مشروع الحداثة بين ليوتار وهابرماس.

مشروع الحداثة بين ليوتار وهابرماس.
أماني أبو رحمة
        يطرح ليوتار تصوره عن ما بعد الحداثة في كتابه الشهير (حالة ما بعد الحداثة : تقرير في المعرفة)  بوصفها حركة تتكرر دوما في التاريخ وتحدث بالتتابع والتوالي مع الحداثة. فالتاريخ بالنسبة لليوتار هو حلقات من متتاليات الحداثة وما بعد الحداثة. ففي الماضي كانت هناك مراحل تاريخية تتماهى مع وصفنا للحداثة تسود فيها النزعة الوثوقية وتبدو فيها القضايا الإشكالية شديدة الوضوح والتمايز، تعقبها مراحل تتماهى مع وصفنا لحالة ما بعد الحداثة، حيث تهيمن الميول العدمية ويتزعزع الإيمان بالقيم المطلقة والمتعالية، وتطرح كل المسلمات للمساءلة والتشكيك والبحث الفلسفي. وتمثل الحداثة مرحلة ثبات واستقرار، بينما تمثل ما بعد الحداثة مرحلة تغير وتبدل وتحول.  وبهذا التوصيف ذو البعد التاريخي يعطل ليوتار العلاقة الجدلية بين ما بعد الحداثة واللحظة التاريخية التي تمر بها الرأسمالية المتأخرة. يبدو هذا التوصيف محايدا وموضوعياً في نظرته لتاريخ تطور الحضارة الغربية، لكنه يتعامى عن حقيقة كون ما بعد الحداثة بميولها العدمية ونزعتها التشكيكية المتطرفه قد تكون تعبيراً عن أزمة المجتمعات الغربية في لحظة معينة، وهي تنتقل من مظاهر الرأسمالية التنافسية أو الاحتكارية إلى الرأسمالية العالمية أوالمتعددة الجنسيات بعد الحرب العالمية الثانية، وما يمثله هذا الانتقال من تحول جذري من المجتمع الصناعي البرجوازي إلى المجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع الخدمات أو المجتمع الاستهلاكي. وبذلك يقترب من التيار اليميني المحافظ الذي يحاول أن يعزل النشاط الثقافي في المجتمع عن النشاطين الاقتصادي والسياسي. ويؤكد ليوتار أن مرحلة ما بعد الحداثة الحالية قد شهدت نهاية أسطورة مجتمع التقدم والليبرالية الذي سيقود الإنسانية جمعاء إلى مرحلة التحرر المطلق والرخاء والرفاهية تحت راية العلم والعقل، وتفكيك لوهم إمكانية تأسيس أخلاق أو أفكار إنسانية ذات طبيعة شمولية كونية تتخطى الاختلافات القومية والعرقية والإثنية والثقافية. وقد كشف فلاسفة ما بعد الحداثة أن مثل تلك الأوهام ليست سوى تعميمات غير مسوغة ولا موضوعية لمجموعة من الأفكار والدوافع والرغبات التي عبر عنها الرجل الغربي الأبيض الذي يعد نفسه النموذج الحقيقي لما يجب أن تكون عليه الإنسانية.  يوضح ليوتار أن أهم القضايا التي توصل إليها العقل ما بعد الحداثي هي أننا ربما نتمكن من إدراك صورة الواقع الخارجي والحقيقة الموضوعية المفارقة ولكن يستحيل علينا التعبير الكامل عن هذا الواقع من خلال اللغة أو أي وسيلة تواصل إنساني أخرى. وهنا يعلن ليوتار فشل اللغة في تحقيق وظيفتها التقليدية التي وضعتها الحداثة لها بوصفها وسيلة للتواصل وتداول المعلومات والأفكار. لقد اختفى الواقع بصورة نهائية في ما بعد الحداثة ولم يعد هنالك شيء يجسر الهوة بين وعينا وبين الواقع الخارجي. ولم يبقى لنا إلا سيل من الصور والرموز والإشارات الغامضة المفتوحة الدلالات إلى ما لانهاية. بينما تحولت اللغة إلى ألعاب لفظية لا تحمل معنى بذاتها ولا تملك وظيفة محددة. 
يمكننا أن نتميز ثلاث سمات أساسية ومتشابكة في تنظير جان فرانسوا ليوتار لما بعد الحداثة: الطعن في ما يسميه "السرديات الكبرى" التي أفسدت منذ زمن سحيق النظرية الاجتماعية والخطاب الفلسفي؛ ورفض ما يصفه بالذات الشمولية والعقل الكلي، ومن ثم فإن ظهور ما بعد الحداثة يعلن نهاية العقلانية. الوضع الجمالي ما بعد الحداثي عند ليوتار هو التسامي، والذي يربطه بالجماليات الكانطية. والسرديات الكبرى بالنسبة له هي كل فلسفات التاريخ التي تحاول إضفاء الطابع المطلق على المعرفة البشرية من خلال تقديم تفسيرات محددة للمجتمع. على الرغم من أن الهدف غير المعلن هو الماركسية على وجه التحديد.
حمًل ليوتار هيجل المسؤولية عن ذلك، لأنه هو الذي وضع الهيكل الحديث للنظرية الجدلية. ويعتقد ليوتار أنه بسبب الطبيعة الكلية للماركسية في مجال التاريخ، عانى القرن العشرين من وباء الأنظمة الشمولية. فالنظرية الجدلية بالنسبة له تحاول تقديم تفسيرات كلية للطبيعة البشرية. وبالتالي فلا بد من معارضة فكرة "الذات الشمولية" والتي وفقا لسرديات معينة يجب أن تكون قادرة على تحقيق تحول بلا هوادة. في الواقع، فإن ما بعد الحداثة على طريقة ليوتار تعلن أيضا اختفاء التاريخ. ومن الواضح أن مشروع ليوتار ما بعد الحداثي ينتمي إلى الأجواء السياسية نفسها للحرب الباردة الثانية. ولهذا السبب أيضا جاء نقد تيري إيغلتون لليوتار من منظور إبيستيمولوجي وسياسي.
يرى ألبرشت ولمر عدم قابلية مشروع ما بعد الحداثة كما نظر له ليوتار للبقاء.  بالنسبة لويلمر فإن نظرية ليوتار عن ما بعد الحداثة تعني رفض "مشروع الحداثة، ومشروع التنوير الأوروبي، أو مشروع الحضارة اليونانية والغربية برمته". 
هابرماس: في مديح التنوير والحداثة.
ومن أجل الحيلولة دون ذلك تدخل يورغن هابرماس في النقاش حول ما بعد الحداثة. في نقده لليوتار، يشمل هابرماس أيضا ميشيل فوكو، وجاك دريدا وغيرهم من الفلاسفة الباريسيين. في المقام الأول، سعت مادة هابرماس، (الحداثة مقابل ما بعد الحداثة) ، للدفاع عن الإرث الفلسفي للتنوير الأوروبي الذي نجح في توسيع عملية العقلانية في العالم الحديث. وقد تواصل هذا التقليد من التنوير / وارتبط بالإرث السوسيولوجي الكلاسيكي لماكس ويبر. قد حقق كل من فلاسفة التنوير الفرنسيين وكانط عقلانية المعرفة البشرية بفصلها إلى ثلاثة مجالات: مجالات العلم والفن والأخلاق. على الرغم من أن هذه (المجالات) مترابطة مع بعضها البعض، إلا أن لكل منها منطقها الداخلي. من خلال هذا الانفصال، تم فتح مجال المعرفة البشرية لاستيعاب العمليات الاجتماعية الحداثية المعقدة عقلانيا. وباختصار، فإن المفكرين التنويرين أظهروا منطق عملية العقلانية في الإنسان والتاريخ والمجتمع. وكان هذا بلا شك هو الإسهام الكبير لكارل ماركس. وقد تحقق ذلك من خلال سرديات كبرى ومسارات معقدة سعى ليوتار للتراجع عنها.
بطريقة ما، كان هابرماس يدافع عن السيرورة العقلانية التي حققتها الرأسمالية الحداثية. وعلى الرغم من أن دريدا وليوتار وفوكو سعوا إلى التراجع عن إنجاز المشروع الحداثي كل على طرقته الخاصة، إلا انهم ورعم الخلافات بينهم ارتبطوا معا بسياسات ابستمولوجية رجعية، دفعت هابرماس لوصفهم جميعا بالمحافظين الجدد.  ويرى هابرماس أن رجعيتهم تكمن في حقيقة أنهم نجحوا في تحقيق انهيار المادية التاريخية في فرنسا. انحازت ما بعد البنيوية كما يطرحها دريدا وفوكو وما بعد الحداثة كما يطرحها ليوتار إلى السياسات الرجعية التي تسود في فرنسا اليوم. ليس فقط هابرماس من قال بذلك، فقد وصف بيري أندرسون في (مسارات المادية التاريخية) باريس قائلا: "باريس اليوم هي عاصمة الرجعية الفكرية الأوروبية، بالطريقة ذاتها التي كانت عليها لندن قبل ثلاثين عاما". 

