نهاية عصر النهايات . النهاية ؛ نهاية ما بعد الحداثة(أ)

 

النهايــــــــــــة

نهاية ما بعد الحداثة

كانت حقبة ما بعد الحداثة حقبة "التراخي، عندما أدى الغرق في الكثير أو القليل جدًا من أي شيء، وزوال المعنى، واستنفاد التطلعات، وحكم التعددية، والغموض والفراغ، ونهب النصوص، وإحلال المعنى والقيمة محل الواقع،  ونُذر النهايات، إلى التشتت التام للذات في نوبة من الهزات الانفصامية والنبضات والقلق والشذوذ. في الواقع، يحدث التفتت الفصامي بسبب حقيقة أن ما بعد الحداثة تقدم "أدوات، لا إجابات للألغاز التي يمكننا الاستقرار إليها"، وبذلك تجيب على سؤال الكيفية الإجرائية بدلاً من السؤال الكوني المنير"لماذا ؟ "، وتبقي العقل في حالة توتر مستمر من الجوع الدائم غير المشبع لإدراك الوضع الأنطولوجي للواقع. علاوة على ذلك، تكشف ما بعد الحداثة أكذوبة الوجود البشري التي لا يمكن مواجهتها، والتي يؤدي تأثيرها إلى ظهور أرتال النوماد والجذمور والفصام التي تحدث عنها جيل دولوز وفيليكس غواتاري في كتابها( ضد أوديب: الرأسمالية والفصام).

هنا يمكن القول أن ما بعد الحداثة ترتبط بشكل وثيق جدا مع ما بعد البنيوية، وهذا يعني ارتباطها بكتابات المفكرين الفرنسيين اللامعين: لاكان، ودريدا، وفوكو، ودولوز، وليوتار وأتباعهم الكثر. وتعد نظريات ما بعد البنيوية معقدة للغاية في واقع الأمر، بل إنها تتناقض مع بعضها البعض في الحجج الفردية في كثير من الأحيان، ولكنها جميعا تشترك في الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء. وللتبسيط، فإن هذا الافتراض يعني أنه لا توجد علاقة طبيعية موحدة بين الأشياء والعلامات، تعين العلامات للأشياء بطريقة مصطنعة وبعد وقوعها في الخطاب، أي في اللغة الموظفة في الحالات الاجتماعية المحددة لتحقيق أهداف معينة. وهكذا فإن العلاقة بين العلامة والشيء في التوظيف اللغوي تعبير غير مباشر عن العلاقات السلطوية داخل المجتمع. يرى ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين أن مهمتهم الأساسية هي توضيح تلك العلاقات السلطوية , والتي تظهر للقراء غير الممحصين بوصفها أمرا بديهيًا طبيعيًا. تفترض ما بعد الحداثة وجود تجزئة دائمة وتفكيك وإعادة بناء. الأمر الذي سهل ظهور الأصوات المهمشة، والهشة، والمحرومة، والمستبعدة. أصبحت نظرية الفوضى عنصرا رئيسيا بشكل متزايد في تحليل ما بعد الحداثة. كما كان نيتشه، بدلاً من هيغل، ملهم المفكرين ما بعد الحداثيين. يعيد ما بعد الحداثيين تعريف أنفسهم باستمرار ويبحثون عن معان جديدة. إنهم مكتشفو المشاكل كما أنهم واضعي الحلول في الوقت نفسه. لذا فإنهم يميلون إلى اختزال الحياة (و لاسيما القضايا السياسية والاجتماعية) في جملة مشاكل وحلول. كما أنهم يرغبون في الانخراط في عمليات تفكير غير مسبوقة، و يستهينون بالمعرفة التي تطورت بشكل منتظم عبر العصور.

ونتيجة لذلك، فإن الإرهاق من فوضى ما بعد الحداثة، جنبًا إلى جنب مع الرؤية  الثقيلة لواقع عصي على الفهم، يجعل الناس "لا يقرون في أجسادهم، مع عدم وجود قاعدة آمنة يمكن من خلالها التفاوض على تحدي وإنكار الطبيعة الحقيقية للعالم". لكننا قلنا أخيرا:" لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى". لا يمكن تحمل الهذيان لفترة طويلة. إن كياناتنا الحية أضعف من أن تتحمل هذه الجرعات الكبيرة من الغطرسة والبارانويا ".

