هل يمكننا نقد فوكو؟

عمار أحمد الشقيري: يدعيّ دنيال زامورا (Daniel Zamora)، أنّ التأويلات التقليديّة لأعمال فوكو تتجنب جزءاً من الإشكال. حيث أصبح فوكو ضرباً من قامة لا تُمسّ داخل جزءٍ من اليسار الراديكاليّ، والانتقادات المقدّمة له جبانةٌ على أقلّ تقدير. فما رأيك؟
_____
 أماني أبو رحمة: نبدأ أولا من ادعاء دانيال زامورا، وهو باحث في علم الاجتماع في جامعة بروكسل الحرة. حرر زامورا عام 2014 كتابا بعنوان (Critiquer Foucault: Les années 1980 et la tentation néolibérale) الذي يمكن ترجمته إلى (نقد فوكو: الثمانينيات واغراء النيوليبرالية). حظي الكتاب بتغطية واسعة حال صدوره من النادر أن يحظى بها كتاب موسوعي يتضمن تجميعا لمقالات وآراء وتحليلات ودراسات لمجوعة من الباحيثين والنقاد والمفكرين. وربما أن أحد أسباب هو المقابلة التي أجرتها مجلة (بالاست) الفرنسية الجديدة مع زامورا إثر صدور كتابه بالفرنسية وأعاد موقع (جاكوبين Jacobin) المهم والمقروء خصوصا من مثقفي اليسار نشرها بعد ترجمتها الى الإنجليزية. وضع الموقع عنوانا للمقابلة استفزازيا ومثيرا للجدل: هل يمكننا نقد فوكو؟ ثم عبارة تقريرية فجة تتضمن حكما قاطعا يقول: إن ميشال فوكو قد أبدى في أواخر حياته تعاطفا غريبا مع النيوليبرالية. لم تتاخر ردود الفعل على المقابلة كثيرا. جاء بعضها معمما ومدافعا ومستفزا من العنوان المثير للسخرية كما قالوا، ومن ناحية أخرى فند آخرون مزاعم الجدة والاكتشاف غير المسبوق الذي ادعاه زامورا في ردة فوكو إن جاز التعبير الى النيوليبرالية. ولكن الرد الاقوى في نظري جاء من بيتر فريس Peter Frase من مجلس ادارة( جاكوبين) بعنوان  (أبعد من دولة الرفاه) ثم عبارة "يجب علينا أن نكافح من أجل إقامة دولة الرفاه قوية وعالمية، ولكن الخيال الاشتراكي لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحد". الذي فند مقولات واتهامات زامورا فيما يتعلق بنيوليبرالية فوكو المزعومة. مُنح زامورا فرصة أخرى للرد على فريس بلهجة بدت اكثر اعتدالا وأقل تفاؤلا بشأن دولة الرفاة ومستقبل الرأسمالية. منحت هذه الحوارات والردود كتاب زامورا زخما هائلا ربما كان هو السبب في شهرة الكتاب وتسليط الضوء عليه فضلا عن أن نقطة الكتاب لم تكن توجهات فوكو النيوليبرالية فحسب، وانما جردة حساب رصينة لاستراتيجيات اليسار على مدى الأربعين عاما الماضية.
نعود إلى السؤال: هل يمكننا انتقاد فوكو؟ بالطبع يمكننا انتقاد فوكو. هناك انتقادات لفوكو في كل مكان. حتى اؤلئك الذين يجدون عمله لا يقدر بثمن وجهوا له انتقادات حادة. بل أن انتقادات فوكو بالذات اكثر من أن تجمع أو حتى تُلخص. فعلى مدى عامين متواصلين من قراءاتي لفوكو وعن فوكو قرأت انتقادات بالجملة لمنهجه وأفكاره وتقلباته وتناقضاته وتراجعاته وأسلوبه وآرائه القاطعة بل وحتى لتحليلاته ونتائجها. والحقيقة انني أيضا دُهشت من عنوان زامورا. فكل من كتب في السياسات الحياتية بعد فوكو وجه له نقدا بطريقة أو بأُخرى ليس أقله أنه لم يأت بجديد(وهو رأي دريدا الذي يقول إن فوكو أخطا فهم أرسطو ولم يقرأ هايدغر جيدا قبل ان يكتب في السياسات الحيوية ويدعي جدّة عمله بل ويقيمه على اسس خاطئة) أو أن عمله كان ناقصا وبحاجة الى المزيد من العمل والجهد. هذا الانتقاد الأخير يكاد يكون مشتركا بين كل من نظروا في السياسات الحياتية بعد فوكو والذين ذكرتهم في سؤالك وهم بالطبع الذين استعرض كتابي أعمالهم. ولكني أيضا على سبيل المثال لا الحصر سأذكر لك بعض الانتقادات الأخرى التي وجهت للرجل. خذ مثلا: أجمع خوسيه ميركيور ومايكل والزر وتشارلز تايلور ويورغن هابرماس على أن فوكو يعترف ببعض الجوانب الإيجابية للعقل التنويري، الا أنه يفشل في فعل ذلك حيال المؤسسات والتقنيات الحداثية. يأخذ نقده للحداثة جانبا واحدا في تركيزه على الأشكال القمعية للعقلانية ويفشل في تحديد أي جوانب تقدمية للحداثة. فالحداثة في مخطط فوكو، لم تجلب أي تقدم في الطب، والديمقراطية، ولكنها نجحت فقط في تعزيز فعالية الهيمنة. ولعل وصف هابرماس لفوكو بأنه "شاب محافظ مناهض للحداثة" إشكالية وذات بعد واحد أيضا كما تراها نانسي فريزر،الا أن هابرماس أيضا لاحظ بشكل صحيح جدا أن فوكو يصف جميع جوانب الحداثة بوصفها تأديبا وانضباطا ويتجاهل الجوانب التقدمية من الأشكال الاجتماعية والسياسية الحداثية من حيث التقدم في الحرية، والقانون، والمساواة ولكن وبشكل عام، تميل كتابات فوكو إلى أن تكون أحادية الجانب تنظيرا وتطبيقا. ودعني أوضح لك هذه النقطة بالذات: في عمله الاركيولوجي ميز فوكو الخطابات على المؤسسات والممارسات، ثم في عمله الجينيالوجي أكد فوكو على الهيمنة مقابل المقاومة وتكوين الذات، ثم في أعماله الأخيرة حلل فوكو التكوين الذاتي للذات بعيدا عن اعتبارات السلطة الأجتماعية والهيمنة. كما أن تحوله من تكنولوجيات الهيمنة إلى تكنولوجيات الذات كان مفاجئا وبلا تمهيد أو مقدمات، لم ينظر فوكو مطلقا بصورة كافية للإشكالية المزدوجة البناء المؤسساتي /الإنسان لفاعل.
لاحظت فريزر أيضا بالإضافة الى هابرماس ووالزر أن فوكو نادرا ما يعبر فوكو عن تفضيلاته الاخلاقية والسياسية. وفي الحقيقة فإن النقد الموجه لأعماله يتركز في معظمه حول فشله في تحديد / والدفاع عن الافتراضات المعيارية المتضمنة في تحليلاته وبالتالي فإنه لا يوفر الأساس النظري لانتقاداته القوية للهيمنة. وعلاوة على ذلك فقد أشار اليساندرو فونتانا وماورو بيرتاني إلى أن تركيز فوكو على نموذج الهيمنة والحرب ليس كافيا لـــ "شرح تعدد الصراعات الحقيقية التي أثارتها سلطة الإنضباط أو آثار الحكومة على أنماط السلوك المنتجة بواسطة السلطة الحياتيه. وعلاوة على ذلك، فإن تركيز فوكو على الانضباط والتطبيع دفع العديد من المؤلفين مثل موريزيو لازاراتو وآخرين للتفكير في أن تحليل فوكو قديم بدعوى أن الانضباط في المجتمعات المعاصرة ليس وسيلة محورية للاخضاع أو الحكم. هناك أشياء عن تأثيرات السلطة على الحياة تركتها أطروحة فوكو غامضة ـــ وربما أن الأكثر أهمية هو التساؤل عن المقاومة والسلوك المضاد ودور الفاعل النشط. ففي حين يقول فوكو ان السلطة تُولد المقاومة كما أنه يشير أحيانا إلى تكتيكات المقاومة، إلا أن عمله يفتقر تماما إلى وصف ملائم للمقاومة مقارنة بنطاق وتفاصيل وصرامة مقارباته لتقنيات الهيمنة. وبعبارة أخرى، إن جينيالوجيا المقاومة لم تكتب بعد وهذا قصور واضح ألقى بظلاله على عمل فوكو كله وأثار انتقادات واسعة بين المفتونينين به والمعتدلين والمستائين منه. ومن المثير للاهتمام، أن فوكو وفي مقاله المتأخر "الذات والسلطة، 1982" يقترح طريقة بديلة لدراسة علاقات السلطة : من وجهة نظر مقاومة السلطة بدلا من ممارسة السلطة. لكن فوكو لم يعمل على هذا الاقتراح، كما أنه لم يحدد في أي وقت مضى على نحو كاف معنى مصطلحات مثل النضال، وعلاقات السلطة والمقاومة والمعارضة، وهي المشكلة ذاتها أثارها ضد تحليل الصراع الطبقي الماركسي. ربما يقول قائل أن فوكو قد تناول نظرية المقاومة السياسية كشكل من أشكال تقنيات الذات بوصفها استجابة خلاقة لقسرية الممارسات، ولكن عمل فوكو في الثمانينيات يفتقر إلى أبعاد سياسية جوهرية. وعلى الرغم من أنه كان في صف العمل السياسي التحرري بل وشارك فيه، إلا أن فهمه (المحايد أخلاقيا) الذي يدين به لنيتشه عن طبيعة السلطة وبناء هيكلية الفكر الاجتماعي جعلت الفعل التوجيهي ضمن تلك الصيغة مستحيلا.

