ما بعد الحداثية : الحقيقة وسياسات التمثيل.

ما بعد الحداثية : الحقيقة وسياسات التمثيل.
أماني أبو رحمة.
         انبثقت ما بعد الحداثية كموقف فكري يركز على جوانب الحداثة التي تدعي الطبيعة العلمية والموضوعية للمعرفة المؤسسية. قدم أرنولد جوزيف توينبي هذا المصطلح في التحليل الاجتماعي السياسي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، للإشارة إلى السخافة، والنسبية، واللاعقلانية والقلق التي تحفل بها ادعاءات عالمية القيم والقوانين التي اكتشفتها المقاربات العلمية الحداثية للمعرفة. بل وتعتقد ما بعد الحداثة أن الحداثة في المنظور الاجتماعي والسياسي كانت "انعطافة تاريخانية historicist turn"[1]. وُظفت فلسفة التاريخ في القرن التاسع عشر التي نشرت القوانين والقيم العالمية والحتمية التي تعمل خلف سيرورة التاريخ، وظهور حقل التاريخ لتعزيز ادعاءات المعرفة التاريخية الموضوعية والعلمية، دليلا على دور التاريخانية الأساسي في تطوير مفهوم الحداثة في القرن التاسع عشر.
يدفع أفق "ما بعد الحداثة"[2] ما سبق تطويره جزئيا من الناحية المفاهيمية في أفق الحداثة إلى حدوده القصوي. تحمل الإشارة إلى ما بعد الحداثة حرفيا معنى (العقب ) بالنسبة للحداثة. ليس بالمعنى الزمني، ولكن بدلاً من ذلك، فإنها تشير إلى طريقة مختلفة فيما يتعلق بالثيمات التي طرحتها الحداثة، وهذه الطريقة ليست معارضة (مضادة للحداثة) ولا هي أبعد منها (فائقة الحداثة).[3] ويرد الأفق المفاهيمي لما بعد الحداثة بطرق مختلفة، يمكن تلخيصها في بعض العناصر: انعدام الثقة في القدرة على معرفة حقيقة عالمية أو حتى نسبية حول الإنسان والمجتمع، وإنكار وجود ما هو قابل للمعرفة فيما يتعلق بنظام أو الوجود الأساسي للبشر (anti-foundationalism وantiessentialism)، ورفض كل نهج أصولي وازدراء التفسير النهائي للحقيقة، الذي قاد إلى الاحتفاء بالتعدد أو الاختلافات، واللا ـ معرفية بوصفها أزمة العقل في مواجهة قبول التشظي المعقد والعرضي للحقيقة. هذه المقدمات الفلسفية تؤدي إلى سلسلة من النتائج المفاهيمية المتمثلة في فكر ما بعد الحداثة: خلخلة الهياكل الفلسفية للفكر الغربي (ما بعد البنيوية)، وتفكيك التفسيرات أو السرديات الكبرى التي تدعي معرفة الحقيقة واختزالها ب "شبكة مفككة" من العلامات التي تتغير دائما بصورة ديناميكية تجعل المعنى بعيد المنال (اللا -بنائية)، واللا ـمركزية. وهذا يعني الدفع إلى الأطراف ما كان يعتقد أنه مركزيا، واللا ـ تسلسلية لما كان يعتبر أعلى / أدنى، وتمييع الواقع، والتأكيد على السلطة بوصفها سلطة إنتاجية ( وليس "السلطة على" لكن "السلطة لأجل"، وتحديدا لأجل التكوين والتركيب، السلطة المنتجة وفقا لفوكو). يأتي ذلك في سياق رؤية متشككة في التاريخ.[4]ليس هناك مدرسة نظرية ما بعد حداثية متماسكة، ولا من يوظف كل أو فقط منظورات ونظريات ومناهج ما بعد الحداثة. يصف كالوم بروان الوضع قائلا" لا يمكن لأحد أن يكون ما بعد حداثي كل الوقت "،[5]ولكن جميع ما بعد الحداثيين يتفقون على منظورات بعينها: التشكيك في السلطة والتسلسل الهرمي اللذين ترتكز عليهما التجريبية وينظرون إلى فكرة الحداثة والتقدم بوصفها خرافة وضربا من ضروب الوهم الذاتي.[6]

