فوكو والسياسات الحياتية المعاصرة.

أماني أبو رحمة.
يعد فوكو من أكثر مفكري القرن العشرين الذين يُستشهد بكتاباتهم، بل أنه وفقا لبعض الاحصائيات والقوائم الأكثر في مجال الإنسانيات والعلوم الإجتماعية. ويشكل نقده اللاذع للحداثة عملا غير مسبوق وضع أسس ما بعد الحداثة علما بأنه لم يذكر المصطلح قط في أي من كتاباته. وفي حين أنه يعترف بأن النظريات العالمية مثل الماركسية والتحليل النفسي وفرت "أدوات مفيدة للبحث المحلي"، إلا إنه يعتقد أنها اختزالية وقسريه في الآثار العملية، ولا بد أن تحل محلها تعددية أشكال المعرفة والتحليل الدقيق. ونتيجة لذلك، فإن فوكو يحاول فك شمولية التاريخ والمجتمع بوصفهما كلا موحدا يحكمه مركز، أو جوهر، أو غاية أخيرة، وزحزحة مركز الذات باعتباره وعيا مُشكَلا بدلا من كونه مشكِلا للوعي. ويحلل التاريخ باعتباره مجالا غير تطوري وتشظيات من معارف منفصلة، في حين يقدم المجتمع بوصفه انتظام مشتت لمستويات من الخطابات غير متساوية التطور، أما الذات الحداثية فهي خيال إنساني يتكامل مع سيرورة مجتمع معتقل يضبط ويدرب رعاياه على العمل والمطابقة. ولعل الدافع التوجيهي الأساسي لعمل فوكو هو "احترام... الاختلافات". غذت هذه الفكرة نهجه التاريخي ووجهات نظره في المجتمع، والمواقف السياسية واتخذت أشكالا عديدة، منها: المنهجية التاريخية التي تحاول فهم خصوصية وانقطاعات الخطابات، وإعادة النظر في السلطة بوصفها تنتشر في جميع أنحاء المواقع الاجتماعية المتعددة، وإعادة تعريف " المثقف العام"، ونقد الصيغ العالمية والشمولية للفكر. يحلل فوكو الحداثة من وجهات نظر مختلفة على الخطابات والمؤسسات الحداثية. ليس للعالم معنى واحد فقط، ولكن معان لا تعد ولا تحصى، ويسعى صاحب المنظورات الى تفسيرات متعددة للظواهر ويصر على أن ليس هناك "حدود للطرق التي يمكن أن يفسر بها العالم". يرفض فوكو الادعاء الفلسفي لفهم منهجي لكل الحقيقة ضمن نظام فلسفي واحد أو من وجهة نظر مركزية واحدة. ويرى فوكو أن "الخطاب... بالغ التعقيد بحيث أننا نستطيع، و ينبغي أن، نقاربه من مستويات مختلفة ضمن منهجيات مختلفة". ماذا كانت ما بعد الحداثة اذا لم تكن ما سبق؟ هنا أيضا لا بد أن نقارن بين فوكو ومجايليه الذين ساهموا في ارساء قواعد ما بعد الحداثة لنرى تميز المفكر. ففي زاوية باريسية أُخرى، كان دريدا مشغولا بتأكيد أن (لاشيء خارج النص) وكان جاك لاكان يحول التحليل النفسي الى لغويات بادعاء أن (اللاوعي مركب باللغة أو كاللغة). كانت الفلسفة في الستينيات عن اللغة وهذه هي (الانعطافة اللغوية) كما أطلق عليها ريتشارد روتي عام 1967 والتي اشتغل بها فوكو أيضا في بداياته الأولى وأسفرت عن (الكلمات والأشياء). هابرماس بدوره أيضا أصدر في العام ذاته محاولته الأولى في (تأريض العلوم الإجتماعية في نظرية اللغة). واصل معاصرو فوكو هوسهم باللغة لبضعة عقود على الأقل. من جانبه حول فوكو في السبعينيات اهتمامه الفلسفي إلى السلطة: فكرة تعدنا بالمساعدة على فهم كيف أن الكلمات تمنح الأشياء التنظيم الذي هي عليه.
نقد فوكو للحداثة و والمذهب الانساني، مع مزاعمه "بموت الانسان" وتطوير جوانب جديدة عن المجتمع والمعرفة والخطاب والسلطة، جعلت منه مصدرا رئيسا في فكر ما بعد الحداثة. نهل فوكو من تقاليد مناهضة التنوير التي ترفض معادلة العقل والتحرر والتقدم الخطي وتقول بأن المواجة بين الاشكال الحداثية من السلطة والمعرفة ساعد في خلق أشكال جديدة من الهيمنة. وفي سلسلة من الدراسات الفلسفية التاريخية، حاول فوكو ان يطور وأن يحور هذه الثيمة من منظورات متعددة : النفسية، والطبية، والعقاب، والجريمة ونشأة العلوم الانسانية، وتشكيل جاهزيات الانضباط المختلفة، وتكوين الذات. وعلمنا أنه يمكن للمرء أن يكتب تاريخا جينيالوجيا عن موضوعات غير تقليدية مثل العقل والجنون والذات التي تنبثق من قلب مواقع الهيمنة.
وفي حين أن فوكو تأثر بنظرية ما بعد الحداثة، إلا أنه لا يمكن ان يُدرج تحت هذا العنوان ببساطة. فالرجل مفكر بالغ التعقيد وانتقائي يستقي من مصادر متعددة واشكالية فيما لا يربط نفسه بأي منها.
