اللغة والتلوث والنقاء في (أحادية الآخر اللغوية)

اللغة والتلوث والنقاء في (أحادية الآخر اللغوية)
أماني أبو رحمة

اشتهر دريدا في نهاية الستينيات الماضية، مع نشر ثلاثة من أهم كتبه عام 1967. في تلك الفترة تحديدا ظهرت كتب لا تقل أهمية: (الكلمات والأشياء،1966) لفوكو؛ و(الاختلاف والتكرار،1968) لدولوز. من الصعب انكار أن المنشورات الفلسفية في تلك الحقبة تشير إلى أننا نعيش لحظة فلسفية تقارن بتلك التي ظهرت فيها المثالية الألمانية بداية القرن التاسع عشر.
أطلقت هيلين سيكسو على هذا الجيل من الفلاسفة الفرنسيين "غير القابلين للإفساد". وقد فسر دريدا في مقابلته الأخيرة مع الليموند (19آب،2004)، الأمر قائلا: " من خلال الكناية يمكنني أن أطلق على هذا النهج التعنت بل وحتى غير القابل للافساد، روح الكتابة والتفكير...، دون تنازل حتى للفلسفة، وعدم السماح للرأي العام ووسائل الإعلام أو أوهام تخويف القارئ أن تخيفنا أو تجبرنا على التبسيط أوالتراجع. ومن هنا كان الطعم الصارم للصقل، للمفارقة، وللأبوريا".
 اليوم، وأكثر من أي وقت مضى" يظل هذا الميل [للمفارقة والأبوريا] شرطا قبليا كما يقول دريدا؛ "كيف لنا أن نفهم هذا الشرط، وهذا الميل إلى" الصقل والمفارقة والأبوريا "؟
في مقالته (شريط آلة الكتابة، 1998) يفحص دريدا العلاقة بين الاعتراف والأرشيف. ولكن قبل أن يبدأ تحقيقه الذي يهتم أساسا بروسو، يقول: "دعونا نضع البنى الأساسية لسؤالنا في محلها". ويتابع " هل يمكننا ذلك؟ هل سيكون بإمكاننا يوما ما، وفي موقف واحد، أن نربط التفكير بالحدث مع التفكير بالآلة؟ هل سيكون بإمكاننا أن نفكر(إذا كان من الممكن أن يطلق عليه التفكير) في الوقت الواحد نفسه، بما يحدث (بما نسميه حدثا) والبرمجة المحسوبة للتكرار الآلي( الذي أطلقنا عليه الآلة). لذلك سيكون من الضروري في المستقبل(علما بأنه لن يكون هناك مستقبلا دون هذا الشرط) أن نفكر بالحدث والآلة بوصفهما مفهومين متوافقين بل وحتى غير ـ قابلين للانفصال. يظهر المفهومان اليوم بوصفهما متناقضين".
يبدو هاذان المفهومان متناقضين لأننا ندرك الحدث بوصفه شيئا متفردا وغير قابل للتكرار. هذا فضلا عن أن دريدا يربط هذا التفرد بالحياة أو المعيشة. يمر الكائن الحي بمشاعر وأحاسيس وهذه المشاعر الحسية (التعاطف الوجداني أو الشعور) يُنقش على مواد عضوية. تقود فكرة (النقش) إلى القطب الآخر. فالآلة التي تنقش أو تكتب تعتمد على التكرار," انها مقدرة لإعادة انتاج ، بالتدريج، وبدون عضو أو عضوانية ، الأوامر المتلقاة، بلا مبالاة. وفي حالة التخدير هذه ، فإنها ستتبع الأوامر أو البرنامج القابل للحساب من دون مشاعر أو تأثر ذاتي، مثل أوتوماتون غير مبال".
الطبيعة الميكانيكية للآلة غير الحية وغير العضوية ليست هي التلقائية المنسوبة للحياة العضوية. من السهل أن نلمح عدم التوافق بين المفهومين: التفرد العضوي الحي(الحدث) والعالمية غير العضوية الميتة (التكرار الميكانيكي). يرى دريدا إنه إذا كان بإمكاننا جعل المصطلحين متوافقين، فإنه "يمكننا الرهان ليس فقط (وأنا أصر على ليس فقط) على أننا سننتج منطقا جديدا، شكلا مفاهيميا لم نسمع به من قبل. في الحقيقة، وعلى خلفية، وفي أفق الاحتمالات الحالية، فإن هذا الرمز الجديد يشبه الوحش ".
تعلن وحشية هذه المفارقة بين الحدث والتكرار، ربما، نوعا آخر من التفكير، التفكير المستحيل: الحدث المستحيل ( يجب أن يكون هناك تشابه مع الماضي الذي يلغي تفرد الحدث) والحدث الوحيد الممكن (لأن أي حدث من أجل أن يكون الحدث جديرا بهذا الاسم يجب أن يكون متفردا ولا يشبه غيره). يختم دريدا هذه المناقشة بالقول :
"حتى لا نتخلى عن الحدث ولا عن الآلة، وحتى لا نخضع أيا منهما للآخر، ولا نرد أو نختزل أحدهما للآخر أيضا: هذا هو اهتمام الفكر الذي أبقى على عدد مــ(نا) يعملون على مدى العقود القليلة الماضية".
