ميشيل فوكو: استراتيجيات ما بعد الماركسية وما بعد الحداثة

ميشيل فوكو: استراتيجيات ما بعد الماركسية وما بعد الحداثة
أماني أبو رحمة
يوفر عمل فوكو نقدا مبتكرا وشاملا للحداثة. وبينما تشير الحداثة بالنسبة لكثير من المنظرين إلى حقبة تاريخية غير متمايزة تعود من عصر النهضة إلى اللحظة الراهنة، يميز فوكو عهدين بعد النهضة: عصر الكلاسيكية (1660-1800) والعصر الحديث (1800-1950).
يرى فوكو العصر الكلاسيكي تدشينا لصيغة قوية من السيطرة على البشر والذي يبلغ ذروته في العصر الحداثي.
يتبع فوكو موقف نيتشه الذي يرفض فكرة التنوير عن التقدم التاريخي: "الإنسانية لا تتقدم تدريجيا من موقعة إلى موقعة إلى أن تصل إلى تبادلية عالمية، حيث سيادة القانون تحل في نهاية المطاف محل الحرب؛ تثبت الإنسانية عنفها في نظام من القواعد وبالتالي تنتقل من الهيمنة إلى الهيمنة ".
إلا أن فوكو، وللمفارقة، ويرى أن العصر الحديث هو نوع من التقدم  في نشر وتحسين أساليب الهيمنة. وحول هذه النقطة بالتحديد، يشبه موقفه المبدئي موقف أدورنو، الذي تحدث عن استمرار الكارثة "التي قادتنا من المقلاع إلى قنبلة الميغاطن". ويختلف إلى حد بعيد مع ماركس، وويبر، أو هابرماس الذين يحاولون تحديد الجوانب التحررية والقمعية للحداثة. مثل هوركهايمر وأدورنو، يعتقد فوكو أن العقلانية الحداثية هي القوة القسرية، ولكن في حين أنهما ركزا على استعمار الطبيعة، والقمع اللاحق للوجود الاجتماعي والنفسي، يركز فوكو على السيطرة على الفرد من خلال المؤسسات الاجتماعية والخطابات والممارسات. مستيقظا في العالم الكلاسيكي مثل عملاق نائم، وجد العقل الفوضى والاضطراب في كل مكان وشرع في ترتيب منطقي للعالم الاجتماعي. حاول تصنيف وتنظيم كل أشكال الخبرة من خلال البناء المنهجي للمعرفة والخطاب، الذي يفهمه فوكو أنظمة لغة متراكب مع الممارسة الاجتماعية. وهو يزعم أن مختلف التجارب الإنسانية، مثل الجنون أو الجنسانية، تصبح كائنات التحليل المكثف والتدقيق. لقد أعيد تشكيلها خطابيا داخل اطر المرجعيات العقلانية والعلمية، وضمن الخطابات المعرفة الحداثية، وبالتالي أصبحت متاحة للإدارة والسيطرة. منذ القرن الثامن عشر، كان هناك انفجار خطابي حيث أصبح كل السلوك البشري خاضعا لـ"امبريالية" الخطاب الحداثي وأنظمة السلطة / المعرفة. مهمة التنوير، يقول فوكو، كانت مضاعفة "سلطة العقل السياسية" ونشرها في جميع أنحاء المجال الاجتماعي، حتى شبعت في نهاية المطاف فضاءات الحياة اليومية.