وعودة إلى المسألة التي أثارت هابرماس: من الواضح أن العرض الخاص لهابرماس يثير بعض التعقيدات. يرى بيتر برجر، أن مشكلة هابرماس هي عدم تحديد نوع الوحدة التي تربط مجالات العلم والأخلاق والفن: ما إذا كانت وحدة عضوية كتلك الخاصة بالمثالية الذاتية الهيغلية أو وحدة اصطناعية تبدو واضحة في المثالية الموضوعية الكانطية.  هذا التحديد من وجهة نظر بيتر برجر ليست مسألة تافهة لأنه يحدد فهم المرء للتاريخ والأبستمولوجيا. يقول لوسيو كوليتي في (هيجل والماركسية)  إن الاختيار بين هيجل وكانط أساسي في تحديد فهم الفرد لهياكل الموضوعية والتدخلات في العلم. وقد اعترف هابرماس مؤخرا بأن النقد اللـ ـ عقلاني لإرث التنوير من قبل ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في (جدلية التنوير) هو ما مهد للاعقلانية الفلاسفة الباريسيين.  كانت الكتابات الأخيرة ليورغن هابرماس تحاول تدارك العواقب الكارثية لهذا الإرث الفكري لمدرسة فرانكفورت، الذي يعد هابرماس آخر أعضائها العظماء.

تعليقات

المشاركات الشائعة