلال النصوص والنصوص هي ممارسات خطابية. لكن من المهم أن نتذكر أن ما بعد الحداثة لا ترفض الماضي، كما أنها لا تقول أن معرفة الماضي غير ممكنة، ولكن كل المعرفة عنه نصية ومتاحة في شكل سرديات.
        يوظف فوكو، كما سبق مناقشته،  المناهج  الجديدة التي يسميها "الأركيولوجيا " و "الجينيالوجيا" لإثبات العيوب الكامنة في الفكر التاريخي التقليدي. في تحليل فوكو، لا توجد لحظات أصل ولا تحركات قصدية في التدفق التاريخي. وبدلا من ذلك، يكتشف تحليله التشتت والتفاوت والفرق التي غالبا ما يستبعدها الفكر التاريخي التقليدي. يكشف فوكو في مقالته "نيتشه، الجينيالوجيا والتاريخ" عن استخدامه لبعض رؤى نيتشه للكشف عن ميل الفكر التاريخي التقليدي لبناء جوهر الأحداث التاريخية ومن ثم زعم اكتشافها أو احيائها. وخلافا لذلك، فإن الأسلوب الذي يستخدمه فوكو يسعى جاهدا لتحديد الانقطاعات ونقاط الانحلال في ما يبدو أنه استمرارية الماضي، ويحاول الحفاظ على التشتت المتأصل في وقوع الأحداث. يصف باري سمارت باراديم فوكو الجينيالوجي بهذه المصطلحات: "وعلى سبيل الموجز نلاحظ أن الجينيالوجيا تتعارض مع التحليل التاريخي التقليدي؛ وهدفها هو تسجيل المتفرد من الأحداث. أن تكشف ليس عن نقطة منشأ تحت الوحدة المبنية ولكن عن تشتت، وتفاوت واختلاف، وممارسات الهيمنة. وهكذا فإن الجينيالوجيا مرادف لمهمة ايجاد تفسيرات بلا حدود لأنه لا يوجد أي معنى خفي أو أساس تحت الأشياء، مجرد طبقات من التفسيرات التي من خلال التراكم قد حققت شكل الحقيقة والأدلة الذاتية والضرورة والتي، بدورها، هدف الجينيالوجيا لاختراقها"[22].
        تؤكد الجينيالوجيا للفكر ما بعد الحداثي مفهوم المنظورية في المعرفة وخاصة المعرفة التاريخية. وهذا يذكرنا برفض نيتشه لمنظور واحد ونهائي للمعرفة. ويخلص فوكو، متعقبا نيتشه، إلى أن ما نسميه الحقيقة هو نتاج عوامل لا تحصى تقع خارج موضوع المعرفة، ومن ثم فإنها بناء أو تركيب. مفهوم فوكو عن الجينيالوجيا هو المنطلق لفهم فكرة أخرى مؤثرة من العلاقة بين المعرفة والسلطة لأنه أثناء التحقيق في العلاقة المعقدة بين الاثنين، درس فوكو إنتاج الأفكار الابستمولوجية داخل شبكة علاقات السلطة المعرفة. وبالنسبة لفوكو، فإن ما يمر عادة بالمعارف الموضوعية هو في الواقع الخطابات التي تتأثر بآليات السلطة ذات الطبيعة المعقدة. والحالة نفسها لإمكانية المعرفة مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بعمليات السلطة الموجودة في كل مكان. ويذكر فوكو أن "السلطة شيدت وتعمل على أساس صلاحيات معينة، قضايا لا حصر لها، وتأثيرات سلطوية لا حصر لها ".
        تمثل تفكيكية دريدا طعنا آخر في الفكر التاريخي التقليدي. أدت إستراتيجيات ديريدا النقدية إلى تغيير جذري في وجهات النظر حول الخطابات النصية وإحالتها إلى أحداث. أفكار دريدا حول النصية هي بالتحديد ما أثار إشكالية المفاهيم التقليدية حول التاريخ وقيمته فيما يتعلق بالحقيقة. بالنسبة إلى دريدا، فإن التاريخ هو نص والنص في حد ذاته هو تكوين(تركيب) الذي ينتج عنه المعنى دائما بوساطة عملية الدلالة التي لا تصل أبدا إلى ما يسميه "االمدلول المتعالي". وقد لاحظ نيكولاس رويل بحق أن "تأثيرات عمل دريدا على التأريخ ضخمة جدا "[23].