وبدلا من النموذج الماركسي للنضال الطبقي بين الطبقات المتقابلة، يدعو فوكو الى جمع من النضالات المستقلة التي تشن عبر المستويات الدقيقة في المجتمع، في السجون والملاجئ والمستشفيات والمدارس. يستبدل المفهوم الحداثي للسياسات الماكرووية حيث تناضل القوى المتصارعة من أجل السيطرة على مصدر مركزي متجذر في الدولة والاقتصاد بمفهوم ما بعد حداثي من السياسات المايكرووية حيث تنتشر مجموعات محلية تنافس على اشكال متشعبة ولا مركزية من السلطة المنتشرة في كل المجتمع. أما (المثقف(المفكر) العام) الذي يمثل ( بمعنى أنه يتحدث نيابة عن) كل المجموعات المضطهدة فقد تراجع الى (المفكر الخاص) الذي يفترض دورا استشاريا متواضعا ضمن جماعة، وشكلا خاصا من النضال. يرفض فوكو كل مفردات الماركسية الكلاسيكية. مفاهيم الحرية والتحرر، على سبيل المثال، تعني لفوكو جوهرا انسانيا متاصلا ينتظر ان يُحرر من قيود السلطة القمعية. كما ان فكرة الايديولوجيا تفترض امكانية وعي حقيقي ونوع من الحقيقة المكونة خارج حقل السلطة، فضلا عن سلطة مستندة على تمثيلات عقلية بدلا من الانضباط الجسدي. وأخيرا، يجد فوكو أن فكرة الثورة خاطئة بقدر ما أنها تنطوي على تحول اجتماعي واسع النطاق يشع من نقطة مركزية ( الدولة او صيغة الانتاج)، بدلا من انتشار شامل لنضالات محلية ضد سلطة علائقية لا يمتلكها أحد.
"ليس هناك بؤرة رفض عظيم، ولا روح ثورة، ولا مصدر واحد  لكل الثورات، أو قانون ثوري نقي. بدلا من ذلك هناك عدد وافر من المقاومات، كل منها حالة خاصة ". واذا كان فوكو على حق في أن السلطة الحداثية جمعية غير قابلة للاختزال، وانها تنتشر وتنتعش في مستويات محلية وشعيرية من المجتمع، وانها تؤخذ لاحقا من قبل الهياكل المؤسسية الكبيرة، فسيتبع ذلك أن التغيير في شكل الدولة، طريقة الإنتاج، أو تكوين طبقة من المجتمع يفشل في معالجة المسارات المستقلة للسلطة. وبالتالي، فإن الافتراض الرئيسي وراء الاستراتيجيات المايكرووية لمفكرين مثل فوكو، ودولوز وغواتاري، وليوتار، هو أنه، وبسبب زعزعة مركز السلطة وتبعثره على مراكز كثيرة، يجب أن تكون أشكال النضال السياسي لا مركزية ومتعددة ومنتشرة. تحاول السياسات ما بعد الحداثية الفوكووية، بالتالي، القطع مع الاستراتيجيات الشمولية، لغرس أشكال متعددة من المقاومة، لتدمير سجون الهويات وخطابات الإقصاء المتلقاة، وتشجيع انتشار الاختلافات بكل أنواعها. المهمة السياسية للجينيالوجيا، إذن، هو استعادة استقلالية الخطابات والمعارف والأصوات المكبوتة من قبل السرديات الشمولية. تتحدث أصوات التاريخ التي جرى اخضاعها بفضل أشكال خفية من السيطرة. وكي نصغي اليها ونعترف بها لا بد لنا  من إعادة النظر في تصور السلطة وتكوينها ومكانها. وكما حاول ماركس كسر موجة الهوس المرضي بالاستهلاك في المجتمع الرأسمالي، أو كما يمارس الشكلانيون الروس تقنيات "نزع الألفة " لتحطيم قبضة الحساسية العادية، فإن الجينيالوجيا تُمشكل الحاضر بوصفه أبدي وبديهي، وتفضح عمليات السلطة والهيمنة التي تعمل وراء واجهات محايدة أو خيرية. وبعبارة فوكو: "يبدو لي أن المهمة السياسية الحقيقية في مجتمع مثل مجتمعنا هو نقد عمل المؤسسات التي تبدو محايدة ومستقلة، نقدها بطريقة تفضح العنف السياسي الذي طالما مارسته بغموض، بحيث يمكن للمرء مقاتلتها ".


تعليقات

المشاركات الشائعة