فوكو: الأركيولوجيا والانقطاعات

الأركيولوجيا والانقطاعات
أماني أبو رحمة

وظف فوكو مصطلح الأركيولوجيا لتمييز نهجه التاريخي عن: أولا، الهيرمنيوطيقا التي تسعى إلى الحقيقة العميقة خلف الخطاب أو توضيح سكيمات المعنى الذاتي. فالسطح ــــ العمق والنماذج السببية التي وظفتها النظرية الحداثية انقلبت لصالح الوصف ما بعد الحداثي لسطوح الخطابات المنقطعة وغير المرتبطة بروابط سببية. وثانيا، عن "مجال تاريخ الأفكار المشوش، وقليل الترتيب، وسيئ التنظيم ". يرفض فوكو صيغة الكتابة المثالية والإنسانوية التي تتتبع تطورا مستمرا في الفكر بمصطلحات توارث المعتقدات والأعراف أو الإنتاج الواعي للذوات. وضد هذا النهج، تحاول الأركيولوجيا تحديد شروط إمكانية المعرفة والقواعد التي تحدد تشكيل العقلانية الخطابية التي تعمل تحت مستوى القصدية أو المحتوى الثيمي. يقول فوكو: "قواعد التشكيل هذه، التي لم تُشكل مطلقا بارادتها أو من تلقاء نفسها، ولا يمكن العثور عليها إلا في النظريات والمفاهيم والأشياء ومواضيع الدراسات المختلفة على نطاق واسع، هي التي حاولت أن أكشف عنها، من خلال عزل مستوى أطلقت عليه ... الأركيولوجي بوصفه موضعها المحدد".
على عكس البنيوية، التي توافقت معها بعض تحليلات فوكو المبكرة، فإن هذه القواعد ليست عالمية وغير قابلة للتغيير، أو راسخة في بنية العقل، ولكنها تتغير تاريخيا كما أنها مخصصة لمجالات خطابية معينة. وتشكل هذه القواعد "بداهة تاريخية "لكل المعرفة والإدراك والحقيقة. إنها " شفرات الثقافة الأساسية" التي تشيد "الابستيم" أو تشكيلات المعرفة، والتي تحدد الترتيبات الامبيرية(التجريبية) والممارسات الإجتماعية في حقبة تاريخية معينة.
 في (تاريخ الجنون) [الذي صدر بالفرنسية عام (1961) وترجم الى الانجليزية عام (1973)]، عمله المهم الأول، على سبيل المثال، يحاول فوكو أن يكتب "أركيولوجيا ذلك الصمت" حيث أُدرك  الجنون تاريخيا بوصفه الآخر بالنسبة للعقل. يعود فوكو إلى الانقطاع الذي ميز السجن الكبير عام 1656 حين قطع العقل الحداثي علاقاته واتصالاته مع الجنون وحاول أن "يحتمي من الخطر الخفي للاعقل" عبر خطابات الاقصاء ومؤسسات الحبس والحجز. شيدت خطابات الكلاسيكية والحداثة مقابلات بين العقل والجنون، والطبيعي وغير الطبيعي التي عملت على تعزيز معايير العقل والحقيقة.
في كتابه التالي(ولادة العيادة: اركولوجيا الادراك الطبي،1975 و1963)، يحلل فوكو الانحراف من طب ما قبل الحداثة المرتكز على التكهنات إلى الطب الحداثي الأمبيري المتجذر في عقلانية النظرة العلمية. رافضا التاريخ المرتكز على " وعي الأكلينيكيين"، يتعقب فوكو دراسة بنيوية للخطاب الذي يسعى إلى تحديد " شروط امكانية الخبرة الطبية في أزمنة الحداثة" والظروف التاريخية حيث نشأ الخطاب العلمي عن الفرد.
 ثم في (الكلمات والأشياء: أركولوجيا العلوم  الإنسانية ،1973 و 1966) يصف فوكو نشأة العلوم  الإنسانية. هنا يفصل فوكو القواعد والافتراضات التحتية وإجراءات التنظيم  في عصر النهضة والعصر الكلاسيكي والعصور الحداثية، مع التركيز على التحولات في علوم الحياة والعمل واللغة.