في الواقع، فإن العقل البشري ماسوشي سرًا في شغفه المستمر بالحدود عندما تصبح الحرية أكثر من القدرة على تحملها بسبب التوق المتأصل إلى القيود التي يفرضها العقل على نفسه لحمايته. هذا يبرر استعصاء الإنسان على الاصطناع، وبحثه الدؤوب عن الحدود، والبدايات، والنهايات، والأنظمة والنماذج، ويسمح للمرء أن يستنتج أن الإنسان يحكم على نفسه بوعي أن يتنازل قليلا من أجل أن يبقى.

ومن ثم، فإن ما بعد الحداثة هي فترة انتقالية في البحث البشري عن المعنى، أذهلت العقل برؤيتها العنيده للواقع العصي على الإدراك والحقيقة، والتي يتم استبدال مفهومها بالكامل بدلالة غير محدودة وفوضوية عائمة حرة. هذا يقود المرء إلى حافة الجنون الفصامي، مع عدم وجود وسيلة للدخول الإجباري إلى لوجود، والذي يجب أن نكون جزءًا لا يتجزأ منه حتى ندعى بشرًا.

لهذا السبب، بدلاً من المحاولات غير المثمرة لتمثيل- العالم- كما -هو، يسعى المرء إلى تمثيل -العالم –كما- ليس -هو، وتأثيثه عن قصد بالمعنى وبناء مبادئه الجديدة والمعدلة بشكل إدماني. وهكذا، فإن الاحتفال والقبول المدرك للعالم المخلوق - كما -ليس- هو - مع كون الحقيقة الوحيدة المتاحة هي الحقيقة المركبة بشكل توليفي للسرد البشري، أصبح أجندة للمرحلة التالية من ما بعد الحداثة. ومن ثم، تتخلى البشرية عن الحرية اللامحدودة التي توفرها ما بعد الحداثة لصالح نوع من القمع المثمر، والقيود المفروضة طواعية، أو لنقل الأطر، بلغة راؤول ايشلمان، أحد منظري بعد ما بعد الحداثة،  بالإضافة إلى سرديات الحياة الذاتية لبعد ما بعد الحداثة.

في الواقع، ظهرت الحاجة إلى نظرية جديدة منذ عقود. وهكذا، فإن جميع النقاد الرئيسيين لما بعد الحداثة، على سبيل المثال، ليندا هتشيون و يورغن هابرماس و دوغلاس كيلنر وستيفن بيست وإرنستو لاكلو وشانتال موف، قد توصلوا في نهاية المطاف إلى إدراك واضح لنقصها وتقييدها ومؤقتيتها. يتفق معظم النقاد والمفكرين والباحثين على أن نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جداًر برلين وانهيار الحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية مع نهاية الثمانينات من القرن العشرين كانت أحد أهم أسباب نهاية ما بعد الحداثة. لم تستطع ما بعد الحداثة تجاوز ذاتها و انكفأت على نفسها من خلال النزعة الانعكاسية الذاتية والنرجسية المفرطة والنوستالجيا الذي حولت التاريخ إلى سلسلة من الذكريات المشتتة والغير مترابطة. إذ عندما يعيش الإنسان في الماضي لا يعود له مستقبل. لقد تحولت ما بعد الحداثة إلى سلعة تجارية يتم تسويقها وتوزيعها لغرض الربح المادي والتجاري وذلك من خلال وسائل الإعلام والجامعات ومراكز البحوث التي أنتجت أعداداً كبيرة جداً من الكتب حول هذه الظاهرة. وفي النهاية أصبحت هناك مؤسسة كبيرة جداً في المجتمع تدعى ما بعد الحداثة.

بدأت المواقف التهكمية التي كانت احدى استراتيجيات ما بعد الحداثة للنيل من الواقع والحقيقة في الستينيات، وبحلول التسعينيات اعتمدت تلك المواقف بطريقة أو بأخرى وعلى نطاق واسع من قبل الأكاديميين والكتاب وصناع السينما والفنانين. ولكن مع نهاية التسعينيات أصبحت تلك المواقف مبتذلة ومتوقعة. وتزايد الاعتقاد بأن ما بعد الحداثة في طريقها نحو الأفول وكان السؤال المطروح بقوة هو: ما الذي يمكن أن يحل محلها؟ كان واضحا أنه إذا ما كانت هناك ردة فعل تاريخية على ما بعد الحداثة، فلا بد أن تكون ضد التهكم أولا، وثانيا أن توظف نوعا من العلامة بحيث يتحقق نوعٌ من الوحدة بين العلامات والكائنات. بمعنى آخر كان علينا الخروج من التفكيكية وتداعياتها. تفرض الخبرة التاريخية لما بعد الحداثة باستمرار أننا محاطون بالتمثيلات بدلاً من الحقيقة، وأن ما قيل لنا قد تم تعبئته مسبقًا بواسطة تشويه أيديولوجي - وهذا يجعل أعمال التفكيك عادة عقلية ثابتة وحتمية.