تشير(نا) إلى جيل دريدا من المفكرين: "غير القابلين للإفساد ". ما يحدده دريدا هنا هو مشروعا عاما يتكون من محاولات ادراك العلاقة بين التكرار الذي يشبه الآلة والتفرد غير القابل للاستبدال لا بوصفه علاقة خارجيات (الخارجية كما في مادتيّ ديكارت أو عالميّ افلاطون) ولا بوصفها علاقة مع متجانسات (أي شكل من الاختزالية سيكون كافيا هنا لإبراز العلاقة المتجانسة). بدلا من ذلك، فإن العلاقة هي علاقة تكون فيها العناصر داخلية بالنسبة لبعضها البعض وغير متجانسة في الوقت ذاته. ويشير المصطلح الدريدي الشهير  (الديفيرانس ) إلى هذه العلاقة حيث التكرار الآلي داخلي بالنسبة للتفرد غير القابل للاستبدال وفي الوقت ذاته يبقى العنصران غير متجانسين. وبالطبع فإن سكسو تقصد بكلمة "غير القابلين للافساد" أن ما كتبه جيل فلاسفة الستينيات الفرنسيين لن يُمحى أبدا وسيبقى جديدا ومثيرا على الدوام. سيبقى هذا الجيل نقيا. ولكن المصطلح يلائم دريدا على نحو خاص، لأن أفكاره تُعني بدقة بفكرة النقاء والتلوث. يعني التلوث عند دريدا أن التقابل أو التعارض يتكون من قطبين نقيين منفصليين بخط غير قابل للتقاسم وليس موحدا أبدا. وبعبارة أخرى، تعتقد الأوهام الافلاطونية واللاهوت المسيحي، أن هناك حالة نقية أصلية للوجود (لها ارتباط مباشر بالأشكال أو جنة عدن) والتي فسدت بالصدفة. على العكس، يحاول دريدا أن يظهر أن لا مصطلح ولا فكرة ولا حقيقة نقية أبدا بهذه الطريقة وأن كل مصطلح ملوث بنقيضه أو بالآخر.
بالنسبة لدريدا هناك نوع من النقاء يبقى بوصفه قيمة. ففي كتابه (أحادية الآخر الغوية،1992) يتحدث دريدا عن (التعصب المشين) لصفاء ونقاء وطهر اللغة الفرنسية (مقارنة بتلك الملوثة بكلمات انجليزية مثل“le weekend”).
 يقول دريدا: "ما زلت لا أجرؤ على الاعتراف بهذة المطالبة القهرية لنقاء اللغة إلا في الحدود التي يمكنني التأكد منها: هذه المطالبة غير أخلاقية وغير سياسية وغير اجتماعية. إنها لا تلهمني أي حكم. وتعرضني ببساطة للمعاناة عندما يحدث أن شخصا يمكن أن أكون أنا نفسي، قاصرا عن ذلك. بل وأعاني أبعد من ذلك عندما أجد نفسي أو يجدني أحدهم متلبسا "بالجرم المشهود" في الفعل.... وقبل كل شيء، لا يزال هذا الطلب غير مرن بحيث يتجاوز أحيانا وجهة النظر النحوية، بل أنه يهمل الـ"أسلوب" من أجل الرضوخ لقاعدة سرية، من أجل "الانصات" إلى دمدمة مستبدة لنظام يغري شخص في داخلي نفسه أن يتفهم، حتى في الحالات التي يكون فيها هو الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك، في اللقاء وجها لوجه مع التعبير أو الاصطلاح، الهدف النهائي: الإرادة الأخيرة للغة هي، باختصار، قانون اللغة الذي من شأنه أن لا يعهد بنفسه الا لي فقط... ولذلك فإنه اعتراف بنقاء غير خالص. أي شيء سوى النقاء. إنه، على الأقل،  "النقاء" غير النقي الذي أجرؤ على الاعتراف بطعمه ".
يهتم دريدا بنقاء اللغة في حالة العبارات الاصطلاحية على وجه الخصوص. فالتعابير هي ما يجعل اللغة متفردة. الكناية أو التعبير الاصطلاحي نقي خالص بحيث يبدو أننا غير قادرين على ترجمته من تلك اللغة. على سبيل المثال، يربط دريدا دائما المصطلح الفرنسي "il faut"، بمعنى "من الضروري" بـ "“une faute"، بـمعنى "خطأ" و "“un défaut"، بمعنى "عيب". ولكننا لا يمكن أن نقوم بهذا الربط اللغوي بين الضرورة والخطأ في اللغة الإنجليزية. يبدو هذا المصطلح منتميا إلى الفرنسية وحدها ؛ يبدو كما لو أنه لا يمكن أن يكون مشتركا.
ولكن حتى في اللغة الواحدة، يمكن للتعبير الاصطلاحي الواحد أن يترجم الى عدة معان وتوظيفات. مثلا في التعبير الفرنسي : "“il y va d'un certain pas.". فمن ناحية، إذا ما أخذنا "il y va" حرفيا، يصبح لدينا جملة عن الحركة إلى مكان ( "y": هناك) بوتيرة معينة ( "un certain pas": خطوة معينة).
من ناحية أخرى، إذا ما أخذنا "il y va" اصطلاحا ( "il y va": ما المسألة)، يصبح لدينا جملة (وربما أكثر فلسفية) عن قضية نفي ( "un certain pas": " نوع معين من ليس "). يشير عدم التقرير هذا في كيفية فهم اللغة داخل اللغة الواحدة إلى أنه، بالفعل في الفرنسية، في اللغة الفرنسية الواحدة، هناك ترجمة.
لذلك، وبالنسبة لدريدا، فإن "اللغة النقية" تعني لغة تشمل مصطلحاتها بالضرورة معان متعددة لا يمكن اختزالها إلى معنى واحد ليكون هو المعنى الصحيح. وبعبارة أخرى، فإن طعم النقاء عند دريدا هو طعم اللاـ ملائمة، وبالتالي التلوث والبذاءة. قيمة النقاء عند دريدا تعني أنه لا بد من انتقاد أي شخص يتصور لغة بمصطلحات المعاني الصحيحة أو الصافية النقية.


تعليقات

المشاركات الشائعة