         يبدأ بروان سرده عن ما بعد الحداثية في كتابه (ما بعد الحداثية للمؤرخين، 2005)، باقتباس عن نيتشه، عبارة من زمن قبل أن تصبح الحداثة حداثة حقيقية تلخص ما سنطرحه هنا، "لا يوجد حقائق قائمة بذاتها. ومن الضروري أن نبدأ دائما بتقديم معنى من أجل أن يكون وجود الحقيقة ممكنا".[7]
         هنا يمكننا ان نستخلص مبدأين مهمين لما بعد الحداثية تبعا لبراون: أولا، إن "الحقيقة عصية على التمثيل في الأشكال الإنسانية للثقافة ". وثانيا، "وبسبب عدم القدرة على تمثيل الحقيقة، فلا يوجد أي تناول رسمي ذي سلطة لأي شيء".[8]
         ربما أن بروان لا يقصد ب ( غير القابل للتثميل ) أن المرء لا يمكنه ابتداع تمثيل للواقع، ولكن أن التمثيلات التي نبتكرها لن تتوافق مطلقا مع ما تحاول تمثيله. ولذلك لا ينبغي لأحد أن يُمنح احتكار نقل الحقيقة عن الواقع للآخرين. أما المبدأ الثاني الذي يمثل جوهر ما بعد الحداثة فليس إلا صدى لأفكار كانط" لا يمكننا أن نعرف شيئا عن الشيء في ذاته".
         لذلك فإن الأساس الإبستمولوجي لما بعد الحداثة هو المبدأ الفكري القائل إن "الحقيقة" لا يمكن تحقيقها من خلال البحث التجريبي لعدة أسباب: أولها أن الواقع هائل جدا ومعقد وبالتالي فهو عصي على التمثيل على ما هو عليه. وثانيا، لأن الحقيقة تنطوي على ذاتية، وثالثا، لأن تمثيل الواقع محدد (بعلامات signs ) وضعها الإنسان لا تتطابق مع الحقائق التي تنقلها. أما أهم التداعيات الأخلاقية الأساسية لذلك فهو رفض المبادئ الأخلاقية المستخلصة من البيانات التجريبية. وبالنسبة للمؤرخين فإن هذا يعني رفض الإدعاء بأن التاريخ يجب أن يعلمنا الأخلاق[9]. يرى براون في ذلك رفضا لواحد من مبادئ التنوير. ولكن سواء كان صحيحا أم لا، فإنه يشبه بشكل لا لبس فيه فكرة الفيلسوف التنويري البريطاني ديفيد هيوم التي عرفت لاحقا ب "قانون هيوم" تكريما له ـــــــ والتي تقول إن "يجب" لا يمكن أن تشتق من "يكون" بمعنى أن ما يجب أن يكون عليه الحال لا يمكن استنتاجه من ما هو الحال بالفعل[10]. ولكن ما بعد الحداثيين لا يرفضون تأسيس الأخلاق على البحوث التجريبية بسبب الفرق المهم بين البيانات الوصفية والمعيارية والربط غير الواضح بين الاثنين كما أشار هيوم فحسب، ولكن الأهم من ذلك بسبب أن نسبية ما بعد الحداثية الراسخة ترتكز على أن الأخلاقيات تتغير وفقا للعصر والثقافة، وأن ما نعتقد أنه حقيقة مفتوح في الواقع للنقاش، لأن الحقائق ليست إلا تمثيلات الأحداث الماضية وليست الحقائق ذاتها.[11] ما بعد الحداثية ليست ايديولوجية، ولكنها طريقة لفهم كيف يكتسب البشر المعرفة من العالم، وكيف ينقلون هذه المعرفة وكيف يختبرها الفرد الذي يبني هويته من خلال هذه السيرورة وانعكاس ذلك كله على المجتمع. أما المؤرخون فإن جل اهتمامهم هو كيف تتشكل وتعمم المعرفة والهوية على مر العصور والأماكن[12].





[1]  Shafique, Muhammad; Javed Akhtar, Muhammad. 'Limiting the Authority of Historical Knowledge': Postmodern Critique of 'Historicism' and 'History' .Pakistan Journal of Social Sciences (PJSS); 2012, Vol. 32 Issue 1, p138..
[2] On the postmodern concept of gender L. NICHOLSON, Interpreting Gender, ‘‘Sign’’, 1994, 20 (1), pp. 79–105.
[3] وظف مصطلح "ما بعد الحداثة" لوصف الحالات التالية: *بعد الحداثة: حيث يصنف، ويفترض، ويمد الميول الموجودة بالفعل في الحداثة، وليس بالضرورة في سلسلة متوالية زمنية صارمة، أو أنه يعالج الأسئلة والمشاكل الضمنية في الحداثة دون انقطاع عن افتراضاتها الأساسية. *ضد الحداثة: تخريب، ومقاومة، ومعارضة، أو مواجهة ملامح الحداثة. *ما يكافئ "الرأسمالية المتأخرة": ثقافة تهيمن عليها ما بعد الصناعة، والاستهلاك، والرأسمالية المتعددة والعابرة للحدود الوطنية، أو ما يمكن أن نطلق عليه (بدايات العولمة.) * الحقبة التاريخية التالية للحداثة. علامة الفترة الزمنية التاريخية، التي تعترف بالتحولات الثقافية، والإيديولوجية، والاقتصادية، دون مسار جديد (انتصار) أو تفضيل قيمي. *الانتقائية الفنية والأسلوبية (ما بعد الحداثة الجمالية): تهجين الأشكال والأنواع، والجمع بين أشكال ومصادر الثقافة "العالية" و "الشعبية " الثقافية، وأساليب خلط ثقافات أو فترات زمنية مختلفة، ونزع التاريخية واعادة سيقنة الأساليب في الهندسة المعمارية والفنون البصرية والأدب والسينما والتصوير الفوتوغرافي. *ظاهرة "القرية العالمية" : عولمة الثقافات والأعراق، والصور، ورأس المال، ومنتجات "عصر المعلومات" وإعادة تعريف هوية الدولة القومية، التي كانت الأساس في العصر الحديث. ونشر الصور والمعلومات عبر الحدود الوطنية، والشعور بتآكل أو انهيار الهويات القومية واللغوية والعرقية والثقافية؛ والشعور بالخلط العالمي للثقافات على نطاق لم يكن محددا لمجتمعات عصر ما قبل المعلومات.
[4] ينظر : أماني ابو رحمة (2014). التحولات الفلسفية نحو بعد ما بعد الحداثة. أفق يتباعد : من الحداثة الى بعد ما بعد الحداثة،. دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق:261-277.

[5] Callum G. Brown, Postmodernism for Historians (Pearson Education Ltd. 2005).p:10-11.
[6] المصدر السابق:30
[7] المصدر السابق:4
[8] المصدر السابق:6-7
[9] المصدر السابق:77-10
[10] Hume, David, A Treatise of Human Nature: http://www.gutenberg.org/ebooks.
[11] Callum G. Brown – Postmodernism for Historians. pp. 144-145. 
[12] المصدر السابق:9

تعليقات

المشاركات الشائعة