وكان فريدريك جيمسون في( ما بعد الحداثية، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة )، على وشك تطوير نظام ليحل محل فوضى ما بعد الحداثة، وذلك لمنح عالم المجتمع الصناعي المنكسر معنى وإحساسًا بالغرض من الوجود. أكد جيمسون على السطحية العامة لما بعد الحداثة والحاجة غير المسبوقة للمعنى والعمق المعرفي. في هذا الصدد، جادل جيمسون بأن ادعاءات الحداثة، الثملة بالاكتفاء الذاتي الظاهر، أو كما يسميه، "الأنواع القديمة من المواقف السياسية"، لم تثر سوى "إحراج واسع النطاق"، وكما أن مسلمات ما بعد الحداثة التي تبدو متحررة، أو "سياسة رسمية"، "ضعيفة بشكل غير عادي".

وهكذا، تمكن جيمسون من اللحاق بجو التغيير الذي تجاوز حقبة ما بعد الحداثة. ومع ذلك، على الرغم من تفصيل تحليل شامل لعصر ما بعد الحداثة، ظلت رؤيته لعصر بعد ما بعد الحداثة غامضة ولم تتطور إلى أي شيء أكثر من مجرد توقع. كان جيمسون محقًا في الإشارة إلى الطبيعة اليوتوبية للحقبة القادمة، في نضالها من أجل الوحدة والجدوى، معرفا اليوتوبيا بأنها "كلمة رمزية معترف بها عمومًا للتحول المنهجي للمجتمع المعاصر". لهذا السبب، قدم جيمسون مفهومًا لـ "التسوية" - الوهم بإمكانية لم شمل نهائي بين الذات والكائن المنفصلين أو المغتربين جذريًا عن بعضهما البعض، أو حتى بعض "التوليف" الجديد بينهما؛ [...] لحظة من الوحدة يتم إعادة اختراعها في نهاية الزمن عندما يتم "التوفيق بين الذات والموضوع" مرة أخرى، لحظة "الكلانية" العتيدة. بلا شك، كان جيمسون من بين الأوائل الذين أكدوا استحالة وجود معنى كامل دون وحدة معينة بين الدال والمدلول. نتيجة لذلك، اشتبه جيمسون في ظهور حقبة جديدة من البنى الموحدة المعاد اختراعها حديثًا، "لتأمين تصور جديد" للعالم وانبعاث المعنى.  ولكن ما حدث فعلا وهو إعادة إحياء المعنى بناءً على مجموعة متفق عليها اجتماعيًا من كليات مبنية بشكل هادف.

بمعنى أنه حين لم نتمكن تجاوز تفكيكية ما بعد البنيوية، سنتظاهر بأننا قد فعلنا. وهكذا سنطوي صفحة ما بعد الحداثة عند النقطة التي تحطمت فيها البارانويا التي اختبرناها أثناء سنوات الحرب الباردة على وقع أحداث الحادي عشر  وبداية الحرب الكونية على الإرهاب.

