الذات الإنسانية والممارسة السردية.

الذات الإنسانية والممارسة السردية.
أماني ابو رحمة.
إن تأكيد هابرماس على إمكانيات التواصل البين ذاتي ضمن الفضاء الاجتماعي العام وتصوره للغة القائم على أساس الأخذ بعين الاعتبار المستوى التداولي للخطاب، ويفرض تجاوز إشكالية التشكيك في جميع الأنظمة السردية كما روجت لها ما بعد البنيوية. فلم يعد من المفيد إعادة إنتاج وتداول مقولة دريدا الشهيرة "لا يوجد شيء خارج النص" والتي تجعل من محاولات البحث عن المصداقية والوثوقية والمعنى جهد عبثي لا طائل من ورائه. وفي المقابل يحضر تصور الفيلسوف الفرنسي البارز بول ريكور حول السرد والممارسة السردية وعلاقتها بالهوية والزمان والذات الآخر، تلك العلاقة التي طالما سعت ما بعد البنيوية إلى نفيها أو تقويضها.
يتجاوز مفهوم الممارسة السردية مفهوم السردية البنيوية. فالسردية وفق التصور البنيوي وما بعد البنيوي، ليست ممارسة، كما أنها ليست فعلا ناتجا عن ذات واعية، إنها بناء هيكلي قابل للتمظهر بوصفه موضوعا منقطع بالضرورة عن الهوية وعن الزمن وقابل للتفكيك إلى وحدات وأجزاء لغرض الدراسة والتحليل. لقد أقصت الدراسات البنيوية وما بعد البنيوية الزمان والهوية من دائرة اهتماماتها بل وعدتهما من الأوهام النظرية المترسبة عن الدراسات الرومانسية في الأدب والفلسفة. أما اقتران السردية بالممارسة فهو إحالة إلى مجال اصطلاحي مغاير تماما، ومنهج نقدي مختلف بدء بالتبلور النظري على يد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. فالسرد عند ريكور ليس بنية جامدة بل ممارسة وتجربة بالمعنى الواسع للكلمة. يقول ريكور "تتمثل فرضيتي الأساسية في أن بين فعالية سرد قصة، وبين الطبيعة الزمانية للتجربة الإنسانية، تعالقا ليس عرضياً، بل يمثل شكلا ثقافيا متبادلا من أشكال الضرورة. بحيث يصير الزمن إنسانيا، فيصاغ بصيغة سردية، ويكتنز السرد بمعناه الكامل حيث يصير شرطا للوجود الزماني". وضمن هكذا تصور للسرد تعود الذات الإنسانية لتحتل موقعا مركزيا في الفعل السردي بحيث يعني إقصاءها إلغاء إمكانية وجود السرد ذاته.
إن الممارسة السردية تتوسط المسافة الكامنة بين الذات والعالم الخارجي. فالحياة "ظاهرة بيولوجية" كما يقول ريكور. ويذهب الفيلسوف باركلي إلى "أننا نرى المظاهر وحدها، لا الخواص الواقعية للأشياء ". وبذلك تصبح الممارسة السردية هي ألفة الذات مع عالم الأشياء والظواهر عبر عملية خلق معاني ودلالات لتلك الظواهر وإدخالها ضمن مجال الوعي الفردي ومن ثم الجمعي، وعبر هذا النشاط تتحقق الذاتية وتنوجد داخل الزمن. إننا نتحدث هنا عن فعل وجودي تقوم فيه الذات بأنسنة العالم وخلق وسط غير مادي يتم تواصلها فيه مع غيرها من الذوات الأخرى فيما يعرف بالثقافة. وتصف السيميولوجيا الثقافة بوصفها منظومة من الأشكال الرمزية التي يصوغها الوعي البشري الجمعي، وهذه المنظومة ذات طبيعة جدلية وتكونية مرتبطة بالممارسة الإنسانية وليست سكونية جامدة. وهذا ما يؤكده الفيلسوف والناقد الايطالي أمبرتو إيكو في كتابه(العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه)عندما يتحدث عن أهمية الممارسة الإنسانية في إنتاج السنن الثقافية: "ذلك أن السنن الثقافية (الأشكال الرمزية) لا تنمو خارج ملكوت الممارسة الإنسانية، فالعلامات هي إفراز للفعل المفرد والجماعي، وليست كما سلوكيا مودعا في ذاكرة الانسان خارج تفاعله الحي مع محيطه الطبيعي والإنساني".
 ويأتي هذا التوصيف السيميولوجي للثقافة على الضد من تصور رائد البنيوية، الفيلسوف ليفي شتراوس للبنية الثقافية للجماعة البشرية بوصفها منظومة جامدة تقع خارج حدود الزمان والتاريخ. ينزع الوعي البشري أمام عالم الظواهر والأشياء الخارجي غريزيا إلى فعل التأمل الذي يتجسد قصديا في محاولات الفهم والتأويل وإضفاء المعنى والترابط الدلالي. ثم يتجه هذا الوعي الفردي للتعبير عن خبرته من خلال الممارسة السردية والتي تتخذ طابعا تواصليا بالضرورة. والغاية من تلك الممارسة هي خلق وسط ثقافي لمجموعة من الذوات تتواطأ وتتلاقى ضمن الوسط الثقافي الواحد لخلق وحدة وجودية بشرية تسمى بالمجتمع..
لا تستطيع الطبيعة الإنسانية التعامل مع عالم الظواهر الفيزيائية المستقلة عن الوعي والخالية من المعنى. ولذلك يلجأ الإنسان، عبر السرد، إلى إدخال تلك الظواهر إلى مجال الوعي البشري ووضعها في سياق معين يضفي عليها معنى ودلالة ما. إن السرد هو إثبات لوجود الذات أمام عالم الأشياء وتأكيد لهويتها عبر توظيف الصوت والزمن. وقد تجسدت هذه الممارسة عبر التاريخ البشري بمظاهر متعددة ظاهريا، غير أنها متماثلة جوهريا، مثل الأساطير والخرافات التي ارتبطت بعلاقة الإنسان الأول مع الطبيعة ومحاولة إضفاء معاني ودلالات على تلك الظواهر من خلال ربطها بالآلهة المتعالية، وبالمنظومة الدينية التي حلت محل الأساطير. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار المدارس الفلسفية على تنوع اتجاهاتها وتمايزها ممارسات سردية خالصة تسعى لفهم الواقع وإعادة إنتاج ذلك الفهم لغويا لغرض تداوله وبحثه.










تعليقات

المشاركات الشائعة