هذا غيض من فيض الانتقادات التي وجهت الى فوكو والتي صادفتها أثناء عملي على الكتاب، فمفكر بحجم فوكو وبغزارة انتاجه كما واثارته للجدل كيفا لا بد أن يتعرض لانتقادات مريرة من مجايله وممن جاء بعدهم وممن سيأتي لاحقا من اليسار أو اليمين، فكيف يدعي زامورا أنه أيقونة لا تمس وأنه فوق النقد؟ إن الحقيقة خلاف ذلك تماما. فقد انتشرت الأفكار الاختزالية عن فوكو على نطاق واسع، وخاصة بين منتقديه، حتى أنها قد تحجرت إلى دوكسا لا تتزعزع؛ الفرد، والرغبة، والذاتية، والسلطة، والخطاب، والحكومة، والحاكمية، والجنسانية، والإنضباط، والمراقبة. والعلوم الإنسانية والاجتماعية ليست سوى ممارسة للسلطة؛ وحتى الحقيقة نفسها ليست سوى قناع خادع يتخفى الخطاب وراءه، أو حتى الإكراه والعنف. كل ذلك جعل فوكو فريسة سهلة لمن نصبوا انفسهم حكاما لقضايا الفكر في هذا العالم. 

تعليقات

المشاركات الشائعة