 في الواقع، يبدو أن حقبة بعد ما بعد الحداثة هي عصر البناء الواعي / التوليف والالتزام بالكليات التي تم إنشاؤها عن عمد، وذلك للهروب من خطر الانحلال الفصامي في الكون الذي لا يمكن تصوره. قال نيلز بور ذات مرة: "من الخطأ [...] الاعتقاد بأن مهمة الفيزياء هي معرفة ماهية الطبيعة. [...] تتعلق الفيزياء بما يمكننا قوله عن الطبيعة ". ومن ثم، يمكننا أن نطلق على بعد ما بعد الحداثة حقًا اسم حقبة (ما يمكننا قوله  قصدا وطواعية)، زمن التنشئة الواعية وتصنيع كليات جديدة وسرديات حياة جديدة. نتيجة لذلك، تتصور بعد ما بعد الحداثة العلامة على أنها نسج من الخيال، أو قل فبركة متفق عليها، أو إعادة لم شمل الدال بالمدلول الذي شردته ما بعد الحداثة، وتهدف إلى البناء الواعي للحقائق التي صنعها الإنسان والتي تواجه حقيقة الخلق غير المفهومة بطريقة أخرى. وهكذا، فإن ما يلاحظه المرء هنا هو احتفال بعد ما بعد الحداثة بالحقيقة المطلقة المتولدة عن قصد للعلامة، عن لم شمل طال انتظاره لدال ومدلول، شيده البشر في توقهم إلى الوعد بالمعاني والحقائق الجديدة والمنقحة. بالإضافة إلى ذلك، تمنح الفبركة المتفق عليها للمعنى البشر أداة فعالة للتغلب على الشعور بالعقم الداخلي والضعف الذي تفرضه ما بعد الحداثة؛ لخلق معاني جديدة لإبراز كل صفاتهم الفردية؛ كي يشعروا أخيرًا بالقوة والأمان، ويفيضوا بالمعنى والشعور بالهدف. علاوة على ذلك، يزود التوحد القصري للدال والمدلول الناس بطريقة سليمة لتأكيد أنفسهم. لهذا السبب، فإن تركيب المعنى أداة للهروب من شرنقة الطرد المركزي للحداثة والحرية المعوقة لما بعد الحداثة. فضلا عن أنها آلية تسمح للفرد بقبول وجود الحقيقة المطلقة عن طريق مجموعة من روايات الحياة ومعانيها المركبة شخصيا. النقطة هنا ليست الوصول إلى الحقيقة المطلقة، ولكن القبول الواعي بوجودها المسبق. وعليه يمكننا أن نطرح نموذجا لتطور العلامة على النحو التالي (1) العلامة هي انعكاس للواقع الأساسي؛ (2) تقنع العلامة الواقع الأساسي؛ (3) تخفي العلامة المسافة من الواقع الأساسي؛ (4) تكشف العلامة عن عدم فهم الواقع الأساسي؛ (5) لا علاقة للعلامة بأي واقع على الإطلاق، كونها مفبركة تمامًا بالعقل البشري.  يوفر النموذج أداة مفيدة للتفكير في تقدم البشرية في سعيها إلى المعنى من مرحلة "التسمم" الحداثي و "الجموح " ما بعد الحداثي نحو الوعد بـ "التوليف " بعد ما بعد الحداثي. لتحقيق هذا الغرض، يجب على المرء أن يترك جانباً عصر أعوان ما بعد الحداثة الفصاميين والسحرة البارعين في الألعاب اللغوية والمغالطات ويلجأ إلى الوعد بلم شمل الدال و المدلول والمعنى المفبرك عن قصد لبعد ما بعد الحداثة.

على صعيد آخر، يتمثل الجانب الأساسي لعصر بعد ما بعد الحداثة في الانتشار الكامل للرأسمالية العالمية. إنها تمثل حقبة لا يوجد فيها ما هو "خارج" الرأسمالية. هذه هي الفترة التي لم تعد فيها الرأسمالية تنظر إلى الخارج بل إلى داخل مجالها، وبالتالي يكون توسعها تكثيفا وليس تمددا. بدوره، يصف جيفري نيلون هذا بأنه العامل الأكثر أهمية الذي يحول الحقائق الاقتصادية لما بعد الحداثة إلى منطق ثقافي شامل. يمكن أن تساعدنا المقارنة مع وصف جيمسون لما بعد الحداثة على أنها "المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة" في فهم التحول من ما بعد الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة. لأنه في تعريف جيمسون الحاسم لما بعد الحداثة، فإن الانتشار المتساوي للتوسع الرأسمالي هو الذي ينتج ممارسة ثقافية تساوي بشكل مطلق بين الفضاء والسطح؛ فهذا كل "ما لديك عندما تكتمل عملية التحديث وتذهب الطبيعة إلى الأبد". ومع ذلك، يدعي جيمسون أن هذا يفتح إمكانية "استهلاك التسليع المطلق كعملية". اكتملت هذه العملية الثانية (سواء على مستوى القبول العام لمنطق ما بعد الحداثة هذا، أو من حيث اكتمال الانتشار المعولم للرأسمالية). في المنطق الذي يصفه مايكل هارت وانطونيو نيغري في كتابهما ذائع الصيت والمترجم الى العربية (الامبرطورية) والذي حللته في كتابي (أبعد من فوكو) ، وجيفري نيلون في (المنطق الثقافي للرأسمالية في التو والآن).

