فوكو: تشكيلات السلطة/المعرفة.(2)

فوكو: تشكيلات السلطة/المعرفة.(2)
أماني أبو رحمة.
اهتم فوكو، أيضاً، بدراسة ما يعرف بالتشكيلات المعرفية والبحث في علاقة المعرفة بالسلطة. يؤكد فوكو على أن المعرفة وما يتم ادراكه بوصفه الحقيقة يرتبطان ويتحددان بالشروط التاريخية الموضوعية لإنتاجهما وتشكلهما في مجتمع من المجتمعات. والمعرفة عند فوكو هي امتلاك القوة لإخضاع الآخرين وقمع خطاباتهم حول طبيعة المعرفة والحقيقة في حقبة من الحقب. فالمعرفة تعبر عن محصلة صراع القوى في الفضاء الاجتماعي. ويستعير فوكو هذا التصور من فلسفة نيتشه ومفهومه حول (إرادة القوة). ويقف هذا التصور للمعرفة وعلاقتها بإرادة القوة والهيمنة ضد تصور الفلسفات الإنسانية وفكر عصر الأنوار والحداثة الغربية والتي تجد في المعرفة السبيل الوحيد نحو التحرر الإنساني والارتقاء بالجنس البشري نحو مستويات عالية من الثقافة والعلم والحضارة تسهم في إشاعة قيم الخير والعدل والحق والمساواة. فلا وجود لمعرفة محايدة وموضوعية ومطلقة ولا لحقيقة كونية صالحة لكل زمان ومكان. تكشف آركيولوجيا المعرفة عند فوكو أن المعرفة تتشكل من سلسلة من الطبقات تتراكم عبر الممارسة التاريخية ومحصلة الصراعات الاجتماعية، و" تحدد كل واحدة من هذه الطبقات شروط إمكان قيام نمط معين من الأفكار كانت له الغلبة في مرحلة من المراحل ". فالمعرفة لا تتشكل بمعزل عن سلطة تاريخية واجتماعية تستخدمها لفرض هيمنتها على الفضاء الاجتماعي، ولا تستطيع السلطة العمل إلا من خلال معرفة تحمل خطابها الخاص بها والذي يعكس مصالحها ورغباتها وطموحاتها. فالسلطة ضرورية لظهور المعرفة تماما كما أن المعرفة أساسية لتكون السلطة. وبذلك لا يمكن البحث في المعرفة بدون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة السلطة التي ترتبط بها ولا دراسة السلطة بمعزل عن المعرفة التي قامت بإنتاجها والترويج لها. يؤكد فوكو على أن الحقيقة في أي حقبة تاريخية معينة هي محصلة مركب المعرفةـ/السلطة. وهكذا يعمل فوكو على تجريد المعرفة والحقيقة من أي بعد أخلاقي أو مضمون ميتافيزيقي متعال. فقد تحولت العلوم الحديثة مثل الطب وعلم النفس والتكنولوجيا إلى أدوات للضبط والسيطرة على المجتمعات وقمع وإقصاء إمكانيات قيام معرفة مغايرة تهدد بتفكيك خطابات السلطة. ومع التحول التاريخي من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة تبدلت ممارسات السلطة من القهر والقمع وكل مظاهر القوة المجردة والمادية إلى الضبط والسيطرة من خلال الكبت. أي تحويل القوة والقهر من ممارسة خارجية إلى سلوك ذاتي داخلي تمارسه الذات على نفسها وإلا تمت معاقبتها ووصفها بالشذوذ والجنون والإجرام.

لم يهتم فوكو بدراسة الماهيات كما تفعل الفلسفة الغربية التقليدية، ولكنه انشغل بالبحث عن الدلالات والوظائف التي تكتسبها الماهيات من خلال التداول في مجتمع معين وضمن سياق تاريخي محدد. ويوضح كيف تتنازع عدة قوى اجتماعية في الفضاء الاجتماعي من أجل الحصول على السلطة والهيمنة. وعندما تتمكن قوة من هذه القوى الاجتماعية من الوصول إلى مراكز السلطة تسعى لفرض نمط معين من الخطابات التي تتوافق مع تأكيد وترسيخ سلطتها. ويعمل الخطاب على تحديد المعاني والدلالات التي ترتبط بماهيات ومفاهيم معينة، مثل الخير والحق والجمال والمنطق والعلم. فيتم تحميل دلالات وقيم إيجابية مثل الجمال والخير والعقل على كل ما يتوافق مع مصلحة السلطة ورغباتها، ودلالات سلبية تحيل إلى القبح والشر والجنون والشذوذ على كل ما يتعارض مع خطاب السلطة. وللمحافظة على مركب المعرفةـ السلطة يعمل خطاب السلطة على ضبط عمليات توليد وإنتاج المعني والدلالات داخل المجتمع وفي اللحظة التاريخية الراهنة. فلا يوجد هناك نشاطات معرفية تتم خارج حدود خطاب السلطة. ويصادر خطاب السلطة دلالات الماضي ورموزه لصالحة ويضفي على حركة التاريخ سرديات تأويلية تتماشى مع طموحاته ورغباته. وتكتسب الدلالات والمعاني المرتبطة بخطاب السلطة قيمة قدسية تمنع إمكانية ظهور تأويلات أخرى من خلال آليات التحريم بالإضافة إلى القمع والتهميش والكبت. ويرى فوكو بأن العلم الحديث يحاول معرفة كل شيء عن جسد الإنسان من طبيعة ووظائف وحركات وسلوك وطرائق التفكير تحت ذريعة المعرفة والبحث العلمي، بينما الدافع الحقيقي لذلك هو الوصول إلى أساليب علمية جديدة للسيطرة على هذا الجسد البشري وإخضاعه للسلطة واستغلال إمكانياته تجاريا واقتصاديا وعسكريا، وينطبق الأمر ذاته على الطبيعة ومواردها.

تعليقات

المشاركات الشائعة