اعترفت النظرية الأدبية المعاصرة بتحليل دريدا الإدراكي للكتابة وآثار هذا التحليل. والنقد نفسه ينطبق على التأريخ. يفسر رويل آثار تفكيك التأريخ في هذه المصطلحات:
"ولكي نقول إن التاريخ يتحدد بشكل جذري عن طريق الكتابة، يعني أنه يتكون من خلال المنطق العام أو غير المحدود للآثار والبقايا ـــ عام وغير محدود لأن هذه الآثار والبقايا، هذا العمل من الآثار والبقايا، هو نفسه لا وجود له وليس أصيلا : عدا عن أنها أيضا تشكلت من آثار وبقايا"[24]. وبالتالي، بالنسبة لدريدا، فإن النصية هي حالة التاريخ والنصية نفسها تحمل معها إمكانية نقدها الخاص. يجادل دريدا بأنه لا يمكن أن يكون هناك معنى متأصل في النص دون سياق والسياق نفسه غير محدود. حالة كونه "غير محدود" هي بالتحديد ما يولد اختلافا دائما في المعنى. وبتطبيق هذه الفكرة على التاريخ، نرى أن التاريخ لا يمكن أبدا أن يفلت من كونه نصا ينطوي إنتاجه على عملية بناء المعنى باللغة. وبدلا من التقاط شيء "معطى ومعين "، فإن ممارسة الكتابة ذاتها تعني عملية اختيار وتوزيع وسيقنة ومزج وإعادة تركيب وربط وفصل وتمكين "الماضي السلس" في نهاية المطاف بمعان بحد ذاتها وليس غيرها.
        لذلك، لا يمكن للتاريخ أن يدعي المعرفة الموضوعية والحيادية فيما يتعلق بالماضي، لأن كل ما يعتمد عليه المؤرخ في عمله التأريخي، بما في ذلك نفسه هو نص. المؤرخون، مهما حاولو أن يكوناو موضوعين، لا يمكنهم أبدا الهروب من حالة من التواجد في شبكة من الخطابات. لا توجد نقطة أرخميدية يمكن من خلالها إجراء دراسة موضوعية للماضي. هناك فقط بعض الأحداث التي تجد مكانا في السجلات التاريخية وتصبح "حقائق". التاريخ نفسه مخترق من قبل القوى المؤسسية التي تعمل على تعزيز بعض النسخ المفضلة لاستبعاد أُخرى.
وفي السنوات الأخيرة، تلقت هذه الأفكار زخما جديدا على يد بعض الكتاب مثل هايدن وايت وريتشارد إيفانز وفرانك أنكرسميت ودومينيك لاكابرا. وقد وجدت دراساتهم التحليلية، على الرغم من مقاومة علماء التاريخ التقليديين الشديدة ، الآن موطئ قدم قوي في الأوساط الأكاديمية، ولم يعد من الممكن تجاهلها بوصفه مجرد "تخريب فكري". وبالتالي، فإن موقف ما بعد الحداثة من التاريخ ينافس جميع نظم التفكير التي تدعي أنها تستمد قوتها من التاريخ، والماركسية هي الهدف. وهذا يستدعي معالجة التهم الرئيسية التي وجهت إلى ما بعد الحداثة من قبل منتقديها، ومعظمهم من الماركسيين والانسانيين الليبراليين. يقال إن ما بعد الحداثة تؤيد نفي التاريخ والإحالة، وهي في نهاية المطاف متواطئة مع/ بل وتؤكد النزعة الاستهلاكية المعاصرة.
        يتهم هؤلاء النقاد ما بعد الحداثة بالتهرب إلى النصية على حساب الانخراط بالواقع. ويقال إن ما بعد الحداثة مستنيرة بإيديولوجية الحتمية اللغوية التي تختزل الواقع إلى مدونات لغوية. يقدم تشارلز نيومان مثالا على ذلك: "[ما بعد الحداثة] مكرسة بشراسة لسلامة التعبير اللفظي المستقل، وتقف بكامل قواها ضد الضغوط من خارج الأدب التي أحاطت دائما التخيل بوصفه جانرا. وهي تعترف أن مواردها الأساسية، التي لا يمكنها التنازل عنها، ودون اعتذار، أدبية. قبل كل شيء، هذه الكتابة معنية باللغة، إن لم يكن بوصفها تخلق الواقع، فلأنها المشكل النهائي للوعي. فهي لا تتطرق أبدا إلى واقع خارجي مهيمن، وبالتالي فإنها تميل في نهاية المطاف إلى اختزال جميع الفروق إلى لغوية، مستمثلة الذاتية الزمنية والتاريخية على السواء. إنها جمالية جذريا، غير سياسية إلى حد كبير وغير تاريخية، وبلا قيمة في علاقتها حتى مع أكثر الأمور رعبا[25].