هذا هو اشتقاق بعد ما بعد الحداثة من أفكار جيمسون. في حالة الرأسمالية المعولمة بالكامل، يكون تكثيف الأسطح الموجودة بالفعل هو المهم. يتطلب هذا المنطق زيادة رأس المال لما هو موجود: من خلال العلامات التجارية، من خلال إنتاج فائض القيمة، من خلال مضاعفة المعاني بدلاً من الأسطح. والوصف الاقتصادي لهذا هو"تكثيف التمويل. يصبح (كيف يمكنك أن تضغط للحصول على المزيد من الأرباح من الأشياء التي لديك بالفعل؟) هو  الممارسة الأساسية لهذا الاقتصاد الجديد المحفوف بالمخاطر". تمامًا كما أن للوقائع الاقتصادية للرأسمالية المتأخرة ارتباطاتها في الإنتاج الثقافي لما بعد الحداثة التي وصفها جيمسون، كذلك يلعب منطق التكثيف نفسه في الإنتاج الثقافي لفترة الرأسمالية المعولمة. إن المنطق المركزي للتكثيف (الذي حل محل توسع ما بعد الحداثة) هو الذي يوجه أشكال بعد ما بعد الحداثة. يمكننا التعامل مع هذا بطريقتين. إما من خلال إظهار أن بعد ما بعد الحداثة تعمل بمثابة تكثيف لمبادئ ما بعد الحداثة، والشواهد هنا كثيرة، أو أنها مدفوعة دائمًا بالرغبة أو الحركة نحو المكثف، بمعنى اختراعه بما يناسبها.

وتبعا لذلك، ربما تكون أفضل طريقة لفهم ما يحدث هو القول بأنه على الرغم من أن ما بعد الحداثة لا تزال موجودة، إلا أنها لم تعد الفكر الرائد. إن ذروة ما بعد الحداثة قد انتهت، وعلى الرغم من أن آثارها الثقافية لا تزال موجودة، إلا أنها لم تعد مصدر الرؤى الأقوى لفهم العالم الذي نعيش فيه. والسؤال مرة أخرى إذا انتهت ما بعد الحداثة، فكيف يمكننا الإشارة إلى اللحظة الحالية؟ تم اقتراح مجموعة من المصطلحات لتسمية الاتجاهات التي تزعم أنها تأتي بعد ما بعد الحداثة مثل الحداثة المفرطة، والحداثة المتذبذبة والحداثة المغايرة، إلخ. ومع ذلك، لم يحظ أي من هذه المصطلحات بقبول يوازي مصطلح " بعد ما بعد الحداثة"، والذي يبدو أنه اختزال مفيد - إن لم يكن غير إشكالي - لما يُفهم على أنه انعطافة عن ما بعد الحداثة. على الرغم من أن ما بعد الحداثة مصطلح غير واسع الانتشار مثير للسخرية إلا أنه مرتبط جدا مع "وظيفته" يرى جيفري نيلون في كتابه (بعد ما بعد الحداثية، المنطق الثقافي للرأسمالية في التو والآن) أن البادئة "بعد" الأولى تشير إلى روابط متواصلة لم تنقطع مع ما بعد الحداثة، واعتراف بطفرة في ما بعد الحداثة بدلاً من الإجهاز عليها. وبطبيعة الحال، فإن مصطلح " بعد ما بعد الحداثة" لا يخلو من صعوبات خاصة به. إذ من خلال إعادة استخدام مصطلحي "الحداثة" وما" بعد الحداثة"، تستدعي حركة بعد ما بعد الحداثة كل الدلالات ومشاكل التفسير التي تأتي مع هذين المصطلحين. لكن ربما يجب أن ننسى مسألة التسمية وأن نركز بدلاً من ذلك على السرديات المتموضعة للفن والأدب، على نقاط معينة في شبكة عالمية واسعة من الخبرة المعيشة وترجماتها إلى الفن والأدب. لا داعي للقلق من أنه ليس لدينا تسمية لعصرنا حتى الآن،إذ هناك أمر واحد مؤكد: ما بعد الحداثة التي بشرت بالعديد من النهايات، قد انتهت.




تعليقات

المشاركات الشائعة