في هذا التفصيل، يكشف فوكو ولادة " الإنسان" بوصفه بناء استطراديا (خطابيا). يظهر "الإنسان" ـــ هدف الفلسفة كما العلوم  الإنسانية (علم النفس وعلم الاجتماع والأدب)ـــ عندما انحسر مجال التمثيل الكلاسيكي وأصبح  الإنسان لأول مرة ليس فقط ذاتا تمثيلة منعزلة، ولكن أيضا هدف التحقيق العلمي الحداثي، كائنا محدودا ومحددا تاريخيا لدراسته من حيث العمل والمعيشة والقدرة على الكلام. وبانطوائها في حقل جديد من المؤقتية والمحدودية، أصبحت حالة الذات بوصفها سيدة المعرفة، مهددة ولكن تم الحفاظ على سيادتها من خلال إعادة تكوينها في شكل تجاوزي متعال. يصف فوكو كيف شيدت الفلسفة الحداثية  الإنسان بوصفه كائن وذات المعرفة - على حد سواء - ضمن سلسلة من "الثنائيات " غير المستقرة: ثنائية الكوجيتو(الفكر) / واللا فكر حيث يُحدد  الإنسان بقوة خارجية ولكنه يدرك هذا التحديد وله القدرة على تحرير نفسه منه ؛ وثنائية انحسار وعودة الأصل حيث التاريخ يسبق  الإنسان ولكنه المصدر الفينومينولوجي الذي يتكشف منه التاريخ؛ وثنائية المتجاوز والتجريبي حيث  الإنسان يشكل ويتشكل بالعالم الخارجي معا، ويجد أُسسا آمنة للمعرفة عبر المسلمات أو التصنيفات القبلية (كانط) أو عبر اجراءات الرد أو الاختزال التي تسمح للوعي أن ينفي نفسه من العالم التجريبي (هوسرل). يحاول الفكر  الإنساني في كل من هذه الثنائيات استرداد استقلالية وأفضلية الذات المفكرة وأن يسيطر على كل ما هو آخر بالنسبة لها. يتلخص نقد فوكو الأولي للعلوم  الإنسانية في أنها مثل الفلسفة تقوم على محاولة مستحيلة للتوفيق بين أقطاب فكرية لا يمكن التوفيق بينها وطرح موضوع  الذات  الفاعلة التي تُشكِل.
ولكن هذا النقد لم يكتمل إلا في أعماله الجينيالوجية اللاحقة حين أصبح فوكو أكثر وضوحا بشأن التضمينات والتبعات السياسية للانسانية بوصفها الأساس الابستمولوجي لمجتمع الانضباط. تخلص (الكلمات والاشياء) بعد تحليل (ولادة  الإنسان) إلى توقع (موت  الإنسان) بوصفه الذات الابستمولوجية في الفضاء الابستيمي ما بعد الحداثي وما بعد الإنساني، حيث أُسقط  الإنسان مرة واحدة وبالكلية عن العرش وفُسر بوصفه نتيجة اللغة والرغبة واللاوعي. بدأ هذا التطور في القرن العشرين مع ظهور (العلوم المضادة) مثل التحليل النفسي واللغويات وعلم الأجناس والأركيولوجيا ذاتها تنتمي إلى هذا الفضاء. لا مكان هنا للكوجيتو السيادي أو الأساس المتعالي. وأصبحت الذات في هذه الابسمتية ظاهرة عارضة لقوى قبل شخصية. وأخيرا، في (أركيولوجيا المعرفة، 1971و 1972)، ييد فوكو النظر في مشروعه ومنهجه من أجل توضيح أفكاره وانتقاد بعض أخطائه الماضية. مستقيا من أعمال مؤرخين فرنسيين في تاريخ العلوم مثل باشلار وكانغلهم، يعلن فوكو أن "شكلا جديدا من التاريخ يحاول تطوير نظريته الخاصة". ومن داخل هذا الفضاء المفاهيمي الجديد، فإن الثيمات الحداثية عن التواصل، والغائية، والأصل، والشمولية، والذات لم تعد ذاتية الوضوح وسيتم التخلي عنها أو اعادة تركيبها. وخلافا للتأريخ الحداثي، لم يعد ينظر إلى الانقطاع باعتباره آفة السرد التاريخي ووصمة من حيث المبدأ. بدلا من ذلك، يتبنى فوكو الانقطاع كمفهوم عملي إيجابي. وهو يقابل مفهومه ما بعد الحداثي عن التاريخ العام بالمفهوم الحداثي للتاريخ الكلي الذي ينسبه لشخصيات مثل هيغل وماركس. يلخص فوكو الفرق بهذه الطريقة: يجمع التوصيف الكلي الشمولي جميع الظواهر حول مركز واحد ــ مبدأ، معنى، روح، وجهة نظر عالمية، شكلا كلياـــ ولكن التاريخ العام ـــ وعلى النقيض من ذلك ــــ ينشر مساحة من التشتت.
