المجال العام بين يورغن هابرماس ونانسي فريزر: امكانية (المجال العام) الاسلامي.

أماني أبو رحمة.
ارتبط مفهوم الفضاء العام او العمومي بيورغن هابرماس. فالمجال العام الهابرماسي مستقل ينشأ من المجتمع المدني متمايزا عن الدولة على الأقل من الناحية النظرية. يفترض هذا التعريف تمييز واضح بين "الخاص /الخاصة" و "العام / الجمهور". والمجال العام أيضا هو نوع من التفاعل التواصلي العام يحمل بعدا مقررا وموجها للرأي العام. وينظر إليه أيضا بوصفه دور الهياكل والمؤسسات والأفراد الفاعلين. وبعبارة أخرى، فإن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية نفسها هي السبب الرئيسي لبناء وتشريع المجال العام. وهذا يعني أن المجال العام متاح ومفتوح للجميع من حيث المبدأ، ويضمن أن لكل مواطن قدرة متساوية للمشاركة في النقاش العام والتعبير عن رأيه بكل صراحة. وفي هذا السياق، صور المجال الاجتماعي المستقل حالة تواصلية يتساوى فيها الخاص والعام. وبهذا المعنى، فإن المجال العام ليس أكثر من منتدى تداولي لتبادل ونشر ومناقشة المعاني وتكوين ما يطلق عليها (العام) بعملية التواصل هذه ومن خلالها حين يتجاوز الأفراد مصالحهم الخاصة لتحديد ما هو الصالح العام للمجتمع ككل.
ربط هابرماس فكرة الفضاء العمومي بتأسيس الدولة القومية الاوروبية ونشوء المجتمع البرجوازي منذ بدايات القرن السادس عشر. ولهذا كان تأثير التنوير العقلاني واضحا في نموذجه الذي استبعد تأثير الدين الذي قصره التنوير على الفضاء الخاص والعادات والثقافة في تحديد (الصالح العام) وافترض ذاتا فاعلة مستقلة يمكن أن تحيد هويتها وكل معتقداتها وارتباطاتها ومصالحها الضيقة الخاصة. غني عن القول إن هابرماس قد تعرض لهجوم حاد من ما بعد الحداثيين الذين يشككون في الإمكانات التحررية لنموذجه الذي يزعم تحقيق التوافق من خلال النقاش العقلاني. إن تأكيد هابرماس على إمكانيات التواصل البين ذاتي ضمن الفضاء الاجتماعي العام وتصوره للغة القائم على أساس الأخذ بعين الاعتبار المستوى التداولي للخطاب، ويفرض تجاوز إشكالية التشكيك في جميع الأنظمة السردية كما روجت لها ما بعد البنيوية. فلم يعد من المفيد إعادة إنتاج وتداول مقولة دريدا الشهيرة "لا يوجد شيء خارج النص" والتي تجعل من محاولات البحث عن المصداقية والوثوقية والمعنى جهد عبثي لا طائل من ورائه. ويشدد هابرماس على أن المجتمعات الحديثة يجب أن تعمل على خلق نوع من الفضاء العمومي الذي يكون بمثابة منطقة وسط يتلاقى فيها العام والخاص ويتفاعل فيها الفرد مع الجماعة بشكل حر وعقلاني وبعيدا عن الإكراهات والقهر والعنف. وإذا ما وجد مثل ذلك الفضاء العمومي فان جميع مقولات فوكو وليوتار ودريدا حول عنف الخطاب والسرديات الكبرى والمعنى المرجأ إلى ما لانهاية وتعطيل فاعليات التواصل اللغوية ستنهار تلقائيا وتتلاشى.
كما ان الفضاء العمومي البرجوازي المثالي انتقد بحده بسبب مركزيته الاوروبية وطبيعته الإقصائية للجندر والطبقة والاثنية على سبيل المثال. كما ان الملاحظة الدقيقة لفيفيان عن" أن هذا الخطاب لن يكون مناسبا إلا بقدر رغبتنا في أن نجلس لتسوية الصراعات الاجتماعية تواصليا. ولا يمكنه لن يفعل شيئا لإقناع أولئك الذين اختاروا العنف لتسوية الخلافات بدلا من الوسائل الخطابية. وبالتالي سيكون غير كاف بوصفه نموذجا لتسوية النزاعات" جديرة بالاهتمام.
تناولت انتقادات أخرى قضية مكانة الدين في الفضاء العام. خضعت فرضية أن الدين يجب أن يُزاح من الفضاء العام كونه اعتقادا شخصيا خاصا للنقاش من قبل كثيرين. فيقرر جوس كازانوفا مثلا أن الدين كان ولا زال جزءا من الفضاء العمومي. ويشير الى جالات محددة دخل فيها الدين الفضاء العام في المجتمعات المدنية من أجل طرح قضايا معيارية، مساهما في سيرورات النزاعات المعيارية المتواصلة. نذكر على سبيل المثال مجالات مثل نقاشات البيوطيقا التي اكتسبت زخما متصاعدا بفضل التقدم في مجال التكنولوجيا الحيوية حيث يحضر الدين بقوة وفي حالات الدفاع عن مبدأ (الصالح العام) في مواجهة النظريات الحداثية الليبرالية الفردية التي تختزل الصالح العام إلى مجموع تجميعي لخيارات عقلانية فردية. من جانبه يرى ارماندو سالفاتوري أنه حتى في الحداثة المبكرة في أوروبا لعبت الحركات الدينية دورا مهما في تطوير الفضاء العمومي. لاحقا اعترف هابرماس نفسه (في الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي،1992) أن التقاليد والثقافة تشكل جانبا مهما في عملية انتاج المعايير وفي الطريقة التي يذوت بها الافراد الإجماع أو الرأي العام الذي يفترض أنه أهم مخرجات الفضاء العمومي. في هذا الصدد أيضا يقول اوليفيه روا في مقالة عن التحولات في العالم العربي إنه يجب علينا أن نضع جانبا فرضية أن الديمقراطية تفترض العلمنة، بالنظر إلى إعادة أسلمة الحياة اليومية وصعود الأحزاب الإسلامية في العالم العربي على مدى السنوات الثلاثين الماضية.
ولأنه قد لا يمكننا " تجنب المفاهيم الغربية، ولكننا نستطيع جعلها أكثر مرونة [...] من خلال سيقنتها وتمازها". لذلك فإن توظيف مفهوم مثل الفضاء العمومي الاسلامي لا بأس به، كما يرى سامويل ايزنشتات، الذي كتب عن الفضاء العمومي الإسلامي، "شريطة أن لا نجعل من الطريقة التي تطور بها المفهوم في أوروبا معيارا تقييميا للمجتمعات الأخرى". من هنا يمكن القول أن خصوصية المجتمعات الاسلامية ليست عائقا أمام تكوين فضاء عمومي ولكن، وفي رأيي، ليس على طريقة هابرماس. تتميز المجتمعات الإسلامية بالتعددية العصية على الاختزال؛ تعدد الأديان والمذاهب والطوائف والملل والنحل والطرق ومصادر التشريع، وهذه الخاصية بالمناسبة ارتبطت بالإسلام منذ بواكيره الأولى بعد الفتوحات والمساحات الشاسعة التي دخلت بمكنوناتها المادية والبشرية في أطلق عليه لاحقا العالم الإسلامي. ولعل هذه التعددية هي السبب الرئيسي في أن يكون الإجماع أحد مصادر التشريع الأربعة. وهنا يمكننا إن نلاحظ تقاربا بين مفهوم هابرماس عن (المجال العام) و(الإجماع) على الرغم من أن الأخير مدرسي يقتصر على الخاصة ولكن تفاعل العامة لا يمكن اغفاله، أقله عند تذويت ما أتفق عليه وتطبيقه.