أما عن كتابي (أبعد من فوكو: السياسات الحياتية في عصر الجينوم) ؛ ففوكو ليس إلا فصلا من الكتاب ولكنه يفترش ويعرش ويتمدد في كل زوايا الكتاب. فحين حدثت (انعطافة السياسات الحياتية) مطلع الألفية الثالثة ويقصد بها التضخم الهائل في الدراسات والأبحاث والمؤتمرات تتناول العلاقة بين (الحياة) و(السياسة)، بعث فوكو حيا من جديد وأشتعلت النار في أقل مصطلحاته استهلاكا وهو مصطلح (السلطة الحياتية) و(السياسات الحياتية). لا يمكن لأحد أن يكتب أو ينظر أو يبحث أو يبتكر او يحلل تداخل الساسية في الحياة دون أن يعود الى الفصل الأخير من المجلد الأول من كتاب الجنسانية(ارادة العرفان) الذي كتبه فوكو بالفرنسية عام 1976 وترجم الى الانجليزية عام 1978 ونقله الى العربية محمد هاشم عام 2004.
كانت الشرارة الأولى في العام 1998 عندما ظهرت الترجمة الإنجليزية لكتاب الفيلسوف الإيطالي جورجيو اغامبين والذي يحلل عبارة فوكو التي غدت بؤرة اهتمام الدراسات السياسية الحياتية المعاصرة "حق الموت والسلطة على الحياة" في أول اصدار من سلسلته الإنسان المستباح والتي تحمل عنوان (الإنسان المستاح: السلطة السيادية والحياة العارية). وبعد تعليقات أغامبين المثيرة للجدل على عمل فوكو، تبعها في العام 2000 تعديل استفزازي لنظرية فوكو قام به كل من أنطونيو نيغري ومايكل هارت في الجزء الأول من ثلاثيتهما ( الامبرطورية). بعدها حدث الانفجار وهاجر مصطلح السياسات الحياتية من الفلسفة إلى شواطئ ليست أبعد كثيرا: الانثروبولوجيا والجغرافيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية واللاهوت والدراسات القانونية والبيوطيقا والميديا الرقمية والتاريخ وليس أخيرا، العمارة. وكل منظر يدعي وصلا بفوكو..فلا بد أن نبدأ بفوكو وننتهي به حتى في عصر الجينوم حين اخترقت السياسة نوكليوتيدات الجينات البشرية وقدمت المسودة الأولى لكتاب الجينوم البشري إلى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في البيت الأبيض عام 2000 وبعد ذلك بثلاثة سنوات في عام 2003 تم الكتاب بالكامل وانكشف جسد الانسان على مستوى الجزيئات وأبعد أمام صناع السياسة.
لم تكن علوم الجينوم حاضرة حين قدم فوكو مفهوم السياسات الحياتية في الربع الأول من القرن العشرين، ولكن فكرته أن مركب السلطة/ المعرفة سيركز بشكل متصاعد على مادة الحياة ذاتها كان دقيقا جدا. صمم فوكو السلطة الحياتية من حيث أنها " ما يجلب الحياة وآلياتها إلى عالم الحسابات الصريحة، ويجعل المعرفة / السلطة عاملا فاعلا في تحويل حياة البشر". تلفت هذه الصياغة العبقرية أنظارنا إلى الممارسات العادية والمألوفة ذات العلاقة بالجسد، كما تفتح بوابات تحليل المعرفة حول الجسد ـــ خصوصا العلوم البيولوجية التي تركز على المسائل الجوهرية للحياة ـــــ على مصراعيها أمام رسم السياسات وتدخل الاستراتيجيات.
فالسلطة لا تنشأ ببساطة من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية، يقول، كما أنها لا تعمل عن طريق الإكراه فقط. إنها تعمل من خلال الجسد وتحيط به، الجسد الذي يكون في الوقت نفسه متورطا في المجال السياسي بشكل مباشر حيث لعلاقات السلطة قبضة مباشرة عليه، بمعنى أنها" تستثمر فيه أو تستثمره وتُعلم عليه وتدربه وتعذبه وتجبره على تنفيذ المهام وأداء المراسم وإطلاق العلامات".
وهكذا حول فوكو السلطة إلى جسد. ولأنه لا يرى السلطة سيادية أو وحدوية أو مركزية، أصبح من السهل ادراك أنها تمارس ببراعة من قبل وكلاء واضحين. لقد أصبحت السلطة راسخة في كل مكان من الجسد الصحي والاجتماعي الذي شكل ـــ منذ القرن الثامن عشرـــ جسدنا الاجتماعي أو ثقافتنا المرتكزة على الجسد، وما زال. ومن هنا جاء توظيف فوكو للسلطة الحياتية (مصاحبا للسياسات الحياتية) للإشارة إلى عمليات إنتاج المعرفة التي من خلالها تقوم الممارسات المؤسسية بتحديد وقياس وتصنيف وبناء وتشكيل كل تجربة ومعنى وفكر، جسديا.

ولهذا كان فوكو حاضرا في عصر ما قبل السياسات الحياتية، ثم عصر السياسات الحياتية، حتى "عتبة الحداثة"، وما بعدها، وصولا إلى عصر الجينوم والابيجينوم أو ما فوق الجينوم، بفضل مركب (المعرفة / السلطة) الشهير. و سواء كنا ننظر أو لا ننظر إلى الرجل فى ضوء ما تقدم، فالمؤكد أنه لا عودة عن الرؤى التي طرحها بخصوص إعادة التفكير في الماضي من الحاضر وفي الحاضر من الماضي على السواء. وهو ما يحاول هذا الكتاب أن يقدمه.

تعليقات

المشاركات الشائعة