        ولا بد من القول بأن هذا الانتقاد قد أثاره ادعاءات بعض المنظرين الذين يساوون ما بعد الحداثة مع الاختفاء النهائي للواقع. على سبيل المثال، كان جان بودريلار مرتبطا بهذا النوع من النهج في ما بعد الحداثة. أطروحته هي أن العصور المعاصرة تتميز بظهور جميع العلامات التي تؤدي إلى حالة تستبدل فيها المحاكاة الواقع الأصلي وتتقلص الواقعية في صورة الواقعية المفرطة: "لم يعد هناك أي مسافة نقدية وتأملية بين الحقيقي والعقلاني. لم يعد هناك حتى أي ابراز للنماذج(models )في الواقع... ولكن ما يظهر في الميدان، وهنا والآن هو الحقيقي في صورة نموذج. دارة كهربائية رائعة : الحقيقي هو الواقعي المفرط. ليس واقعا ولا انموذجا : ولكنه مفرط في حقيقته. والواقع المفرط هو إلغاء الحقيقي ليس عن طريق التمييز العنيف، ولكن من خلال افتراضه، والارتفاع به إلى قوة النموذج[26].
في كتابه "أوهام النهاية" (1994)، يقول بودريلار أنه مع تسارع التغيير والتحول خلال الحداثة وصلنا الآن إلى نقطة تتحقق فيها الأمور بسرعة كبيرة بحيث تكون منطقية:
"وتسارع الحداثة والتكنولوجيا والأحداث ووسائل الإعلام وجميع التبادلات الاقتصادية والسياسية والجنسية - دفعنا إلى "الهروب من السرعة"، ونتيجة لذلك فقد تحررنا من المجال المرجعي للحقيقة والتاريخ" [27].
        من الأهمية بمكان أن نفهم أن طروحات ما بعد الحداثة عن الوضع الابستمولوجي للتاريخ لا ترقى إلى رفض الماضي، كما أنها لا تقول أن معرفة الماضي غير ممكنة، ولكن كل المعرفة عنه نصية ومتاحة في شكل سرديات.
        ومع ذلك، يعتقد سيمون كريتشلي أن غرض دريدا ليس اختزال عالم الكائنات الحقيقية والأشياء والأحداث إلى خطابات، إلى مجرد نصوص، مما يعني رفض وجودها تماما. وبشرح مفهوم ديريدا للنص، يقول كريتشلي إن هذه الفكرة :" لا ترغب في تحويل العالم إلى مكتبة واسعة، كما أنها لا ترغب في قطع الإحالة إلى بعض "المجالات الاضافية خارج النص". التفكيك ليس ببليوفيليا. (النص بحد ذاته Text qua text) كما روج له دريدا بوصفه كل "التاريخ ـــ الحقيقي ـــ للعالم، وهذا يقال من أجل التأكيد على حقيقة أن كلمة "النص" لا تعلق إلاحالة "إلى التاريخ، إلى العالم، إلى الواقع، إلى الوجود وبالتحديد إلى الآخر ". كل ما في الأمر أنها تظهر في خبرة ليست خبرة الحاضر الفورية - النص أو السياق ليس حضورا، وإنما تجربة شبكة من الآثار المتفاضلة دلاليا والتي تكون المعنى. تتعقب الخبرة أو الفكرة حركة مستمرة من التفسيرات في سياقات لا حدود لها.[28]
       يوضح دريدا نفسه موقفه من هذه المصطلحات: "ما أسميته "النص" يعني جميع الهياكل التي تسمى "الحقيقية"، "الاقتصادية"، "التاريخية"، "الاجتماعية المؤسسية"، باختصار جميع المراجع المحتملة. وهناك طريقة أخرى للتذكير مرة أخرى بأنه "لا يوجد شيء خارج النص". وهذا لا يعني أن جميع الاحالات معلقة أو منكرة أو مقيدة في كتاب، كما ادعى الناس، أو كانوا ساذجين بما فيه الكفاية للاعتقاد واتهموني بالاعتقاد بذلك. ولكن هذا يعني أن كل مرجعية وكل حقيقة لها هيكلية الأثر التفاضلي وأنه لا يمكن للمرء أن يشير إلى هذا "الحقيقي" إلا في تجربة تفسيرية. هذا الأخير لا يعطي معنى ولا يفترضه إلا في حركة الإحالة التفاضلية. هذا كل شيء".[29]
       وتوضح المناقشة المذكورة أعلاه بعض المفاهيم الخاطئة الشائعة حول ما بعد الحداثة، وبعضها أنها ترفض مرجعية اللغة من خلال اختزال كل شيء إلى مفهوم النص، وتعتبر التاريخ على أنه ليس أكثر من بناء خيالي والذات البشرية على أنه مجرد تأثير للسلطة. إن هذه الأفكار، التي تفهم في سياقها الصحيح، لا تعني أي إضعاف للتفكير النقدي ولكنها تشير إلى موقف استجواب ما بعد الحداثة الصارم.
الهوامش والمراجع.




تعليقات

المشاركات الشائعة