والحقيقة أنني أتخيل فضاءا عاما اسلاميا في الحواضر التي أنشأها المسلمون في بغداد والمغرب العربي والأندلس حيث وظف الخطاب في كل مكان تقريبا لتكوين رأي في مختلف القضايا حتى تلك التي تتعلق بالعقيدة مثل خلق القرآن وما شابه مع عدم اغفال تضيقات السلطة السياسية والدينية التي وظفت التكفير والعنف وسيلة لحماية خطابها بذريعة الحفاظ على (الصالح العام). ولكن أجواء تلك الحواضر كانت أقرب الى توظيف الخطاب لإرجاء العنف والشقاق والوصول إلى ما أطلق عليه (إجماع الفقهاء، وأهل الرأي، وتحقيق المصلحة العامة). وهذا ما يجعلني أرى أن فكرة نانسي فريزر عن (العموميات المتضادة) بديلا عن الفضاء العام الواحد الموحد الشامل أقرب للخصوصية الإسلامية. ترى فرايزر أن الفضاء المضاد الثانوي يشير إلى الساحة الخطابية الموازية "حيث يبتكر أعضاء الجماعات الاجتماعية الثانوية ويعممون خطابات مضادة تسمح لهم بدورها صياغة تفسيرات معارضة استنادا إلى هوياتهم ومصالحهم احتياجات. وضعت فريزر هذا المفهوم انعكاسا "لحالة العالم الحقيقي حيث اللا مساواة الواسعة النطاق "، وحيث تستغل أنظمة الهيمنة والإخضاع فكرة (الصالح العام) لتعزيز خطاباتها. تمنح فكرة فريزر كل من الجماعات العصية على الاختزال في واحد وسائل للدعم والمقاومة كما أنها في الوقت ذاته تحتفظ بالافتراضات المسبقة التي يقوم عليها مفهوم هابرماس: العقلانية وقدرة الإنسان على تحديد وحل المشكلات. مفهوم وبالتالي تشكل فكرة فريزر عن العموميات المتقابلة في رأي روبرت آسين "مصطلحا نقديا، للدلالة على أن بعض العموميات تطورت ليس بوصفها مجرد واحدة من بين كوكبة من الكيانات الخطابية، ولكن بوصفها بدائل مفصلية صريحة عن عموميات أوسع تستبعد مصالح المشاركين المحتملين". فالخطاب العام الاسلامي ليس طوباويا حتى ضمن سياقات المجتمعات الاسلامية وخصوصياتها. الفضاء العام الإسلامي ضرورة اليوم اكثر من أي وقت مضى لنخرج من دوامات العنف وجحيم الصراعات الدموية، حيث تُحكم كل طائفة أو فئة قبضتها على خطابها بوصفه الحقيقة المطلقة التي يجب ان تسود حتى ولو كان الثمن دماء الأبرياء. ما يجب ان يشغل المفكرين والباحثين والمهتمين والأكادميين والمثقفين وصناع القرار والموجهين ورجال الدين ومؤسساته اليوم هو البحث في وسائل تمكين الفضاء العمومي مع الأخذ بعين الاعتبار نماذجه المتعدده وامكانية تطويع المفهوم وفق الخصوصيات والتمايزات بل وحتى التناقضات.