تتضمن أنواع الشمولية التي يرفضها فوكو: الشموليات الرأسية المكثفة مثل التاريخ والحضارة والحقبة الزمنية؛ كما ويرفض الشموليات الأفقية مثل المجتمع أو الفترة ؛ والمفاهيم  الإنسانية أو الأنثروبولوجية للذات المركزية. بالنسبة لفوكو، فإن التاريخ التطوري كالذي كتبه ماركس أو هيغل يقارب كلياته السردية بطريقة غير شرعية، من خلال بناء التجريدات التي تحجب أكثر مما تكشف. وتحت تلك التجريدات تجري علاقات متبادلة معقدة وتعددية ومتحولة لسلسلة من الخطابات الفردية غير المركزية، وغير القابلة للاختزال إلى قانون أو نموذج أو وحدة أو ترتيب رأسي واحد. يهدف فوكو إلى تفتيت الواحديات العظمى "ثم نرى ما إذا كان يمكن لنا اعادة تأكيد مشروعيتها وما إذا كان عليها أن تنتظم في مجموعات أخرى ". والنتيجة المحتملة لهذه التحركات غير الشمولية هو أن " أصبح المجال بأكمله حرا"ــ مجال التشكيلات الخطابية، ونظم التشتت المعقدة. وهكذا، ومثل التأريخ ما بعد الحداثي، فإن الأركيولوجيا " لا تمتلك تأثيرا توحيديا بل متعددا ومتباينا". ما يسمح للمؤرخ باكتشاف تعدد الخطابات في مجال المعرفة. يختلف نهج فوكو الاركيولوجي عن نهج منظرين مثل بودريار وليوتار أو دريدا بطريقتين. أولا، إن فوكو لا يحل جميع أشكال البنى والتماسك والوضوح إلى تدفقات دلالية لا نهاية لها. يحاول فوكو بعد أن مهد الأرضية، فهم ما هي أشكال الانتظام والعلاقات والاستمرارية والكليات التي كانت موجودة في الواقع. مهمة الاركيولوجيا ليست مجرد "تحقيق تعدديات من التواريخ المتجاورة و المستقلة عن بعضها البعض، ولكن أيضا " تحديد أي شكل من العلاقة يمكن وصفه شرعيا بين... سلسلة[ الاشياء] المختلفة".
وثانيا، خلافا لتنظيرات بودريار المروعة عن ما بعد الحداثية بوصفها قطيعة تامة مع الحداثة الصناعية والاقتصاد السياسي والعقل المرجعي، يوظف فوكو استخداما مؤهلا وحذرا لخطاب الانقطاع. وفي حين أنه يلائم هذا الخطاب للنيل من التفسير التقليدي للتاريخ بوصفه تراكما مستمرا للمعرفة أو تقدما تدريجيا للحقيقة أو العقل، ولكي يظهر التغيرات المفاجئة التي تحدث في تشكيلات المعرفة، إلا أنه يرفض تفسر عمله بوصفة (فلسفة الانقطاع) ببساطة. بدلا من ذلك، يدعي أنه يضخم أحيانا درجة الانقطاعات التاريخية "لأغراض بيداغوجية "، بمعنى لمواجهة هيمنة النظريات التقليدية عن التقدم التاريخي والاستمرارية.
يشير الانقطاع بالنسبة لفوكو الى أنه خلال الانتقال من حقبة تاريخية إلى أُخرى " لم تعد الأمور تُدرك أو توصف أو يعبر عنها، أو تخصص أو تصنف أو تعرف بالطريقة ذاتها".
فعند التحول من النهضة الى الابستيمة الكلاسيكية، على سبيل المثال " "توقف التفكير عن التحرك في عنصر التشابه. التشابه لم يعد شكلا من أشكال المعرفة ولكنه " خطأ"  سُخر منه بوصفه خيالا شعريا لعصر ما قبل العقل. ولكن لا يوجد قطيعة أو انقطاع جذري ينبت شيئا من العدم وينفي كل ما سبقه. لا تكون القطيعة ممكنة "إلا على أساس من القواعد التي تعمل بالفعل". يتبنى فوكو موقفا مماثلا لمواقف رايموند وليامز وفريدريك جيمسون، ويقول إن القطيعة لا تعني التغير المطلق، ولكن "إعادة توزيع الابسمتية [القبلية ]"، وإعادة تشكيل عناصرها، بحيث أنه على الرغم من وجود قواعد جديدة للتشكيل الخطابي تحول حدود وطبيعة المعرفة والحقيقة، الا أن هناك استمراريات مهمة أيضا. وبالتالي، فإن فوكو يوظف جدلية الاستمرارية والانقطاع. تشمل الانقطاعات التاريخية دائما بعض "التداخل والتفاعل والأصداء " بين القديم والجديد. في (الكلمات والأشياء)، على سبيل المثال، يؤكد فوكو على الاستمرارية بين الحداثة والابسمتية ما بعد الحداثية الناشئة، مثل استمرار أهمية إشكالية التمثيل في فضاء العلوم المضادة. وبالمثل، في أعماله عن الجنسانية، يصف فوكو الاستمرارية بين القرون الوسطى المسيحية والحداثة من حيث تكوين الفرد الذي تكون جنسانيته هي حقيقته العميقة. أيضا في عمله اللاحق، يسعى فوكو إلى تحديد " الخط الذي قد يربطنا مع التنوير".
كان (اركيولوجيا المعرفة ) آخر عمل لفوكو تم تحديده بشكل واضح بوصفه اركيولوجيا ويشير الكتاب إلى نهاية تركيزه على القواعد اللاوعية الخطاب والتحولات التاريخية داخل كل حقل خطابي. وقد أدى هذا المنظور بمنظرين مثل هابرماس وغروملي أن الاعتقاد خطأ أن أركيولوجيات فوكو تمنح "استقلالا كاملا" للخطاب على المؤسسات والممارسات الاجتماعية. هذا النقد لبدايات فوكو بوصفه مثاليا، لم يصمد طويلا أمام تركيزه لاحقا على الدعم المؤسساتي للخطاب في (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وأيضا يجد المرء اهتماما بجاهزيات الشرطة والمراقبة والانضباط  في (ولادة العيادة)، وتركيزا على "مادية" الخطاب (الذي يعرف ولو بشكل غامض) في (أركيولوجيا المعرفة). ومع ذلك، ليس هناك شك في أن اركيولوجيات فوكو تفضل تحليل النظرية والمعرفة على تحليل الممارسات والمؤسسات. في حين أن تركيز فوكو المحدود له تبرير فلسفي مشروع يتمثل في إعادة صياغة وجهات النظر التقليدية للتاريخ والسعي لتوضيح جوهري للخطاب من خلال قواعد لغوية غير محسوسة  أو مدركة من قبل الناس الفاعلين، إلا أن تحليلا أكثر ملاءمة يجب أن يركز بشكل مباشر على الممارسات والمؤسسات من أجل موضعة الخطاب ضمن السياق الاجتماعي والسياسي الكامل. ومن خلال تأثير نيتشه، أصبح هذا مشروع فوكو وعلامة تحوله إلى الجينيالوجيا واهتمامه الواضح بعلاقات السلطة وتأثيراتها.


تعليقات

المشاركات الشائعة