تعليقات

  1. شكرا جزيلا على هذه المساهمة الرائعة والراقية فلسفيا، وإني أشم منها رائحة ذات نفس اجتماعي "عملي"، وأتمنى أن لا تواخذيني ذات يوم إن طورتها وجعلتها رسالة دكتوراه أو أطروحة كتاب، ففعلا فمسار العلاقة بين بعض مقتضيات الحياة كالدين والسياسة والفن والأخلاق ووو وعلاقتها بالعنف والتهميش والضياع هما من هواجسي الحياتية، وتزيد الإشكالات تعقيدا عندما يتعلق الأمر بصياغة مجال عام عربي إسلامي يخضع لتقابلات بل وتناقضات أوضاع الواقع المعيش... مشكورة يا أرقى أستاذة

    ردحذف
    الردود
    1. ذلك سيكون مصدر سعادة كبيرة بالنسبة لي أرجو ان تتحقق قريبا. وارى انك الأجدر بتحقيقها، ابني حافظ. لا يمكن ان تستمر شلالات الدماء وحوار الطرشان في هذه البقعة من العالم كما لا يمكننا ان نستمر في التنظير واستيراد الفلسفات والقوالب الجاهزة من الغرب. التطبيق والتذويت ومراعاة الخصوصية والدراسات المخلصة الجادة هي أحد سبل خلاثصنا وربما اهمها على الأطلاق. دعواتي دائما وامنياتي لك بالخير والنجاح والتوفيق.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة